يتلقى نتنياهو ورقة الاتفاق بيد ويُسعّر نار العدوان بالثانية، على مكتبه اليوم مقترح يكاد يطابق ورقة المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف، يحوز موافقة حماس وبقية الفصائل الغزية بعد جهد دؤوب من القاهرة، فيما تذيع وسائل الإعلام الإسرائيلية خبر اعتماد وزير دفاعه يسرائيل كاتس لخطة احتلال غزة، والاستعداد لإرسال أوامر استدعاء لنحو ستين ألفا من جنود الاحتياط.
يستحلبُ العجوز الماكر خيارات الحرب والتهدئة حتى آخر قطرة، يضغط على أعصاب الجميع حتى فى بيئته الداخلية، ويواصل غرامه بالآلية المكشوفة والمحببة له بالتفاوض تحت النار.
ذكى ومحتال؛ لكنه ما كان ليصل إلى ما وصل إليه اليوم إلا بخفة الخصوم وغبائهم، يملك أسباب القوة المفرطة، وتغطّيه حماية الولايات المتحدة وانحيازها الصارخ؛ لكن أثمن ما فى جعبته على الإطلاق اندفاعة الفصائل، لوثتها الأصولية، وانعدام خيالها فى السابق واللاحق.
ولا شىء أدل على هذا من أنها لم تستشرف المآلات، وتكابر حتى اللحظة فى الاعتراف بالحقائق الواضحة، والأسوأ أنها تستعير صورة العدو وتُعيد إنتاجها مع الفارق، وقفزا على حال المحنة واختلال التوازنات، كأنها تلعب «الروليت الروسى» مع خبير به، مسدسه محشوّ بالذخيرة لآخره، وليست فى بندقيتها رصاصة واحدة.
والاستعارة المشوّهة تتجلّى بأوضح صورها فى العلاقة مع بقية المكونات، وما يُحمَل على التنسيق بينها أو توزيع الأدوار.
إذ لا تزال حماس على عهد الانقسام والقطيعة مع السلطة ومنظمة التحرير، وتنتدب من مكوناتها بعض العناوين القريبة لخطابها، تُقرّبها وتُبعدها بحسب الهوى لا الاحتياج، ومن دون منطق أو إدارة عقلانية مثمرة. فيما لا يتوقف ذئب الليكود عن توظيف الأوراق ضد بعضها، والتنقل بين السياسى والحربى والشعبوى بما يُحقق له المصلحة، أو يُقوّض الضغوط، ويُرجئ الاضطرار لسلوك مسارات لا يريدها، أو يُعوّل على بلوغها بعد استخلاص المنافع الكاملة من غيرها.
يفعل هذا عن وعى ومُكنة عالية؛ بينما تعجز الحركة عن التصدى للألاعيب عمليا، بقدر ما تتعثر يوميا فى محاولات التقليد.
صحيح أنه لم يعد فى وضع مثالى كما كان فى بادئة الطوفان؛ لكنه ما يزال قادرا على خلط الأوراق والتقافز بين البدائل. أسداه السنوار هدية مجانية فى السابع من أكتوبر، فكّ عنها رباط السوليفان وأعاد بناء الإجماع فى صندوقها، ثم سحب الدولة بكل مكوناتها وراءه لشهور طويلة.
استدعى طيفا من المعارضة ثم أبعده، وناور الموالاة والحلفاء، ويتلاعب بالشارع كأمهر الحواة وسحرة العيون. يتدرج صعودا فى أهدافه وجرائمه، فيما يثبت الآخرون على رواية واحدة؛ فلا يستجيبون للطارئ عليهم منه، ولا يسلبونه الذرائع التى صارت خبزه اليومى، وعدّة خداعه للجميع بالجميع.
تلاقى مع المناوئين قبل الداعمين، وافترق عنهم جميعا، ولم تنقطع الحبال بينهم إلى الآن. كان زعيم المعارضة يائير لابيد يعرض عليه شبكة أمان قبل شهور، لأجل تمرير صفقة التبادل مع حماس دون الخشية من سقوط الائتلاف، واليوم يعرضها بينى جانتس الذى دخل إلى كابينت الحرب وغادره؛ ففقد شيئا من المصداقية ووجاهة الخطاب فى الحالين، وتعرّض لضربات داخلية قاسية بانشقاق حليفه جادى آيزنكوت.
الكنيست فى عطلته الصيفية، وبإمكانه أن يذهب فى أى اتجاه دون انزعاج من نزوات سموتريتش وبن جفير؛ لكنه يُوظفهما مخلب قط لإسقاط ما لا يعجبه من أطروحات، ويُروّضهما بالمظلة الأمريكية التى باتت تتخذ صفة شخصية من صلته مع ترامب، بأكثر مما تنحصر فى العلاقة التقليدية بين البلدين بغض النظر عن تركيبة الحكم فيهما، وبالشارع أيضا، وقوى يمين الوسط المتحفزة لخلخلة التجربة التوراتية، مع شبه يقين من الفئة الأخيرة فى أنهم إن سقطوا فقد لا يعودون؛ أقله فى المدى القريب.
الصفقة المعروضة اليوم تُطابق محتوى ورقة ويتكوف بنسبة 98% تقريبا، بحسب متحدث الخارجية القطرية. وكانت تل أبيب قد وافقت على النسخة السابقة ورفضتها حماس، والآن تنقلب الآية بقبول الأخيرة وصدود الأولى. مرّت ثمانى وأربعين ساعة؛ حتى موعد كتابة المقال عصر أمس الأربعاء، منذ تسلمت إسرائيل المُقترح، ولم تُعقّب عليه بالإيجاب أو السلب حتى الآن.
والراجح أن نتنياهو يُفتّش عن تكئة للمراوغة أو ثغرة للانفلات، وكيف يُبرِّر الاعتراض على ما كان يُقرّه سابقا، أو يُكثّف الشروط بما يضغط على أعصاب الحركة وصولا لمزيد من التنازلات، أو يدفعها للإحجام وإرخاء حبل الاحتدام مُجدّدًا.
نوايا واشنطن غير واضحة تماما. تسعى إلى التسوية، وتُلوّح بالإفناء، كما قال ترامب مؤخّرًا بأن الحل فى مواجهة حماس والقضاء عليها، الشارع يصخب كعادته فى جعجعة من دون طحن، والقوى السياسية عاجزة عن إلزام الحكومة بالتهدئة أو دفعها إلى انتخابات مُبكّرة.
ينتفض الإسرائيليون غضبًا فيُرسل الحاكم الفرد وفوده التفاوضية، ويُزمجر متطرّفو الائتلاف فيُعيدهم، ويُركز طوال الوقت على تكتكة التروس فى غزّة، لينُفذ من الفاصل الضئيل بين العقل والجنون.
يلعب نتنياهو بإرادة شمولية مُطلقة؛ إنما على صيغة القائد بين فريق من المُؤهّلين لأدوارهم والموزّعين عليها بإتقان. فيهم الهامس والصارخ، والدموىّ ومندوب العلاقات العامة، بينما اللعبة الحماسية فردانية مُطلقة، وحينما تخرُج منها فإلى شراكة أسوأ من الانفراد بالقرار، وأكثر انكشافًا على صعيد الانتهازية والمقامرة، لا بناء الخُطّة الجماعية من منظور واسع، وبحسب قدرات اللاعبين وما يُجيده الواحد منهم.
المثال هنا فيما ذهبت إليه «سرايا القدس» قبل يومين، بإعلانها عن قصف مستوطنتى بئيرى وشواكيدة فى غلاف غزّة. والغريب أنها الجناح العسكرى لحركة الجهاد، والأخيرة أقرب الفصائل لحماس وأوثقها صِلَة بها، وأقام أمينها العام زياد النخالة أيامًا فى القاهرة مع خليل الحية ورجاله، وفى معيّة مُمثّلين عن بقيّة قوى القطاع.
وليس من المنطق فى شىء أن يُصار إلى التنسيق فى التفاوض والتسوية، ويُستَبَدّ بالقرار فى التصعيد والمُغامرات الاستعراضية بالقوّة، وبعدما فقدت الوهج والفاعلية، وصارت عبئًا لا رصيدًا قابلاً للصرف.
