كاتبة وباحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة
ليس أخطر ما يواجهه الموظف في بيئة العمل تلك الخلافات الصاخبة أو القرارات الظالمة المُعلنة على الملأ، بل في تلك المعارك الصامتة التي تتخفى وراء ابتسامات مصطنعة ومجاملات ظاهرها الود وباطنها الرغبة في السيطرة. هنا لا نجد صراعًا مباشرًا تُكشف فيه المواقف بوضوح، بل لعبة خفية تُدار خلف الكواليس؛ حيث يبدو كل شيء طبيعيًا على السطح بينما تسير الحقيقة في اتجاه آخر تمامًا، ولكي نلمس هذا الصراع الخفي على أرض الواقع، يكفي أن نتأمل بعض المواقف اليومية التي تجري في ساحات العمل دون أن يلتفت إليها الكثيرون.
في كل يوم عمل، قد يُطلب منك إنجاز مهمة غامضة ثم تُلام على التقصير، أو تسمع شائعات تُروج لتضعف ثقتك بنفسك، دون أن يلاحظ أحد، وكأنك تتحرك في لعبة صامتة لا يعرف قواعدها سوى من يتحكم فيها، هذه المواقف اليومية البسيطة تكشف الوجه الخفي للتلاعب النفسي، الذي يترك أثره العميق بصمت على حياتك المهنية ونفسك، ورغم بساطتها، فإن هذه الأمثلة اليومية ما هي إلا انعكاس لنمط أوسع وأكثر تعقيدًا من التلاعب النفسي، الذي يتسلل إلى المؤسسات بأكملها ويترك أثره على الأفراد والمنظمات، وغالبًا ما يُدرك بعد فوات الأوان.
ويُعرف التلاعب النفسي (Psychological Manipulation)، بأنه استخدام تكتيكات خفية تستغل نقاط الضعف لتحقيق مكاسب شخصية، وغالبًا دون أن ينتبه إليها العقل الواعي للفرد، ووفقًا لدراسة بعنوان التكنولوجيا، الاستقلالية، والتلاعب (Technology, Autonomy, and Manipulation) المنشورة عام 2019، فإن التلاعب النفسي له تأثير خفي لا يُدرك بسهولة، يتسلل بهدوء؛ ليقيد حرية الفرد في اتخاذ قراراته المستقلة، ليزعزع الثقة بالنفس، ويشوش المسار المهني، ويترك الفرد حائرًا بين ما يراه علنًا وما يعيشه في الخفاء.
ما يزيد الأمر تعقيدًا أن التلاعب النفسي غالبًا لا يُمارس عبر أفعال صريحة، بل يتسلل بإشارات دقيقة يصعب ملاحظتها أو إثباتها، مؤثرًا على مشاعر الضحية وثقتها بنفسها، مما يجعلها مترددة في الشكوى خوفًا من اتهامها بالمبالغة أو الحساسية الزائدة، بينما يتقن المتلاعب إظهار صورة ودودة أمام الآخرين، هذه الطبيعة المزدوجة تجعل منه سلاحًا صامتًا يصعب كشفه أو مواجهته.
ويُعد الغازلايتنغ (Gaslighting) من أخطر صور التلاعب النفسي في بيئة العمل، إذ يلجأ فيه المدير أو الزميل إلى تحريف الحقائق أو إنكار وقائع حدثت بالفعل؛ بهدف زعزعة ثقة الموظف بنفسه وتشويش إدراكه للواقع، ويظهر هذا الأسلوب عبر رسائل خفية من تلميحات أو عبارات متكررة تربك الإدراك وتجعل الموظف يشعر أنه دائم الخطأ أو أن ملاحظاته غير دقيقة. فعلى سبيل المثال، قد يؤكد المدير أن الموظف لم يطرح فكرة سبق وأن ذكرها بالفعل، أو يتهمه بالمبالغة في وصف مشكلات حقيقية يراها بوضوح، مثل هذه الممارسات لا تقتصر على إضعاف الثقة بالنفس، بل تؤدي أيضًا إلى إنهاك نفسي طويل المدى، حيث يعيش الموظف في دائرة من الارتباك والشك المستمر في قدراته وإدراكه للأحداث.
وقد دعمت الدراسات الأكاديمية خطورة هذا السلوك؛ إذ طورت دراسة حديثة أداة علمية لقياس هذه الظاهرة في بيئة العمل (Gaslighting at Work Questionnaire – GWQ) ، ونشرتها مجلة Frontiers in Psychology عام 2022، أظهرت نتائجها ارتباط "الغازلايتنغ" بارتفاع صراعات الأدوار وانخفاض الرضا الوظيفي، كما أظهرت دراسة أخرى أجريت على الممرضات في عام 2021 أن التعرض المتكرر لهذه الممارسات يزيد من احتمالات الاحتراق الوظيفي والرغبة في ترك العمل.
ولا يقتصر التلاعب على هذا النمط وحده، بل يتخذ صورًا مختلفة بحسب موقع الفاعل داخل المنظمة؛ فقد يأتي من المدير الذي يستخدم سلطته بطرق غير مباشرة، من خلال إشعار الضحية بالذنب وبث التوتر المستمر، من خلال إبقاء التوقعات غامضة ثم إلقاء اللوم، ومرورًا بالتحقير الخفي أو المبالغة في اللوم والمدح بحسب المصلحة، وقد تصل أحيانًا إلى أساليب أكثر دهاءً مثل استغلال الحجج الدينية لتقييد حرية الاختيار وإضفاء شرعية زائفة على السيطرة، أو إشعار الموظف بالمديونية الدائمة كأن يقول له "تذكر أنني من وظفتك، ولولاي ما كنت هنا"، وكأن نجاحه مرهون بفضله، وما يبدو للوهلة الأولى مواقف عابرة أو تفاصيل صغيرة من يوم العمل، ليس سوى إشارات إلى صراع صامت يُدار بدهاء ويترك أثرًا عميقًا على المسار المهني والنفسي.
كما قد يستخدم أحد الزملاء تكتيكات التلاعب النفسي بالرغم من أنه لا يملك سلطة رسمية، ومع ذلك يسعى لفرض نفوذه بطرق ملتوية؛ فيزرع الشكوك حول إنجازات الآخرين، أو ينسب الأفكار لنفسه، أو ينشر معلومات مضللة لخلق جو من التوتر، وعلى الرغم من أن سلوكه يبدو غير مباشر، إلا أنه يضعف الثقة ويجعل بيئة العمل غير آمنة.
وفي الاتجاه المعاكس، قد يظهر المرؤوس المتلاعب، الذي يحاول استغلال نقاط ضعف مديره عبر التظاهر بالعجز لتحميل زملائه الأعباء، أو استخدام عبارات عاطفية ودينية لإحراجه ودفعه لاتخاذ قرارات في صالحه، مثل هذه الممارسات لا تهدد فقط سلطة المدير، بل تُربك توازن الفريق وتضعف العدالة التنظيمية.
هذه الأساليب ليست مجرد "تصرفات مزعجة"، بل تترك آثارًا نفسية ومهنية خطيرة؛ تخيل موظفًا يبدأ يومه بطاقة وحماس، لكنه مع الوقت يفقد ثقته في نفسه لأنه يتعرض دائمًا للتشكيك والانتقاص. النتيجة: اضطرابات نفسية، مثل القلق، والاكتئاب، وانخفاض تقدير الذات، وإجهاد مزمن يضعف القدرة على اتخاذ القرار، حتى يبدأ الموظف في ترديد عبارة "ربما المشكلة في أنا".
لكن خطورة التلاعب النفسي لا تتوقف عند حدود الفرد داخل المنظمة؛ إذ سرعان ما تتحول هذه المعاناة الفردية إلى أزمة تنظيمية واسعة، فمع انخفاض الإنتاجية والجودة، ينشغل الموظف بتجنب اللوم بدلًا من الابتكار، وتتزايد معدلات الاستقالات، حيث يترك الكثير وظائف جيدة لأن البيئة السامة لا تُطاق. ومع الوقت، تتضرر سمعة المنظمة نفسها، فقصص بيئة العمل غير الصحية تنتشر سريعًا في سوق العمل، مما يجعل جذب الكفاءات والحفاظ عليها مهمة شاقة.
