حسين عبد البصير يكتب: رواية "الكهف" بين نهب الذاكرة وصحوة الضمير

الخميس، 21 أغسطس 2025 08:00 م
حسين عبد البصير يكتب: رواية "الكهف" بين نهب الذاكرة وصحوة الضمير غلاف رواية الكهف

في عالم يتسابق على بيع الماضي، وتُعرض فيه حضارات بأكملها تحت مطرقة المزادات، تأتي رواية "الكهف" للروائي الكبير محمد عبد العال الخطيب، والصادرة عن دار "دون"، كصرخة وطنية مغموسة في ضمير التاريخ، ومنحوتة بإزميل الوعي الوطني، لتعيد فتح ملفات لا تزال حية، وأبوابًا لم تُغلق بعد، في معركة استرداد الذاكرة المنهوبة.

"الكهف" ليست مجرد رواية، إنها حالة، رؤية، وعمل أدبى يجمع بين الواقعية القانونية، والتحقيق الاستقصائى، والدراما التاريخية، هى تذكرة لمن نسي أن الحضارة ليست فقط أحجارًا صماء، بل هوية تُسرق، ووطن يُنهب، وذاكرة تُطمس، ومصير أمة يُراد له أن يُمحى على يد من يحمل مطرقة المزاد.

 

بين زمنين.. عندما يصير التاريخ شاهدًا في المحكمة

تنطلق الرواية من حادثة تبدو روتينية: مزاد أمريكي في متحف نيويورك لبيع مجموعة من الآثار المصرية، تمرر كل شيء في صمت. لكن "أدهم"، الموظف الجديد بإدارة قضايا الآثار، يرفض أن يكون جزءًا من هذا الصمت. فيقرر أن يُحاكم الماضي بقوانين الحاضر.

وما بين أرشيفات مكتبة الإسكندرية، ومخطوط "تعليمات عزيز مصر"، وملفات مهملة من عهد محمد علي، تبدأ رحلة الكشف… وكأن الأدب تحول هنا إلى قاعة محكمة، فيها الوثائق، والقرائن، والشهود… وفيها المتهم الأول: تاريخنا المنهوب.

 

الرواية كمحكمة للتاريخ

قوة "الكهف" تكمن في تقاطع سردها مع عالم القانون والدبلوماسية والسياسة الدولية. نحن أمام نصّ يحوّل الأدب إلى وثيقة احتجاج ضد الصمت، وضد سرقة الآثار تحت غطاء "قانون القسمة" الاستعماري أو عبر مؤسسات غربية تلبس ثياب الثقافة وهي تُمارس أفعال النهب المقنن.

ما يفعله "أدهم"، هو إعادة تعريف الشرعية. فليست كل قطعة لها رقم أرشيفي في متحف غربي بالضرورة شرعية، وليس كل تصريح حفر من القرن التاسع عشر دليل ملكية. الأثر له وطن، وهذا الوطن له صوت… وصوت "الكهف" هنا صارخ ومدوٍ.

بلزونى والتون بيف: وجها الاستعمار بين الماضي والحاضر

يُعيد الكاتب إحياء شخصية المغامر الإيطالي جيوفاني بلزونى، الذي حوّل مصر إلى مسرح مفتوح للنهب، ويقابلها بشخصية "التون بيف"، الثري الأمريكي من أصل روسي، الذي لم يسرق فقط آثارًا، بل استخدمها لبناء سردية سياسية تخدم فكرة الوطن القومي لليهود في ألاسكا.

هنا تتجلى براعة السرد في الربط بين الاستعمار الاستشراقي الكلاسيكي، وبين استراتيجيات استعمارية جديدة تتلاعب بالتاريخ والرموز والأثر لخدمة مشاريع أيديولوجية. فـ"الكهف" لا تدين الماضي فحسب، بل تسائل الحاضر، وتدق ناقوس الخطر للمستقبل.

القاهرة – الإسكندرية – نيويورك: جغرافيا الصراع
تنتقل الرواية بين ثلاث مدن كبرى:
• القاهرة كمركز القرار البيروقراطي.
• الإسكندرية كمركز أرشيف الذاكرة والبحث.
• نيويورك كمركز المواجهة القانونية العالمية.
هكذا يصير المكان حاضنًا للصراع الرمزي بين الوعي والخضوع، بين من يرى في الأثر وطنًا، ومن يراه صفقة.

 

"الكهف" كأثر أدبي

بعيدًا عن موضوعها الشيق، يمكن القول إن "الكهف" هي رواية أثر بحد ذاتها. ليست فقط عن الآثار، بل هي في جوهرها أثر سردي للمستقبل. نص سيبقى شاهدًا على صراع هذا الجيل في الدفاع عما تبقى من ذاكرة أمة.

الرواية تعتمد على تقنيات السرد المتعدد، والمونتاج الزمني، والتحقيق الدرامي، وتحول السرد من مجرد حكاية إلى حركة وعي. وهي بهذا تقدم نموذجًا نادرًا للأدب الوطني الذي لا يقع في فخ المباشرة أو الشعارات، بل يستنهض ضمير القارئ بهدوء وثقة، ويجعله طرفًا في القضية.

 

من الكهف إلى النور

رواية "الكهف" ليست صرخة فقط ضد نهب الآثار، بل ضد كل ما يُنهب منا… وعينا، وطننا، ماضينا، ومصيرنا. إنها رواية تؤمن أن الحقيقة، مهما دفنت، تخرج من كهفها يومًا. وإن كان بلزونى قد دخل إلى كهف التاريخ ليخرج بآثارنا، فإن "أدهم" دخل كهف الوثائق ليخرج بالحقيقة.

لذلك، فإننا نحتاج إلى مزيد من هذا النوع من الأدب: أدب الوعي، وأدب المقاومة، وأدب استرداد التاريخ.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب