حسين السيد يكتب: أحمد شوقى بقلم زكى مبارك

الإثنين، 11 أغسطس 2025 06:36 م
حسين السيد يكتب: أحمد شوقى بقلم زكى مبارك زكى مبارك وأحمد شوقى

انشغل زكى مبارك كثيرا بأحمد شوقى وبأشعاره، وكتب عنه مقالات عدة نشرت فى العديد من المجلات، وقامت "كريمة" ابنة الدكتور زكى مبارك بجمع هذه المقالات من المجلات والكتب، وأخرجتها على صورة كتاب؛ لأن موضوعها واحد هو أحمد شوقى، وظهر الكتاب بعنوان "أحمد شوقى بقلم زكى مبارك".

يعد زكى مبارك أول ناقد ينصف أمير الشعراء أحمد شوقى فى حياته، وتطيب نفسه لهذا الأمر، فكتب يقول: "إن نفسى لتطيب كلما ذكرت أنى كنت أول ناقد أنصف شوقى فى حياته"، وهو ما جعل شوقى يرضى عنه ويضمه إلى حاشيته، ويطلب إليه أن يكتب المقدمة الأدبية لديوانه، كما كتب الدكتور محمد حسين هيكل المقدمة التاريخية، لكن زكى مبارك رفض طلب شوقى؛ فقد خشى أن تصرفه المقدمة عن السكوت على هنات شوقى، أو بعبارته: "ليحتفظ بحقه فى النقد حين يخطئ".

أحمد شوقى
أحمد شوقى


وعرض زكى مبارك الأمر على طه حسين، وكان يسكن آنذاك بجواره بمصر الجديدة، فما كان من طه حسين إلا أن لامه وأخبره بأنه قد أخطأ بعدم كتابته المقدمة، وقال: "ليتك استشرتنى قبل أن تصنع ما صنعت، ألا تعرف أنك أضعت على نفسك فرصة من التشريف؟ لو طلب منى شوقى ما طلب منك – وأنا خصمه - لاستجبت بلا تردد، فشوقى فى رأيى هو أعظم شاعر عرفته اللغة العربية بعد المتنبى"، فرد عليه زكى مبارك: "إنى أرى أنه أشعر من المتنبى".


وهو فى نقده للجزء الأول من الشوقيات يختار بعض قصائد شوقى الجياد، فمثلا يرى أن "نهج البردة" أهم قصيدة بالديوان، كما يرى أن قصيدة "الأندلس الجديدة" من القصائد التى يجب حفظها عن ظهر قلب، وهى أعظم قصيدة جاد بها الشعر الحديث فى تصوير التعاطف بين الشعوب الإسلامية، ولهذا فإن زكى مبارك يخالف جميع النقاد الذين ذهبوا إلى أن عبقرية شوقى لم تتفتح إلا بعد نفيه فى الحرب العالمية الأولى إلى إسبانيا، لكنه يرى أن عبقريته تفتحت قبل ذلك وهو فى مصر قبل نفيه، مستشهدا بقصيدة الأندلس الجديدة التى نظمها عام 1912،
مقدونيا والمسلمون عشيرةٌ    كيف الخئولةُ فيكِ والأعمامُ
أتَرَينهم هانوا، وكان بعزِّهم    وعلوهم يتخايلُ الإسلامُ
إذ أنتِ نابُ الليث كلُّ كتيبةٍ     طلعَت عليكِ فريسةٌ وطعامُ
ثم تأتى قصيدة "انتحار طالب"، ويرى زكى مبارك أنها قصيدة طوقت بها وزارة المعارف بأطواق من حديد، فالطالب المنتحر:
ناشِئٌ فى الوَردِ مِن أيامِهِ    حَسبُهُ اللَهُ أَبِالوردِ عَثَر؟
سَدَّدَ السهمَ إِلى صَدرِ الصبا   وَرَماهُ فى حَواشيهِ الغُرَر
بِيَدٍ لا تَعرِفُ الشرَّ ولا     صَلُحَت إلا لتلهو بِالأُكَر
ولا يتوانى زكى مبارك فى الاعتراف بالخطأ متى أدرك الصواب، ومن ذلك أنه ذكر فى كتابه الممتع "الموازنة بين الشعراء" أن الشاعر إسماعيل صبرى هو أول من سن مذاهب القول فى وصف آثار الفراعنة سنة 1904، لكن يطَّلع زكى مبارك على قصيدة ألقاها شوقى فى مؤتمر المستشرقين سنة 1894، وكان شوقى شابا فى مقتبل حياته. ويمضى زكى مبارك فى الوقوف عند بعض قصائد الديوان، وموقف شوقى من أحداث عصره.
ويأخذ على شوقى فى نقده الجزء الثانى من الشوقيات عدم تأريخ القصائد، ويرى زكى مبارك لو أن شوقى فعل ذلك لأعفى النقد الأدبى من التعب فى تعقب أسباب الضعف والقوة فى شاعريته العصماء. ويذكر أن أقدم القصائد المؤرخة فى الديوان تعود إلى العاشر من سبتمبر سنة 1900، وهى قصيدة "طابع البريد".

زكى مبارك
زكى مبارك


وفى هذا الجزء أيضا نرى قصائد فرنسية وتركية ومصرية وسورية ولبنانية، ويوضح زكى مبارك سبب إفراط شوقى فى الإشادة بمحاسن سوريا ولبنان فى أخريات حياته، والسبب فى هذا يعود – من وجهة نظره- إلى إقبال أهل سوريا ولبنان على حفظ أشعار شوقى إلى درجة أنه لا يتذكر بعض القصائد التى مر عليها زمن طويل، ومع ذلك فهم يحفظونها، وشوقى من عادته أنه يحب من يحفظ أشعاره ويشيد بفضله، ولهذا فإنه – شوقى- كان يتلطف فى الحديث عن المسيحية مراعاة لنصارى الشام، فيقول زكى مبارك:"إن شوقى وجد فى نصارى لبنان رجالا يؤمنون بأدبه الرفيع فجازاهم وفاء بوفاء، وقال فى المسيح كلاما يقره أدب القرآن، وهل وصف المسيح بأفضل مما وصفه القرآن؟"
ليقرر فى النهاية زكى مبارك أن شوقى لم يذق طعم النعيم إلا فى سوريا ولبنان، فقد كان فى أبناء تلك البلاد الجميلة من يسمع شوقى آلاف الآبيات من شعره فى اليوم الواحد، وكان فيهم من يسمعه قصائد غابت عن وعيه الدقيق، وكان شوقى يتلقى تلك التحيات بالبكاء.
يتعرض زكى مبارك للعلاقة بين الشاعرين الكبيرين أحمد شوقى وحافظ إبراهيم، ويذكر أن المنافسة كانت شديدة بينهما، ويوضح الفارق بين الاثنين، وما يميز كل واحد منهما. فى البداية يؤكد زكى مبارك أن حافظ كان فى غاية الذكاء واللوذعية، وكان علمه بتاريخ العرب وآدابهم علما يفوق الوصف، وكان فهمه لدقائق الحياة المصرية أعجوبة الأعاجيب، فيما كان شوقى فرد من سواد الناس لا يمتاز بعبقرية ونبوغ. فما سر تفوق شوقى على حافظ؟!


يجزم زكى مبارك أن "شهوة الحديث" هى التى أضعفت شاعرية حافظ، فقط كان كثير الحديث، وهذا ما أنهك قواه، فإذا خلد إلى بيته كان متهالكا من فرط الإعياء، أما شوقى فكان يمتاز بأنه رجل قليل الكلام، يؤثر الصمت، يهرب من الناس عند شروعه فى النظم، يهيم على وجهه من طريق إلى طريق، وكأنه فى حالة من الجنون، فهو يريد إلقاء القصيد لا الإكثار من الحديث. وهذه الحالة كانت تغضب حافظ، فإذا سمع أن شوقى يهرب من طريق إلى طريق انفعل واغتاظ أشد الغيظ، فهذا يعنى مولد قصيدة جديدة، وقد جرب زكى مبارك مرة أن يغيظ حافظ، فذكر له أن شوقى رآه يهيم على وجهه فى الطريق، فما كان من حافظ إلا أن صرخ وهاج.
يذكر زكى مبارك أن الضغائن التى كانت بين الاثنين كانت تشبه ضغائن الأطفال، فسرعان ما تذوب بينهما، فعندما أقيمت حفلة عربية لتكريم شوقى ومبايعته أميرا للشعراء، أنشد حافظ قصيدته:
أمير القوافى قد أتيت مبايعا وهذى وفود الشرق قد بايعت معى
فقبَّل شوقى جبين حافظ والدموع الغزار تملأ عينيه. ولما مات حافظ رثاه شوقى بقصيدة تحمل الحب والوفاء والتقدير لحافظ:
قد كنتُ أُوثِرُ أن تقولَ رثائى   يا مُنصِفَ الموتى من الأحياءِ
وفيها يقول أيضا:
وودِدتُ لو أنى فِداكَ من الرَّدى   والكاذبون المُرجِفونَ فِدائى
الناطقون عن الضَّغينةِ والهوى   المُوغِرُو المَوتى على الأحياءِ
من كل هدَّامٍ ويَبنى مَجدَهُ       بكرائمِ الأنقاضِ والأشلاءِ
هذه القصيدة عدَّها زكى مبارك أعظم قصيدة قالها شوقى قبيل وفاته. وطبعا معروف من هو المعنىُّ بالبيتين الأخيرين، ومعروف من كان ينقض شوقى أشد النقض، وينتقص من قيمته وقدره، ويهدم بنيان شوقى ليقيم بنيانه.

ويستمر زكى مبارك فى اختيار عيون قصائد الجزء الثانى ويشيد بها، لكنه لا ينسى أن يأخذ على شوقى أنه قد أسرف فى وصف مقبرة توت عنخ آمون، وأنه قد ذكر لها خصائص غير حقيقية، خصائص لم ترها عينا زكى مبارك الذى حضر افتتاح المقبرة عام 1922، فما وصفه شوقى ينطبق على أى مقبرة فرعونية أخرى.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب