وجهان متقابلان متطابقان؛ أو وجه ينعكس فى مرآة مستوية. كثيرًا ما يكون المرء أكثر شبها بعدوّه من الشقيق والصديق، ويحدث أن يصير أحيانًا أقرب إلى الجبهة المضادة، وأبعد ما يمكن عن جبهته التى يقف عليها، أو يوحى ظاهرًا بالوقوف.
حالٌ مُركَّبة على أشد ما يكون التركيب، وصيغة مُلغزة من التنافر والتجاذب معًا؛ حتى لكأنها حكاية واحدة مُوزَّعة على راوِيَين، أو قناعان مُتمايزان لراوٍ واحد، كوجهَى الضاحك والباكى فى شعار المسرح الشهير.
وإن شئنا المُشاكلة؛ فالملهاة من نصيب نتنياهو، والمأساة أورثها يحيى السنوار لفصيله وبيئته، والرجلان كما لو أنهما من الطينة ذاتِها، استبدّت العداوة بكلٍّ منهما حتى قرّبته لأقصى مدى من الآخر؛ فاختلفا على كل شىء تقريبًا، واتّفقا وتوحَّدا على التجسُّد فى قالب بائس، وعلى الافتتان بالذات واعتمار قبّعة الجنون.
لفلسطين قضيّتها العادلة، ولها رجالٌ وداعمون. من جانبنا نقبض على الحقِّ المُطلق، بما لا يُداخله شَكٌّ أو يقبل مُنازعة فى السردية، ومن المقلب الآخر يحتجُّ الصهاينة علينا برواية مُغايرة تمامًا، ومعهم المكرُ والاعتقاد وانحياز القوى الكبرى.
ما يجعل الصراعات الحدّيةَ ذهابًا فى المجهول من دون خرائط أو مُؤون، وتصبُّ بالضرورة لصالح الطرف الأقوى، والأقدر على إنفاذ رؤاه بالحديد والنار.
المَظلمةُ ليست مُجرَّد تثبيت لواقعٍ ثقيل، كما لا يصحُّ تفسيرها على معنى الضعف والحطِّ من الكرامة؛ إنما هى الورقة الوحيدة حاليًا فى دفتر الملكية، والفرصة الأخيرة للنجاة من مُنازلة غير مُتكافئة.
لا معنى مُطلقًا لأن تدعو شريكًا للرقص ما لم تكُن عالمًا بالإيقاع وقادرًا على مُجاراته، والأهم ألَّا تطلبَ الحربَ وتقرع طبولَها فى غير أوانها، وعندما يكون العدوُّ أكثر جاهزيّة وأدنى إلى الانتصارات السهلة وغير المُكلّفة.
تلبّس السنوارُ قناعَ نتنياهو من دون أن يتوفَّر على مخالبه، وحرّك شفتيه بتعويذة نهاية العالم، ولم يعرف إلى أىِّ جبلٍ سيأوى.
دخل آكلُ العُشب مُنافسةً مُختلَّةً مع آكل اللحم؛ فما أصاب من الضوارى ما يُعجزها عن مطاردته، ولا كان فى خاطره أنه يُعينُ الجارحَ على الجريح، وما هو بحاجة إلى الإعانة أصلاً، إذ لم يُقصّر من قبل فى النهش والبطش والاصطياد!
أراد الحَمَلُ أن يكون أسدًا؛ فقدّم بيئتَه الآمنة وليمةً مجَّانيةً على موائد الضباع.
حُوصِر الرجلُ لأكثر من عقدين فى سجون الاحتلال. كانت التهمة أنه مُتورِّط فى دماء فلسطينيين بدعوى أنهم عملاء، وأوقع بهم عقوبة التصفية الجسدية دون مُحاكمةٍ، من خلال جهاز «مجد الأمنى» التابع لحماس.
ليس شرطًا بالطبع أن تكون الحكاية دقيقة؛ لكنَّ الجراب لا يخلو من قصصٍ شبيهة عن أعمال مارسَها ضدَّ الغزِّيين وقتَها، فيما الحركةُ بكاملها وَلَغَت فى الدم قديمًا وحديثا.
تلك أوَّل مَفرزةٍ تُباعِد بين الفصيل وحاضنته، وتضعُه فوقَهم أو بدلاً عنهم، وتُحرّره من الالتزام تجاههم؛ إلَّا على معنى الوصاية والشمولية القاهرة.
إنها جماعةٌ ربّانية؛ كما تزعمُ لنفسِها، لا تُسأل إلَّا أمامَ الله بعد عُمرٍ طويل، ولها أن تسوسَ الناس بإرادة السماء، وأن تحكُم فى رقابهم وتتحكّم وتُفاوِضَ عليهم كيفما يَعِنُّ لها.
سلوكٌ شبيهٌ يأتيه نتنياهو منذ الطوفان؛ إذ على قدر ما أنزلَه بالقطاع من مآسٍ وأفاعيل بالغة الوحشية، فإنه لا يتوقَّف عن إرسال جنوده لخَطِّ النار؛ دون اعتبارٍ للتكاليف النفسية والأخلاقية.
لا يُقيم وزنًا للأسرى، ولا يحفل بغضبة ذويهم، ويُواصل حربَه الشخصية لأهدافٍ مُحدَّدةٍ لديه. صحيحٌ أنها تُصيب منافعَ شتّى للدولة فى طريقها؛ لكنها من قَبيل الأثر العارض وغير المقصود لذَاتِه.
يُدافع النازىُّ العجوز عن الحكومة وسيرته الذاتيّة أوّلاً، وعن تصوّرٍ ضيّق يُمليه على الإسرائيليين ولو تضادَّ مع مصالحهم العميقة، وحوَّلَهم كيانًا منبوذًا فى محيطه وموصومًا أمام العالم.
ورث السنوار خطابًا عقائديًّا يُحيلُ القضية إلى عُهدة الدين، ويُبقيها صراعًا أبديًّا لا أُفق له إلَّا القيامة.
وعليه؛ صارت فلسطين وقفيَّةً إسلامية من النهر للبحر، والمُقاومة مفرزةً انتحارية لا يُسأل فيها عن العائد أو الأثر، فالموت مَفازةٌ، وما الحياة إلَّا مزرعة للقتلى والشهداء.
النمذجةُ الأُصوليَّة تقتضى أن يكون المناضلون بنادقَ مشهرةً دومًا، لا لردع الخصم أو تحفيز السياسة، إنما لمطاردة العدوِّ إلى ما لا نهاية، وإلى أن يشى به الشجر والحجر للمُجاهدين الأبرار.
يطلبُ نتنياهو الإبادةَ ويَقتدرُ عليها، ويُنادى بها «نموذج السنوار» وخُلفائه عن عجزٍ فادح فى إنجازها أو التصدِّى لها؛ لكنّهم بالنداء يُمرِّرون دعائيّة الخصم، ويمنحونه ذريعةً مجَّانية فى صندوق هدايا.
مُباريات الأقفاص المُغلقة فرديَّةٌ دومًا، أو يجب أن تكون، ولا يصحُّ أن تُخاض بالشعوب.
استدعى مُصارعُ غزَّة المُختبئ فى الأنفاق غولاً يفوقُه حجمًا ومقدرة، ويُسيّج مناطقَ نفوذه بأسوارٍ عالية، كان الإغراءُ بنَقبِها خِلسةً أوَّلَ الطريق إلى التهلكة.
ومع الفروق الكاسحة؛ فقد كان طبيعيًّا ألَّا يبرز لمُواجهته، وأن يخوض نزوته الخاسرةَ بيقينٍ هيولىٍّ عجيب؛ فإمَّا راهن على أن يعافَ المُحتلُّ صيدَه السهل، أو أن يتورَّط فيه إلى أن تُصيبه التُّخمة أو يشتعل ضميرُ المُتفرِّجين غضبًا.
