على الرغم من التوجه اليميني للعديد من الحكومات الأوروبية في السنوات الأخيرة، إلا أن ثمة معضلة رئيسية ولدت من رحم الأزمة في غزة، تجلت في الحرج الأخلاقي، الذي يواجهونه في اللحظة الراهنة، جراء الصمت أو ربما التواطؤ مع ما يرتكب من انتهاكات من قبل قوات الاحتلال في القطاع منذ ما يقرب من عامين، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد، ربما أحدثها سلسلة الاستقالات المتواترة التي ضربت الحكومة الهولندية في الأيام الماضية، في مواجهة احتجاجات شعبية، والتي كشفت حالة العجز الدولي في مواجهة جرائم الإبادة الجماعية، سواء عبر القصف أو التجويع، مرورا بالتهجير القسري الذي تمارسه حكومة بنيامين نتنياهو بهدف تصفية القضية الفلسطينية وتجريد الدولة المنشودة من أهلها.
ولعل الحديث عن التيارات اليمينية في الغرب، وتماهيها الأيديولوجي مع حكومة نتنياهو، يمثل حجر عثرة أمام طموحاتهم السياسية، التي باتت قريبة للغاية، مقارنة بالسنوات الماضية، في ضوء رغبتها في السيطرة على القارة العجوز، خاصة مع صعود ترامب للمرة الثانية إلى البيت الأبيض، في ضوء ما يحملونه من شعارات تضفي قدر كبير من الشعبية لبرامجها، حيث تدور في معظمها حول تقديم الأولوية القصوى للمصلحة الوطنية، بعيدا عن الانتماءات الأخرى، في إطار التحالفات القارية، في صورة الاتحاد الأوروبي، أو الدولية، تحت مظلة المعسكر الغربي، خاصة وأن هذا التماهي مع الدولة العبرية، يتعارض بصورة كبيرة مع مواقفهم تجاه قضايا دولية أخرى، وفي القلب منها أوكرانيا.
الخطاب اليميني في أوروبا، والقائم في الأساس على تحقيق أكبر قدر من الاستقلالية في القرار الوطني، مقابل الموقف من غزة، يمثل ثغرة كبيرة لدى الحكومات ذات الصبغة اليمينية، حيث بقت المواقف تجاه إسرائيل، الحليف المدلل للولايات المتحدة، ثابتة، وهو ما يعد بمثابة "عربون" الولاء لواشنطن، رغم دعوات السيادة الوطنية، خاصة مع سياسات الرئيس ترامب، والتي حملت قدرا كبيرا من الاستعلاء في التعامل مع الحلفاء، في إطار مساعي البيت الأبيض، تحت الإدارة الحالية، نحو تحويل التحالف من إطار العلاقة بين شركاء إلى صورة القيادة المطلقة، ذات الطبيعة الأحادية، عبر إصدار أوامر مباشرة، يدور في فلكها الجميع، وهو الأمر الذي يقاومه الأوروبيون بصورة أو بأخرى، كما تتعارض المواقف التي تتبناها تلك الحكومات من الأوضاع في غزة، مع القيم الأخلاقية التي طالما وضعتها القوى الغربية على عاتقها، باعتبارها البوصلة التي توجه سياساتهم.
وإذا كان الانحياز إلى إسرائيل هو "عربون" التبعية للولايات المتحدة، فهو على الجانب الآخر، سلاح خصوم الغرب الرئيسيين، وعلى رأسهم روسيا، والتي تواجه عقوبات بالجملة، وإدانات فجة، جراء عملياتها العسكرية في أوكرانيا، حيث يبقى الموقف المتراخي من غزة، بمثابة فرصة لموسكو للتشكيك في نزاهة الخطاب الغربي.