ولا يغيب عن البال، أن غزّة شهدت فى السابق مواجهة أو اثنتين مع الجهاد، قالت إسرائيل فيهما إنها تستهدف الحركة بمفردها دون الباقين، ونأت حماس بنفسها عن المسألة دفاعا أو هجوما، ولا حتى بالوساطة ومحاولة تلطيف الأجواء.
وما سَبَق ليس عن انفصال بينهما أو استقلال؛ إنما نتاج تنويعة على لعبة توزيع الأدوار، تقطع بأن القرار النهائى فى عُهدة الحماسيين دون غيرهم، وبمقدورهم أن يفتتحوا المواجهات أو يمنعوها، وأن يفرضوا رؤيتهم على الشركاء مهما كانت امتداداتهم، أو طبيعة علاقاتهم الولائية مع الخارج.
والقصد باختصار؛ أن الكتائب التابعة للجهاد ما أطلقت صواريخها الهيكلية الأخيرة، إلا بإيعاز من القسّام أو بعد تشاورٍ معها. وهُنا يتكشّف شىء من الخفّة المُزعجة حقيقةً؛ لأنه ينُمّ عن تصوُّر ساذج بامتلاك مفاتيح الهُدنة، ورغبة طفولية فى تسديد الصفعة الأخيرة قبل وقف النار؛ ليتسنّى لها إعلاء سردية النصر والتعمية على ركام الخسائر الفادحة.
أما الأخطر على الإطلاق؛ فيخص الغباء الذى يجترح المسارات نفسها يومًا بعد آخر، متوهّمًا قابلية التوصّل إلى نتائج واستخلاصات مُغايرة. والحال؛ أن خطايا التغابى يُمكن تمريرها لمرة واثنتين وثلاثٍ؛ لكنه فى أكثر من هذا يصير تواطؤًا صريحًا، أو اشتغالاً عمديًّا ضد الذات والقضية.
والنتيجة المُتوقّعة من دون احتياجٍ لجهدٍ أو حصافة؛ أن نتنياهو سيتلطّى وراء القذائف التى ما أصابت ولا حتى وصلت لأهدافها، على نيّة تشديد الشروط المُمكنة لإبرام صفقة جُزئية، ونوعية الترتيبات المطلوبة للانتقال منها إلى الوقف الدائم، ثم إطلاق مسيرة «اليوم التالى» باتجاه التعافى وإعادة الإعمار؛ وإلا فسيبقى على تلّته العالية فى الميدان مُمسكًا بصولجان الحرب، ومُبرّرًا جنايته باستخفاف الآخرين وانصرافهم القصدىّ عن التعقُّل والاتزان.
ولا هامش لافتراض البراءة أو الخطأ العابر للأسف؛ فقد تكرر المشهد بحذافيره إبّان التداول فى الورقة المصرية ومُقترح جو بايدن، ربيع العام الماضى، وأفضت عملية غير محسوبة عند محيط كرم أبو سالم إلى انفلات الصهاينة على بُعد خطوة من الاتفاق؛ ثم اجتياح رفح وتطويق القطاع من أقاصى الجنوب، وبعدها أخذ العدوان طابعًا أكثر قسوةً وتوحُّشًا من كل ما كان طوال شهوره السابقة.
وواجب اللحظة ليس البحث عن بطولات وهميّة، أو الإغراق فى الرواية الحماسية وكيفية تبريرها وسدّ الثغرات المنطقية المتوسعة فى جدارها؛ بل الذهاب باتّضاع وعقلانية إلى طاولة الحوار الوطنى الموسّع، وتوزيع الأدوار بالطريقة التى تستثمر كل عناصر القوة وفوائضها، الناعمة قبل الخشنة، وليس أن تُبدى الحركةً شيئًا من الليونة، ثم تُحفّز حليفها الأقرب على التشدُّد والاستعراض.
