عندما بزغ النجم الأمريكي في الفضاء الدولي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أرست واشنطن عدة مبادئ، تضفي قدرا من الشرعية على المعسكر الغربي، وقيادته، كل منها يملأ فراغا ناجما عما أصاب النظام العالمي، جراء الصراع الذي شاب الحقبة الاستعمارية، والذي دفع الكوكب نحو حربين عالميتين اندلعا في النصف الأول من القرن العشرين، بينما لم يفصل بينهما أكثر من عقدين ونصف من الزمان، فالديمقراطية جاءت لملء الفراغ السياسي الناجم عن التباعد بين الأنظمة الحاكمة وشعوبها، في ظل الديكتاتورية، والعولمة، جاءت لفرض نظام اقتصادي، بعيدا عن سياسات إفقار الجار، التي دفعت نحو أزمات عالمية متواترة، منها الكساد العظيم، بينما تجسد البعد الأهم في منظومة القيم الغربية، فيما يمكننا تسميته بـ"الشرعية الأخلاقية".
"الشرعية الأخلاقية" للمعسكر الغربي، والتي استلهم منها قيادته للعالم، تجلت بوضوح في تعزيز مفاهيم حقوق الإنسان، وما ارتبط بها من مبادئ تقوم على المساواة والعدالة، والكرامة والحرية لكل البشر، بصرف النظر عن المعتقدات الدينية أو السياسية أو الجنس أو اللون أو غير ذلك، بينما كانت مظلة للشرعيات الأخرى (السياسية والاقتصادية)، فالديمقراطية السياسية تمثل احتراما للشعوب، والعولمة والاقتصاد الحر، تمثل ضمانا لرفاهية الإنسان، والهدف منها في البداية كان إضفاء هالة جديدة تحظى بقدر من الاحترام، بعيدا عن نظريات السياسة التقليدية، التي اعتمدت القوة العسكرية والنفوذ والسيطرة، والتي هيمنت على موازين القوى الدولية، إبان الحقبة الاستعمارية، بينما تحولت بعد ذلك إلى أداة للتدخل في شؤون الدول الأخرى، تحت ذريعة الانتهاكات، بحق فئات معينة دون غيرهم، وهو الأمر الذي ساهم في انتقاص شرعية الغرب الأخلاقية، في ظل ما اتسمت به من تمييز صريح، ولكنها احتفظت بالحد الأدنى من القيادة الأخلاقية للعالم مع غياب منافس حقيقي يمكنه مزاحمتهم على قمة النظام الدولي.
إلا أن المستجدات الأخيرة التي طرحت نفسها على العالم خلال السنوات الأخيرة، ربما كانت كاشفة إلى حد كبير عن غياب كامل لتلك الشرعية، وهو ما بدا، على سبيل المثال، في إدارة الأزمة التي يشهدها قطاع غزة، في ضوء ما ارتكبته قوات الاحتلال من انتهاكات صارخة، طالت النساء والأطفال والشيوخ، في الوقت الذي غلبت فيه التحيزات السياسية على مواقف الدول وقراراتها الدولية، وهو ما يبدو في الاستخدام المتكرر للفيتو من قبل الولايات المتحدة ضد قرارات متعلقة بوقف إطلاق النار، وذلك بالرغم من كون واشنطن طرفا في محادثات الوساطة بين الفصائل وإسرائيل، جنبا إلى جنب مع كلا من مصر وقطر، وهو ما يضرب كل الشعارات التي طالما رفعها الغرب، حول احترام الإنسان وأدميته وحقه في الحياة، عرض الحائط.
الوضع في غزة، كشف في جوهره عن فجوة كبيرة بين خطاب الغرب، وفي القلب منه الخطاب الأمريكي، من جانب، وما يمارس فعليا على الأرض، من جانب آخر، حيث أن تلك الفجوة لم يعد من الجائز قراءتها كـ"ازدواجية" معايير في الإطار السياسي المألوف، وإنما في واقع الأمر كشف انهيار كامل في المنظومة القيمية الغربية، وبالتالي خلقت فراغا جديدا في البعد الأخلاقي، وانكشافا صريحا للشرعية التي سعت القيادة الدولية الحصول إليها لتضيف إلى رصيد شرعيتها، إلى جانب ما تحظى به من تأثير سياسي واقتصادي.