هكذا بدا المُقاوِم مأخوذًا بنتنياهو إلى المُنتهى، أكان بإحراجه أمنيًّا أم باستدراجه إلى مصيدة الوَصْم والانكشاف. أمَّا الفواتير الباهظة من الضحايا ومُقدّرات الحياة؛ فكلُّها مُجرَّد خسائر فى التكتيك لا الاستراتيجية، وتَرخُص لقاء لحظةٍ من التشفّى، أو مُقامرة مُعلَّقة على كاهل المُصادفة والاستسهال.
تتحقَّقُ فى سيرة القائد الحماسىِّ الراحل صورة البطل التراجيدىِّ بتعريفها النمطىِّ الكامل؛ غير أنه لم يَسِر إلى حتفِه فردًا، بل ساق أمامَه بلدًا كاملاً بمُقاتليه ومَدنِيِّيه، شيوخًا ونساء وأطفالاً.
انتهازيَّةُ نتنياهو تحتمِلُ أنه لو كان فى مكان السنوار لارتكب الحماقة نفسها، والعكس أيضًا.
دعكَ من عدالة القضية وحقوقها المغصوبة، فشريعةُ الغابة تقضى دومًا بانتصار الأكثر ضراوةً وتوحُّشًا. أمَّا الضعيف فإمَّا أن يختبئ أو يهرب.
عمليَّةُ الطوفان كانت دراما هزليَّةً تستأسَدُ فيها الحملان، دون داعٍ أو عُدَّة؛ فتستفزُّ الجوارحَ المُسلَّحة حتى الأسنان عن غير حاجةٍ أو مصلحة، ودون استشعارٍ للمسؤولية تجاه الضحايا المُغيَّبين عن القرار والفعل.
والحديثُ هُنا ليس عن مثاليَّةٍ زائفة، ولا التماسِ المُبرِّرات لدولةٍ عُنصريَّةٍ تأسَّست على المظالم والنكبات. غايةُ الفكرة أنَّ اختلاف المواقع ليس عَرضيًّا أو بلا دلالةٍ وهدف، وقد تدور الأيام دورةً كاملةً فيصير الغالبُ مَغلوبًا، وإلى أن تحدُثَ المُعجزة؛ ينبغى ألا تُسرَق الوقائع أو تُحرَّف زورًا.
وحتى بحدوثها المستحيل، أو غير المُتوقَّع قريبًا على الأقل؛ فلن تنتهى المُعضلة غالبًا إزاء طرفين يقبضان على نصوصٍ مُقدَّسة، ويُديمان الحربَ على نيَّة التطهير الكامل، فيما لا أحدَ منهما بوِسعِه أن يشطُب على الآخر ووجودِه أصلاً.
وإن كان فيهما جناحٌ أحوج من غيره إلى مُقاربةٍ مُختلفة؛ فيجب أن يكون الأكثر تضرُّرًا من تأبيد الصراع دون أُفقٍ واضح، وإدارته بدلاً من تسويته، والاشتباك فيه بطريقةٍ تأخذُ منه دومًا ولا تُعطيه، وكُلَّما فوّتَ فرصةً كان على موعدٍ مع أسوأ منها، فيما يذوى وينطفئ وَهجُه، بينما يزداد الغريمُ اشتعالاً وانفلاتًا وتجبُّرًا.
لا يخلو الشارعُ العبرىُّ من مُعارضةٍ لنتنياهو، فيما تُكتَمُ الأصواتُ فى غزَّة رغم الرفض المُتصاعد لحماس.
يتربَّحُ الصهاينةُ جميعًا من العدوان والدم، ويُحاولون الإيحاء بالاختلاف وأنهم ليسوا على قلبِ رجلٍ واحد مع زعيمهم.
ويدفعُ الغزِّيون فواتير المأساة دون أن يكونوا إخوانًا أو قسّامِيِّين، بينما يستبدُّ بهم قادةُ الحركة ويختزلون معاشَهم ومواجعهم تحت الراية الخضراء.