ولا حاجة للتذكير بأن فصائل غزة، أكانت اثنتى عشرة كما فى الغرفة المشتركة أو أكثر، يُنظَر إليها من جهة الاحتلال وداعميه من الزاوية نفسها، وتحت عنوان واحد، ولا تتّسع المظلة الفلسطينية إلا بالانفتاح على الضفة الغربية، وإشراك السلطة وبقيّة فصائل المُنظّمة المُستبعدة من المداولات؛ ليكون الحديث منطقيًّا عن غلاف وطنى جامع، وعن رؤية يُمكن أن تتجسّد خطابًا وسلوكًا، وتُوضع أمام الجميع بما لها من مقبولية ووجاهة، وبدون أى هامش للتشغيب عليها، أو الإعراض عنها احتباسًا فى رواسب زمن الانقلاب وانقساماته المُهيمنة منذ عقدين تقريبا.
يُقبِلُ الرئيس عباس مُؤخّرًا على مهمّة الإصلاح وإعادة التأهيل. قد لا يكون مُقتنعًا بالهيكلة الشاملة، أو راغبا فيها تمامًا؛ لكن الديناميكية التى افتقدتها الساحة طويلاً ستُسيّره فى اتجاهات أقرب إلى الصواب، وتُطوّر نفسها بالممارسة وما فيها من تجربة وخطأ وتصويب.
افتُتح الأمر بتعيين نائب؛ ثم الإشارة إلى انتخابات المجلس التنفيذى للمُنظّمة، وأحدث الخطوات تشكيل لجنة لصياغة الدستور المؤقّت، فى فاتحة إلزامية للانتقال من السلطة إلى الدولة، والتجاوب مع موجة الاعترافات الدولية، ومطالب الترميم وتنشيط الهياكل السياسية والتنفيذية القائمة منذ زمن أوسلو، وبعضها سابق على الاتفاقية وتقادَم عمرانه لدرجة تستوجب الهدم وإعادة البناء.
كانت حماس قد اعترضت على شروط الانتخابات؛ ولم تُعلّق حتى الآن على لجنة الدستور. لكن المعلوم بالضرورة أنها خارج منظمة التحرير، ولا تكتفى بعدم الإقرار بشرعيّتها؛ بل تُنازعها فى الحضور والصفة التمثيلية؛ رغم أنه يتوافر لها من القبول والجاهزية واعتراف العالم، ما لا يتوافر للحركة فى تركيبتها الأيديولوجية، وتحالفاتها الموصومة بخطايا محور الممانعة، وسوابق أعمالها التى صارت حجّة عليها لا لها.
وصحيفة الجنايات الطويلة يتذيّلها «الطوفان» وتداعياته من دون شَكّ؛ وليس وفق المرويّة الصهيونية المُلفّقة عن الإرهاب واغتراف دم المدنيين من دون حقّ؛ بل لأنه ارتدّ على بيئتها بأبشع الصور المُمكنة، وأودى بغزّة وأهلها إلى مهاوى الهلاك ومخاطر الشطب والإلغاء.
وعليه؛ فالمسألة اليوم أكبر من إقرار نتنياهو بالهُدنة أو التنطُّح فيها، وكلاهما تتساوى نتائجه القريبة والبعيدة؛ ما لم تتغيّر الرؤية على الجانب الفلسطينى، ويُعاد النظر فى انتكاسات التكتيك والاستراتيجية، وغلبة الوهم على الحقّ، ومأساوية الانفراد بالقضايا الوجودية بعيدًا من مُلّاكها الأصليين، وبما يختزلُ الكُلّ فى الجزء، ويُسيّد عُصابة التنظيم فوق راية الوطن.
أما توزيع الأدوار المطلوب؛ فليس مُتاحًا أن يُدار من داخل دائرة النار، ولا على أيدى المُتسبّبين فى إشعالها. لا هامش أصلاً للشدّ والجذب، وليس القطاع فى حال رفاهية تسمح بالإرجاء أو الرهان على طُول النَّفَس.