الفراغ الأخلاقي والقيمي الذي ساد المجتمع الدولي، دفع إلى محاولات دولية لملأه، بعضها من الغرب نفسه، ولكن ليس في إطار تنافسي كما جرت العادة في إدارة العلاقات الدولية، خاصة في مراحل المخاض، التي تشهد انتقالا من نظام عالمي إلى آخر، وإنما في صورة أكثر تكاملية، وهو ما يبدو في صعود الدور الذي تلعبه قوى بارزة في عدة أقاليم، لمواجهة الانتهاكات الإسرائيلية في إطار إنساني.
فلو نظرنا إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، نجد أنها تنطلق من أبعاد أخلاقية، تقوم في الأساس على ضرورة وقف الحرب، وإنهاء نزيف الدماء المتواصلة منذ أحداث السابع من أكتوبر، بينما تبقى سلسلة الاعترافات المتواصلة بفلسطين، محاولة غربية، ذات هوية أوروبية، في استعادة شرعيتها الأخلاقية، بعد سقوط طويل المدى في مستنقع التبعية المطلقة، دفع بها في نهاية المطاف إلى فقدان بوصلتها التي بنت عليها مواقفها على مدار سنوات طويلة.
وأما عن الدولة المصرية، فالحديث عن دورها لا يقتصر على مجرد "رد فعل" أخلاقي، وإنما هي تمثل نقطة الانطلاق لبناء، أو بالأحرى استعادة الزخم لـ"الشرعية الأخلاقية" المهملة منذ سنوات، فمواقفها التي استبقت الحرب على غزة، حملت تلك الطبيعة الأخلاقية نفسها، وهو ما بدا بوضوح في مساعيها الإقليمية لبناء حالة تنموية مستدامة، تقوم على تعزيز الأبعاد الأمنية والاقتصادية والبيئية، وهو ما يصب في مصلحة الشعوب، ويحقق الاستقرار بعد سنوات الفوضى الناجمة عن الصراع بين أطراف المعادلة الإقليمية، والتي خلفت نزاعات أهلية، وضعت دولها على حافة الهاوية، وهو ما يعني حماية حق الشعوب التي عانت ويلات الحروب والفوضى في الحياة، وهو أول وأهم حقوق الإنسان.
الحالة التنموية التي أرستها الدولة المصرية، شهدت امتدادات واسعة، تجاوزت الإقليم الضيق نحو آفاق أرحب، بحجم ما تحظى به من عمق استراتيجي، ينطلق من الشرق الأوسط، مرورا بالمحيط الإفريقي، وحتى الامتداد الأوروبي عبر المتوسط، وصولا إلى آسيا من خلال البحر الأحمر، وهو ما خلق ارتباط تنموي بين الأقاليم، ساهمت في تعظيم المصالح المشتركة، والتي تهدف في الأساس إلى خدمة الشعوب.
إلا أن البعد الأخلاقي تجلى في أبهى صوره، مع اندلاع أزمة غزة، في ظل الحرص الكبير على تقديم المساعدات الإنسانية لسكان القطاع وفضح مخططات الاحتلال لتجويع سكانه، بهدف تهجيرهم، لتضع شركائها في العالم أمام اختبار صعب، فإما الانتصار للبعد الأخلاقي والإنساني أو التراجع عنه تماما، بينما قدمت بنفسها أكبر كم من المساعدات الإنسانية وفتحت معابرها واستقبلت المساعدات القادمة من مختلف دول العالم، وأطلعت القادة والمسؤولين، عبر تنظيم زيارات لهم إلى المعبر، على الأوضاع في القطاع، وهو الأمر الذي لم يهدف إلى استعراض وإنما إلى وضع هؤلاء القادة أمام مسؤولياتهم في مواجهة انتهاكات يرتكبها طرف مارق قصفا وقتلا وتجويعا.
وهنا يمكننا القول بأن أزمة غزة كشفت فراغا دوليا أخلاقيا، في القيادة العالمية بصورتها التقليدية، بينما عكست قدرة أطراف إقليمية أخرى على ملء هذا الفراغ، عبر سياسات تكاملية، من شأنها الانتصار للإنسان وحقوقه، بعيدا عن حالات التسييس التي هيمنت على المفاهيم الحقوقية لعقود طويلة من الزمن لتحقيق أهداف ومصالح قوى بعينها.