الأبعاد سالفة الذكر ربما تنبه لها قطاع كبير من دول أوروبا الغربية، وعلى رأسها فرنسا ومن قبلها إسبانيا والنرويج وسلوفينيا، ناهيك عن قطاع من الدول التي أعلنت نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، دون تشاور مع الولايات المتحدة، مع تعهد بريطاني "مشروط" باتخاذ الخطوة نفسها، في تحد صارخ لقيادة المعسكر الغربي، وحليفها المدلل، مع ملاحظة أن الغالبية الساحقة، في الوقت الذي استبعدت فيه هولندا اتخاذ الخطوة نفسها.
والملاحظ أن الحكومات التي اتخذت خطوة الاعتراف بفلسطين لا تميل إلى اليمين المتطرف، وهو ما يعكس إدراكا عميقا من التيارات غير اليمينية، بأهمية اتخاذ مواقف أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة، إذا ما أرادت أن يكون لها مشاركة حقيقية في صناعة القرار الدولي، في المستقبل، بالإضافة إلى حاجتها الملحة إلى إضفاء المصداقية إلى مواقفها في قضية أوكرانيا، باعتبارها تمثل، من وجهة نظرهم، دفاعا عن العدالة والشرعية الدولية، وهو الأمر الذي يساهم بصورة أو بأخرى إلى إضفاء المزيد من الزخم إلى التيارات المنافسة لهم، بعدما تراجعت أسهمهم بصورة كبيرة في السنوات الماضية.
والواقع أن الاحتجاجات في هولندا وتداعياتها على الحكومة، في ضوء سلسلة من الاستقالات، نجد أن ثمة بعدا مهما بات محوريا عند النظر إلى دبلوماسيات الدول الغربية، يتجلى في قوة الشارع كعامل مهم في رسم السياسة الخارجية، وهو ما يمثل اختلافا جذريا عن طبيعة المظاهرات التي شهدتها دول القارة خلال السنوات الماضية، وأبرزها حركة السترات الصفراء، والتي لم تخرج في أهدافها وشعاراتها عن إطار أزمات الداخل والأوضاع الاقتصادية، بينما اقتصرت في بعدها الدولي عن المحيط الإقليمي القريب، في إطار العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، في ضوء رغبات الانفصال لدى بعض التيارات التي سعت إلى استغلال حالة الشارع للزج بخطابها السياسي، إلا أن المفارقة أنها لم تسفر عن زلزال حكومي على غرار ما فعلته غزة بالحكومة الهولندية.
الأبعاد سالفة الذكر تعكس مأزق اليمين المتطرف، على خلفية الأوضاع في غزة، ليس في هولندا وحدها، وإنما في أوروبا بأسرها، على مسارين رئيسيين أولها في الداخل، في ضوء فقدان المصداقية أمام الشارع جراء التبعية الضمنية للولايات المتحدة، على عكس شعارات الاستقلالية، مع تقويض خطاب القيم الذي كان يمثل أحد أهم أدوات الغرب الدبلوماسية، لفرض رؤيته على دول العالم، في حين كانت الانتهاكات التي ترتكب في القطاع، سببا رئيسيا في إضعاف الموقف الجمعي الأوروبي تجاه قضايا أخرى، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، والسبب ازدواجية المعايير.
وهنا يمكننا القول بأن غزة كشفت عن عجز اليمين الأوروبي في الموازنة بين شعاراته الداخلية وتحالفاته الخارجية، بسبب التماهي الأيديولوجي مع حكومة نتنياهو من جانب، ومحاولات استرضاء واشنطن من جانب آخر، لتفضح ازدواجية القيم التي طالما تغنت بها أوروبا، بينما يواصل الشارع فرض نفسه كفاعل في صياغة السياسة الخارجية. وفي الوقت الذي تتآكل فيه المصداقية الأوروبية، تبرز دول أخرى في المنطقة، وعلى رأسها مصر، كصوت أكثر ثباتًا واتساقًا، ما يمنحها هامشًا أكبر للمناورة، ويعزز من حضورها في مشهد دولي مرتبك، يبحث عن بوصلة جديدة للشرعية