الغزيّون أحوج ما يكونون للإنقاذ، وكلما استطال عليهم الوقت تعمّقت الجروح، واستبدّ اليأس بما تبقّى من الأمل الزهيد، واستحالت عليهم فرص الحياة وتطبيع علاقة البشر بالحجر فى تلك البُقعة المهمّة من جغرافيا الدولة المأمولة، وقد كانت ضائعةً قبل حين، وصارت أكثر ضياعًا إلى مدىً لا يعلمه أحد، ولا يُمكن لأحد الجزم بنطاقه المُحتَمل أيضًا.
إمَّا أن يرضخ زعيم الليكود لمُقتضيات الصفقة اليوم؛ بحسابات الداخل أو بضغوط من البيت الأبيض؛ فيضع القوى الحاكمة فى القطاع أمام امتحان أكثر عُسرًا من امتحانات الحرب؛ لأنه سيكون عليهم إبداء نواياهم الحقيقية تجاه اليوم التالى، والانكشاف فيما يخص تغليب صالح القضية، أو إعلاء غاية وجودهم المُتسلّط فوق كل شىء.
والاحتمال الثانى أن يرفض الصفقة، أو يُطوّحها بعيدًا على فاصل جديد من القتل والتجويع؛ طمعًا فى نسخة أفضل وتنازلات أكبر من الحماسيين؛ وفى الحالين سيظل السؤال الختامى محفوظًا على حاله، وجوابه منوط بحماس وحلفائها دون غيرهم.
وإن كانت الحركة قد تقبّلت فى هُدنة يناير ما ظلّت ترفضه لسنة كاملة قبلها، ثم توافق اليوم على مقترح ويتكوف الذى اعترضت عليه قبل عدّة أشهر، وإن تعطّلت المحاولة فسيكون عليها أن ترضخ غدًا لِمَا هو أسوأ؛ فإنه لا يُعرَف حقيقةً لماذا لا تفعل الشىء نفسه مع بيئتها المحلية، أو مع السلطة والمنظمة فى الضفة؛ والبديهى أن تناقضاتها مع الطرفين أبسط وأقل تعقيدًا من مثيلتها مع الصهاينة.
أسوأ ما يُفعَل بغزّة أن تُحصَر المسألة فى وقف العدوان. صحيح أنها أولوية تُرتّبها مصاعب الوضع، وحقوق البشر على حُكّامهم المُغرمين بالنزوات؛ إنما لن تتساقط الحلول من السماء بمُجرّد إسكات البنادق، وقد تكون الاشتباكات التالية أكثر صخبًا وخطورة من مُقارعة جيش الاحتلال بكل عدّته وعديده.
إذ يُحتَمَل أن تتفجّر الخلافات البينية، أو يكون الصدام مع القوة الإقليمية أو الدولية التى قد يُصار إليها ضمن ترتيبات اليوم التالى، بما يُخرج المواجهة من سياقها الصافى والعادل مع مُحتل غاشم، إلى مُخاصمة جمهور القضية أو الافتئات على المُتدخّلين لإنهاء النكبة وتخليص الميدان من تشابكات النازيين والأغبياء.
لن تستقيم المُنازلة إن عُطِّلت قوّة أحد الطرفين، أو استُبعد منها القادرون على الاضطلاع بالمهام المطلوبة والوفاء بواجب اللحظة غير الاعتيادية. وتوزيع الأدوار يقتضى تحييد التمايزات المُصنّعة داخل الدائرة الأصولية، والبُعد عن محاولات الإيحاء بأنها صورة حقيقية من الإجماع الوطنى المطلوب.
لن يتحقق الإجماع إلا بالإياب إلى رام الله، والدخول تحت مظّلتها، وليس بمُجرّد التسليم بلجنة الإسناد المُجتمعى تحت إشراف حكومة السلطة فحسب؛ بل بالترحيب أوّلاً بالانتخابات وشروطها، وبلجنة الدستور ومُخرجاتها، وبأن يكون لفلسطين رأس واحد، وجسد لا تختصم فيه السكاكين المحلية بحسب الأيديولوجيا والانتماءات الخارجية.