القاتلُ يحتالُ على الجريمة بتوزيع الأدوار، والمُناضلُ يضعُ بالزّور مُسدَّسًا فى كلِّ يَد، ويُعمِّمُ جُرمَه على الأبرياء.
إنه الجنونُ الذى أشعل الفتيلَ من وراء الغلاف، يتناطَحُ مع الجنون الذى كان ينتظرُ هديَّةَ السنوار، وربما ما أخرجوه فى صفقة شاليط إلَّا لأجلها.
لقد اختبروه طويلاً فى سجونهم، وأنقذوه من الموت بجراحةٍ دقيقة فى مستشفياتهم، وكانوا غالبا يستثمرون فيه، مثلما استثمروا فى حركته، ويعرفون أنه سيكون «كعبَ أخيل»، ويُمكّنهم من تسديد الرمية القاتلة.
لم يطرأ ذئبُ الليكود على المشهد، ولا جاء من عدمٍ. سبقَه سلسالٌ من الوحوش ومصَّاصى الدماء: بيجين وشامير وشارون وغيرهم، ولن يتوقَّف خطُّ الإنتاج النازىّ، فيما تنحو إسرائيل بثِقَلِها لأقصى اليمين.
وما يصحُّ بشأن السنوار، يجرى على سواه من القادة الحماسيين أيضًا. كان «هنيَّة» محسوبًا على الحمائم؛ لكنه أدار وقائع الانقلاب على السلطة، وأشرف على اقتحام الحدود المصرية مرَّتين، من السطح والأنفاق.
«مشعل» عاشَ عُمرًا فى الأردن ثمّ حرَّض عليه بعد الطوفان، وخليل الحيَّة وعُصبته الإخوانيَّة يتوزَّعون فى هَواهم بين العثمانية الجديدة والشيعية المسلحة، ولكلٍّ واحدٍ منهم كَفيلٌ أو راعٍ، وكلُّهم يُدافعون عن مصالح شخصية تمتزجُ بغاياتٍ تنظيميَّة وأجنداتٍ «فوق فلسطينية».
وعليه؛ تتحوَّلُ الهزيمة الماديّة الثقيلة نصرًا دعائيًّا مزعومًا لأجل البقاء فحسب، ويُستَثمَرُ فى نكبة الغزِّيين؛ لئلا تُزاح الحركةُ من ترتيبات اليوم التالى، أو تعود مُنظَّمة التحرير للقطاع على أنقاضها.
ولا مُرادف هُنا، سوى الجنون، لتلك الحالة التى تُقدِّم الأيديولوجيا على الوطن، وتقبَلُ الموتَ للجميع؛ طالما أنَّ الجماعة لن تحيا مُتربِّعةً فوق الرؤوس والهامات.
لو تبدَّلت الأرحامُ والمَواقيت؛ لكان نتنياهو قياديًّا فى حماس، والسنوار زعيمًا لليكود، وما استشعر جمهورُ الاثنين فارقًا يُذكَر.
لُعبةُ النصوص والسرديَّات المُقدَّسة لها قانونٌ واحد، ولا تتطلَّبُ معرفةً عميقةً أو عقلاً نَيِّرًا. فى حَكايَا مُوازية، قد لا يختلف القرضاوى عن مائير كاهانا أو عوفاديا يوسف، ولا حسن البنا وسيد قطب عن زئيف جابوتنسكى، وميليشيات الإخوان وحماس والجهاد والحوثى وحزب الله أشبه ما يكون بالعصابات الصهيونية، والأخيرةُ قبل أن تُروّع الفلسطينيين طاردت اليهود وهجّرتهم لأرض المَعَاد بالإرهاب والتفجير والاغتيالات.
أمَّا الأُولى فقتلت فى بيئاتها قبل أن تقتل من العدو، أو بأكثر مِمّا نالت منه، واخترقت الدُّوَل وَسَعت لتفخيخها من داخلها لمطامع فئويّة. واليومَ يُزايدون على الجميع بقَدر ما يتنكَّرون لخطاياهم، ويُدَفّعون عناصرَهم لحصار السفارات المصرية فى الخارج، دون أن يُكلِّفوا أنفسَهم عناء التصويب على المُدان الفعلى، والذهاب إلى بعثات تلّ أبيب الدبلوماسيّة مثلاً على مَرمى حجرٍ.