هذه النتائج ليست مجرد استنتاجات نظرية، بل وجدت صداها في تقارير دولية موثوقة؛ إذ حذرت منظمة العمل الدولية (ILO) من أن الممارسات السلبية الخفية، مثل التلاعب النفسي، لا تقل خطورة عن أشكال العنف المباشر في مكان العمل، لما لها من أثر عميق في رفع معدلات الاحتراق الوظيفي (Burnout) بين الموظفين، وقد عززت منظمة الصحة العالمية (WHO, 2019) هذا التحذير حين أدرجت الاحتراق الوظيفي رسميًا ضمن التصنيف الدولي للأمراض، باعتباره متلازمة مهنية تنشأ عن الضغوط المزمنة في بيئة العمل، وتتجلى مظاهره في الإرهاق العاطفي، وتراجع الحافز، وضعف الإنتاجية، بما يعني أن التلاعب النفسي لا يقتصر على زعزعة الراحة النفسية للموظف، بل يُمثل تهديدًا مباشرًا للإبداع والابتكار، ويضع استمرارية العمل على المدى الطويل في دائرة الخطر.
ولمواجهة التلاعب النفسي لا يكفي الرفض العابر أو التجاهل، بل يتطلب الأمر وعيًا عميقًا ومهارة دقيقة في التعامل؛ فالتعرف المبكر على هذه الممارسات هو الخطوة الأولى لمواجهتها، لكن إدراك وجود المشكلة وحده لا يكفي، بل يجب التنبه إلى العلامات الواضحة إذا وجدت نفسك تشك في إدراكك باستمرار، أو تشعر بالذنب بلا سبب منطقي، فهذه مؤشرات لا ينبغي الاستهانة بها، عندها يصبح وضع حدود واضحة ضرورة، حتى لا تُحمل بما يتجاوز مسؤولياتك أو تُستدرج إلى أدوار لم تُحدد بوضوح.
وإدراك المشكلة هو الخطوة الأولى، لكن مواجهتها تتطلب خطة عمل واضحة، تبدأ بالتوثيق عبر الاحتفاظ بسجل مكتوب لكل ما يحدث، سواء من خلال رسائل البريد أو محاضر الاجتماعات، ليكون لديه دليل واضح يدعمه إذا استدعى الأمر. كما أن طلب الدعم من زملاء موثوقين أو من قسم الموارد البشرية يُعد خطوة أساسية حتى لا يواجه الخطر وحيدًا. غير أن المسؤولية لا تقع على الفرد وحده؛ فالمنظمة بدورها مطالَبة بترسيخ ثقافة تقوم على الشفافية، من خلال وضع سياسات واضحة تمنع التلاعب وتشجع على الحوار المفتوح، إذ أن المؤسسات الناجحة تُبنى في جو من الثقة والوضوح.
التلاعب النفسي في بيئة العمل خطر صامت ينهك الأفراد ويضعف المنظمات، لكنه ليس قدرًا محتومًا؛ بالوعي، ووضع الحدود، وتعزيز ثقافة الشفافية، يمكننا بناء بيئة عمل أكثر عدلاً وإنسانية، كما لابد من التفرقة بين المنافسة الصحية التي تشجع على الأداء الأفضل، والتلاعب الذي يهدف إلى هدم الآخرين، الموظف الواعي بحقوقه، والقائد المسؤول أخلاقيًا، هما خط الدفاع الأول ضد هذا السمّ الخفي، التغيير يبدأ من إدراكك فلا تسمح لأحد أن يسرق ثقتك بنفسك.
في النهاية، بيئة العمل إما أن تكون ساحة لبناء الثقة والإبداع، أو مسرحًا للتلاعب والإحباط، والاختيار يبدأ منا؛ بالوعي والمسؤولية يمكننا حماية أنفسنا والآخرين، وصنع بيئة عادلة وإنسانية؛ فمستقبل العمل العادل لا يُبنى بالقوانين وحدها، بل بالوعي الذي يجعل من الاحترام قيمة أساسية لا يمكن المساومة عليها.