كثير منا يتهم التراث بعدم صلاحيته وملاءمته لعصرنا الحاضر، وأنه لهذا لابد من إلغائه أو تجديده أو حتى تنقيحه، ولست مع هذا الرأى أميل، فهم لم يقرأوا التراث جيدا، ولم يعوه كما يجب، فالتراث صالح لعصرنا وللعصور المقبلة، فهو أكثر حداثة من الحداثيين، وأكثر تنويرا من التنويريين، ولو قُرئ بالشكل المطلوب لسمعنا بعضهم يقول: عليكم بالتراث، وعضوا عليه بالنواجذ.
أقول هذا لأننى كنت أقرأ شيئًا من كتاب "العقد الفريد" لأحمد بن محمد بن عبدربه، ولشد ما أعجبنى وأمتعنى وأقنعنى وأنا أقرأ ما كتبه عن علم الألحان، وقد جاء فى الكتاب تحت عنوان "الياقوتة الثانية فى علم الألحان واختلاف الناس فيه".
والناس مختلفون فى أمر الألحان، هل هى حلال أم حرام؟ فبعضهم يقول هى حرام، وبعضهم الآخر يذهب إلى أنها حلال، ولو أن الناس قرأت ما كتبه ابن عبدربه لانتهى هذا الخلاف منذ زمن بعيد، وذلك لأن ابن عبدربه توفى سنة 328 هـ، أى أكثر من أحد عشر قرنا مرَّ على كلامه هذا، ومع ذلك فالناس فى اختلاف دائم حول مشروعية الألحان.
أما ابن عبدربه فيقول: "وقد يتوصل بالألحان الحِسان إلى خير الدنيا والآخرة، ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق، من اصطناع المعروف، وصلة الرحم، والذب عن الأعراض، والتجاوز عن الذنوب، وقد يبكى الرجل بها على خطيئته، ويرق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويمثله فى ضميره. وكان أبو يوسف القاضى ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاءً، كأنه يتذكر به نعيم الآخرة. وقال أحمد ابن أبى داود إنى كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم، فيقع علىَّ البكاء".
بداية لابد أن نعرف أن ابن عبدربه من فقهاء الأندلس، فقال الأستاذ الأديب محمد سعيد العريان، محقق كتابه "العقد":"إنه كان فى شبابه لاهيًا ولوعًا بالغناء، ولكن ذلك لم يمنعه من التحصيل والدرس، حتى عد من فقهاء الأندلس".
وقال عنه شمس الدين الذهبى فى "سير أعلام النبلاء" بعدما وضعه فى الطبقة الثامنة عشرة: "العلامة الأديب الأخبارى صاحب كتاب (العقد) أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير المروانى مولى أمير الأندلس هشام بن الداخل الأندلسى القرطبى سمع بقى بن مخلد، وجماعة.
وكان موثقا نبيلا بليغا شاعرا"، وفى "وفيات الأعيان" لابن خلِّكان أنه "من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس".
سقت جزءا مما كُتِب عن ابن عبدربه لأبيِّن أنه كان ثقة لدى المؤرخين، ولو كان ثمة ما يشينه ويعيبه لذكره كتاب التراجم.
العقد الفريد
لقد تأملت كثيرا فى كلام ابن عبدربه عن الألحان، وكيف أنها يتوصل بها إلى خير الدنيا والآخرة، ورأيت الرجل مصيبا فى حديثه، وأنها حقا طريق موصل إلى خير الآخرة، ولكن ليست كل الألحان القنطرة إلى الطريق الحق، بل فيه ضوابط اشترطها لتكون هكذا، فلم يترك ابن عبدربه الألحان على عواهنها، بل قيدها؛ وهى أن تكون من الألحان الحِسان، بمعنى الألحان التى تخاطب الغرائز لا تنتمى إلى ما قاله، وإنما يقصد الألحان التى تخاطب الروح، الألحان التى تطهر النفس الإنسانية مما علق بها من الأدران والأمراض الأرضية، هى الألحان التى يتأثر بها الإنسان وينفعل بها، الألحان التى تهز الأعماق، بحيث يفرح الإنسان إذا كانت فرحة، ويحزن إن كانت حزينة. فهذه الألحان لا غبار عليها، ويحبذها ابن عبدربه، وعن طريقها يمكن شحن الإنسان إلى حب الدين والدفاع وعنه، وحب الأوطان والدفاع عنها، والموت دونها. ولتأكيد ذلك عندما نسمع أغانى حرب أكتوبر المجيدة، فإننا جميعا نتأثر بهذه الأغانى، ونتحمس لها، ونتمنى لو كنا جنودا فى أرض المعركة، نتمنى أن نذود عن الأرض حتى لو استشهدنا. وكذلك الأمر بالنسبة للألحان الدينية، ففى كل مرة نسمعها، نتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ونهب غيرة للدفاع عن النبى صلى الله عليه وسلم. إنها ألحان قادرة على أن تحول القاسى القلب إلى إنسان رقيق، وتجعله يبكى مثل الأطفال، كما أنها تلين من العاصى المتمرد، وترشده إلى طريق الهداية.
وساق لنا ابن عبدربه بعضًا ممن ظهر عليهم أثر الألحان فى نفوسهم، فهذا القاضى أبو يوسف صاحب أبى حنيفة النعمان ربما حضر مجلس الرشيد وفيه غناء، وعندما يسمع لحنًا يذكِّره بالآخرة فإنه يبكى، والأمر نفسه مع المعتزلى الكبير أحمد بن داود عندما يسمع الغناء، فإنه يبكى، ولا يمكنه أن يمنع نفسه من البكاء، وقد مس اللحن شغاف قلبه.
هذا ما كان يقصده الفقيه ابن عبدربه، أما الألحان البذيئة التى نسمعها رغما عن آذاننا فإنها ليست مما نحن فيه، فأى شىء يخاطب الغرائز ويحرك الشهوات من مكمنها فهى حرام باتفاق الجميع.
ويعقد ابن عبدربه فصلا عن الصوت الحسن، ويختار عدة نماذج توضح فضل الصوت الحسن، فمثلا يورد بعض أقوال أهل التفسير فى قوله تعالى "يزيد فى الخلق ما يشاء" (فاطر – 1)، بأنه الصوت الحسن.
حسين السيد
وبيَّن لنا رأى أهل الطب فى الصوت الحسن؛ حيث إنه مفيد لصحة الإنسان، ونصح الأمهات بعدم نوم الأطفال وهم يبكون، فقال:"زعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسرى فى الجسم، ويجرى فى العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتنمو له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات؛ ومن ذلك كرهوا للطفل أن ينوَّم على أثر البكاء حتى يرقُص ويطرب".
ويتحدث بعد ذلك عن اختلاف الناس فى الغناء، فقد أجازه عامة أهل الحجاز، فيما كرهه عامة أهل العراق، ويعرض رأى من أجاز الغناء، والسبب فى إباحته هو أن أصله الشعر الذى أمر النبى صلى الله عليه وسلم، وحض عليه، وندب أصحابه عليه، وتجند به على المشركين، فقال لحسان بن ثابت رضى الله عنه: شُن الغارة على بنى عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام فى غلس الظلام.
وقالت السيدة عائشة رضى الله عنها: علموا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم.
وقالوا أيضا: الشعر حسن ولا نرى أن يؤخذ بلحنٍ حسن، وأجازوا ذلك فى القرآن وفى الأذان؛ فإن كانت الألحان مكروهة فالقرآن والأذان أحق بالتنزيه عنها، وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر.
وأخذ ابن عبدربه يسوق الدليل تلو الدليل والحجة إثر الحجة فى إباحة الغناء والألحان ما دام لا يثير الغرائز ولا يحرك الشهوات، ويستشهد بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فى هذا الشأن.
والحق مع ابن عبدربه فى جواز الغناء والألحان، وإلا فما الفرق بين حديث الناس العادى فى تصريف أمور حياتهم، والغناء العذب الذى يأسر القلوب ويطرب الآذان؟ وما الفرق بين الكلام المنثور والشعر الموزون؟ ما الفرق بين رجل يرفع الأذان بصوت تقليدى ورجل آخر يرفع الأذان بصوت جميل؟ ما الفرق بين قارئ القرآن بصوت خال من العذوبة والرقة، وقارئ آخر يتمتع بصوت رائع؟ الأول لا تجد وراءه كثيرا من المصلين، فيما يزدحم المصلون وراء القارئ الآخر، هذه هى سنة الحياة.
وكان لإباحة أهل الحجاز الغناء مردود كبير، فقد انتشر الغناء فى المدينة بدرجة كبيرة، بل إن الغناء بلغ فيها فى أثناء العصر الأموى كل ما كان يحلم به العربى. ولعلنا بعد ذلك لا نعجب حين نسمع عن تأثر الناس بغناء مغنيها تأثرا يفوق الوصف؛ إذ كان بعضهم يخر مغشيًّا عليه، وكان بعضهم يصفق ويرقص، كما يقول الدكتور شوقى ضيف فى كتابه "الشعر والغناء فى المدينة ومكة لعصر بنى أمية".
وبسبب الصوت الحسن والأداء الشائق، كان ينسى الناس أنفسهم وما يحدث لهم، ويندمجون مع صاحب الصوت، ومن شدة التأثر والاندماج انصرف بعض العباد والنساك إلى المغنين والمغنيات، وفى هذا يقول الدكتور شوقى ضيف:"وفى هذا ما يفسر تولُّه بعض العباد والنساك بهؤلاء المغنين والمغنيات، فقد حذقوا فنهم حذقا شديدا، وقصة عبدالرحمن بن أبى عمار الجُشَمى الذى كان يلقب بالقَسِّ لعبادته وفتنته بسلَّامة حتى سميت سلامة القس، شائعة معروفة".
وبفضل هذا الصوت كانت تباع الجارية ذات الصوت الأخاذ بآلاف الدنانير، وأصبحت صناعة وتجارة، فقد كان الرجل يشترى جارية بمئات الدنانير، فيعلمها الغناء ويبيعها بآلاف الدنانير، وقد ذكر الدكتور شوقى ضيف بعض نماذج معتمدا على كتاب "الأغانى" لأبى الفرج الأصفهانى، فقال:"اشترى دحمان جارية بمائتى دينار وعلمها الغناء فباعها بعشرة آلاف دينار.. واشترى يزيد بن عبدالملك سلامة بعشرين ألف دينار.."، ويروى الدكتور شوقى ضيف أن هؤلاء المغنيات كنَّ يحظين بمعاملة طيبة من الخلفاء الأمويين، ويستقبلن استقبالا يفوق استقبالهم للشعراء.
وأخرجت المدينة مغنين كبارا مثل معبد بن وهب، وهو إمام المغنين فى عصره بالمدينة بلا منازع. وكذلك ابن عائشة وهو محمد بن عائشة؛ نسب إلى أمه لأنه لم يعرف له أب. ومالك الطائى وهو مغن عربى أصيل. ومن المغنيات أشهرهن على الإطلاق سلامة القَسِّ.
هذا هو تراثنا الذى يحلو لبعضهم الطعن فيه، ولو أنهم قرأوه قراءة واعية لأدركوا كم نخسر ونخسر الكثير لو أهملناه، أو وارينا عليه الثرى.