وثمَّة ظلالٌ فِقهيَّة لتلك السلوكيات، وتنظيراتٌ فجَّة عن أولوية العدوِّ القريب على البعيد.
لم تكن أحداث 2011 واقتحام السجون ومُؤازرة خطط الإخوان من أعمال المُقاومة الحماسيَّة إطلاقًا. وما كان اغتيال حزب الله لرفيق الحريرى والإغارة على بيروت بالسلاح أيضًا، وكذلك جنايات عبد الملك الحوثى وعصاباته ضد اليمنيِّين العُزّل، وبطش الجولانى وميليشاته بالأقلّيات السورية فى الساحل والسويداء، مُقابل التراخى وطأطأة الرأس أمام الاحتلال الماثل جنوبًا وشمالاً.
كُلُّها خصوماتٌ تقدَّمت فيها عداوة الأيديولوجيا على أُخوَّة الوطن وهُويَّته الجامعة، وكانوا فيها صهاينةً بالمُمارسة العَمليّة؛ وإنْ ادّعوا أنهم مُصلحون ومُناضلون بالخطاب. ولو تبدَّلت المَواقعُ بين المُمانِعة وكابينت الحرب؛ لَمَا انحرفت الدراما فى مشهدٍ أو جُملة حوار.
وليس أكثر فجاجةً أو تعبيرًا عن الامتزاج الحرام بين التيّارين، من تلك الدعوة التى ساقها ما يُعرَف باتحاد الأئمَّة فى إسرائيل، للتظاهُر أمام السفارة المصرية فى تل أبيب.
رسالةٌ من الجماعة الإسلامية بجناحَيها: الشمالى القريب لحماس، والجنوبى المُتحالف مع يمين الوسط الصهيونىِّ بنكهةٍ إخوانيّة خالصة.
وبعيدًا من أنه لا سفيرَ للقاهرة هُناك أصلاً، وأنهم مُواطنون إسرائيليّون بإمكانهم التأشير بأصابع الاتهام نحو المُجرم الحقيقى؛ فالفعاليَّة يُقصَدُ منها التشغيب ومُواصلة مسار الدعاية الوقح، بما يَصُبُّ فى اتّجاه خلط الأوراق، وإدامة التخادُم بين الأُصوليَّات المُتطرّفة على الناحيتين.
السنوار أضرَّ بفلسطين وقضيَّتِها كما لم يفعَلْ الصهاينةُ، ونتنياهو أخطر على إسرائيل من كلِّ خصومِها الأُصوليِّين، وكلاهما خنجرٌ فى خاصرة المنطقة وأهلها الساعين إلى التعايُش السِّلمىِّ والمُساكنة العادلة.
وما من لحظةٍ ارتدَّ طَرَفٌ منهما عن دول الإقليم؛ إلَّا بادر الآخر بالتعدى عليها. وعلى هذه الحال؛ انتظمت اللعبةُ فى مُداولةٍ، عفويَّة أو مُتَّفَق عليها؛ لكنها كانت تضيفُ لأحدهما أو كليهما، بقَدر ما تخصم من الواقعين فى شَرَك تنويعاتهما الأُصوليَّة المُتشابهة.
والاختلافُ تلك المرَّة أنهما اشتبكا على نطاقٍ واسع، وتقطَّعت بهما سُبل الوفاق وتوزيع الأدوار، وكان «الطوفان» مطمعَ أصحابه الذى أوردَهم مواردَ الهلاك.
لو خُيِّرَ نتنياهو فى الطوفان لَمَا تردَّد لحظةً فى اختياره، ولو كان بمَقدوره أن يمنعَه ما فعل؛ لأنه كان يتمنّاه أصلاً.