نتنياهو يجنى على نظامه من حيث يدافع عن سيرته الذاتية، ويُحمّل إسرائيل أعباء ستنوء بها لسنوات مُقبلة؛ وما من مُسوّغ لمُلاقاته على باقة أهدافها، أو تمكينه من الإفلات السهل فى كلّ مرّة. أقلّه يتوجّب الاشتغال على تعريته؛ بدلاً من محاولات التستُّر به، وقد صار مكشوفًا لبيئته قبل الأغراب.
الهُدنة تفصيل عابر؛ على كل أهميّتها المُعتَرَف بها، وقد تحوّلت بقصدٍ من حماس للأسف، إلى مُنتهى الآمال وخاتمة النزيف المفتوح، ومثلما اندفعت الحركة وسنوارُها إلى «الطوفان» دون رؤية أو خطّة عمل؛ فإنها تبحث بحَيّاتها ومشاعلها عن الخروج من أمواجه الآن، دون برنامجٍ لليوم التالى، أو رغبةٍ حقيقية فيه.
ويستعصى على المُحايد المُتجرّد أن يُوفِّق بين تسليمها بالخروج من المشهد، وما رفعته فى مبادلات الهُدنة السابقة مثلاً من شعارات «نحن اليوم التالى».
يقع التسلط فى موقع الغريزة؛ لذا يُمارَس مخلوطًا بشىء من الشَّبق. أما مُحاكاة العدوّ ففضلا عن النَّزَق فى تعدّيها على المصلحة الوطنية العُليا، وعمائها عن فوارق القوّة والإمكانات؛ فإنها تتّخذ صفة أقرب إلى المازوخية والتمثُّل بالجلاد، لدرجة تنقلب الكراهة فيها إلى محبّة وتطابُق، ولا يختلفُ مقتل الغزّيين تحت المُجنزرات الآن، عن إلقائهم من أسطح البنايات فى زمن الانقلاب.
إنها ليست مُحارَبَةً للخصم بمادّته، وعلى طريقة «داونى بالتى كانت هى الداء»، بقدر ما تُجسّد حالة ذُهانيّة ينفصل فيها المريض عن الواقع، ويطلُبُ مقدرةَ عدوّه الكريه؛ ولو أوقعها عفوًا أو بالقصد على بنى جِلدته.
يلعب بنيامين فرديًّا، ويقدر على هذا؛ لكنه لا يُفوّت فُرَص الاستفادة بكل الأوراق. وتتشبّه حماس به دون مقدرة، وعن عجزٍ دامغ، وتعالٍ غريب على الاعتراف بالضعف أو طلب المُساعدة والاستدفاء بالقادرين على تقديمها.
والعقلية الواقفة وراء هذا الارتباك؛ كانت السبب فى رفض الهُدنة بلا منطق سابقًا، وفى قبولها حاليا دون الوفاء بمتطلّباتها الواجبة، وأهمّها وضع القطار على مساره الصحيح، وإخلاء قُمرة القيادة للأصلح، وليس مَن قاده قبل وقت قصير إلى أقسى ارتطاماته وأشدّها فداحة.
ليس أسوأ من مزاعم نتنياهو وتُرّهاته وتوحّشه؛ إلا إعانته عليها، وافتراض أن إجرام المُحتلّ يُغنى المُختلّ عن الاعتذار والمُساءلة.
وإذ يُطلَب التحقيق فى إخفاق الطوفان داخل تل أبيب؛ فالواجب أن يُطلَب فى غزّة وعموم فلسطين، وإذ يُفتّش خصوم الحكومة الإسرائيلية عن مخارج من الفردانية والجنون؛ فأوجب على الفلسطينيين أن يستحثّوا خُطى الخروج، بكل السبل المُمكنة، وبغير ما أدخلهم فى ضيق المأساة وأبقاهم تحت أثقالها طوال تلك الشهور.
الهُدنة ثغرة فى جدار النار، قد لا تكفى لعبور مليونين غزّى بمعاشهم وآلامهم وقضيتهم العادلة، والحاجة ماسّة إلى البحث فى إطفائه من أسفله لأعلاه، وليس الاكتفاء بكُوّة تُطلع المنكوبين على بشائر الأمل، وتُبقيهم رهائن دائمين لدى القنوط.