أمَّا «السنوار» فإذا تدبَّر عُمرَه كاملاً فى العواقب، ما كان ليعودَ عن نزوته؛ ولو اطَّلع على الغيب وعاين المآلات.
كان القرارُ نابعًا من عَقليَّةٍ مُختلَّة أو مُوجَّهة، وأقرب إلى الأخذ بالمَخانق لتوريط الآخرين فى مُقامرة الإرباك وتسييل الخرائط، وما تعذّر على السلاح يُصارُ إليه اليومَ بالعواطف والمُزايدات، وآخرها إطلالة خليل الحيَّة مساء الأحد، ومُخاطبته للمصريين بالاستعطاف والتحريض على الزحف ومُحاصرة السفارات، بدلاً من إلزام الحركة بمسؤولياتها، والتواضُع أمام خطاياها الثقيلة، والاعتذار من ضحاياها، وشجاعة الاعتراف بأنَّ لا شىء يفوقُ فشلَها فى الحرب، إلَّا انتهازيَّتها ووضاعتها وجهلها بالسياسة والأخلاق والاستقامة الوطنية.
الإسلاميون الحركيّون كُتلةٌ من العِلَل والمُراهقات. والحماسيِّون جميعًا مَخروطون على قالب واحد، من أدنى فردٍ إلى أرفع قيادة، ولا فارق بين السنوار قديمًا والحيَّة حاليًا؛ إلَّا فى اختلال الأوَّل واندفاعته، أو لنَقُل من وجهٍ آخر إنه جُبن الثانى ورماديته.
وفيما مات حارقُ المراكب فى الميدان، يتنعّم الراقصُ على الجُثث فى الفنادق، ويمتدُّ بطنُه مترًا إلى الأمام؛ بينما يتحدَّثُ من طرفِ اللسان عن جوعى القطاع، فلا يُطابقُ خطابُه مُقتضَى الحال لقيادات الشتات، ولا خَزين الحماسيِّين فى الأنفاق وسَطوهم على شاحنات المساعدات.
دناوةٌ لا تتأتَّى إلَّا من الصهاينة، وتناقضٌ يَنُمُّ عن انحطاطٍ قارّ فى وعيهم وتحت جلودهم، يُجيزُ لهم أن يستحلّوا دماء الغزِّبين، وأن يُعينوا نتنياهو على استحلالها، ثمَّ يُلهون الآخرين لإسقاط ما فيهم على مَن يفوقونهم شرفًا وأمانةً واحترامًا للجغرافيا والديموغرافيا، ولنكبةِ البلد المُضَيَّع فى تُجّاره، ووجيعة أبريائه المنكوبين دون جنايةٍ أو مَنفعة.
وعلى كلِّ ما يُقال فى سَفّاحى إسرائيل وقادتهم؛ فإنهم أعداءٌ فى النهاية، ويرتكبون ما جُبِلوا عليه أو ينتفعون منه؛ أمَّا المأساةُ كُلُّها فتتلخَّص فى النار المطمورة فى الفراش، الخنجر القريب عندما يتحوَّل طابورًا خامسًا، ويطعَنُ الخاصرةَ من نقطة الصفر.
المناضلُ الذى يتكشَّفُ مع الوقت أنه أداةٌ رخيصةٌ مُستتبَعة، يُحرِّكه المُموِّلون والمصالح الدَنيّة يمينًا أو يسارًا، ويُصلِّى لكلِّ قِبلةٍ إلَّا فلسطين، فيما يُميتها بأمر الرُّعاة ليحيا فى كنفهم، أو يُعظّم مكاسبهم من المُكايدة والبحث عن أدوارٍ غير مُستحَقَّة.
يأكلُ على كلِّ مائدةٍ تُعاديها فى العمق، ويُوَظَّفُ للنَّيل من أُصولها وحزامها اللصيق، وينظر فى مرآته فلا يُرَى منه إلّا وجه نتنياهو القبيح، بفارق العمامة أو عصابة الرأس القسَّامية، عن القلنسوة والنجمة السُّداسية الزرقاء.