حازم حسين

شهادة أولمرت على تل أبيب ونتنياهو.. عندما يختلف سفّاحو إسرائيل فينكشف وجهها الوقح

الأربعاء، 16 يوليو 2025 02:00 م


من الطُّرَف الذائعة أنَّ كاتبًا مغمورًا احتجَّ على الأديب الانجيلزى اللامع برنارد شو، ربما فيما يخصُّ فارقَ المكانة والحظّ من الانتشار، بأنه يكتبُ لأجل الشرف، فيما يكتبُ غريمُه المُتخيَّل بالطبع طلبًا للمال، فردَّ العجوزُ المُجرِّب ببديهته السريعة واللاذعة: معك حقّ، فكلٌّ مِنّا يبحث عَمّا ينقصه، فقُلِبَ الحِجاجُ عليه بالمُفارقة، وهُزِمَ بالسلاح الذى استمدّ منه الافتخار، وتصوّر فيه الضربة القاضية للفوارق الراسخة ماديًّا ومعنويًّا.

ولعلَّ شيئًا من هذا القبيل يحدُثُ فى غزَّة اليومَ، محمولاً على إفراط إسرائيل فى السردية التطهُّرية، ومساعيها الدؤوب للتضليل وتشويه المفاهيم.
ولئن كان القياس مع الفارق طبعًا، فالفكرة نفسها صالحةٌ للتمرير من الشخصىِّ إلى العام. ومن التمايُز فى مَلَكَةٍ إبداعيَّة من صميم أفعال التحقُّق البشرىِّ المُثمر، إلى الاجتهاد فى إنكار جرائم بدائيَّة تتجسَّدُ فيها أعلى صُوَر التوحُّش، وتُعبِّر عن أردأ ما يُخالط السوية الإنسانية، عندما تستلبها الأيديولوجيا أو تتسلَّط عليها الأطماع الاستعمارية.

وذلك، كما كان الحال بالضبط فى كلِّ تجربة غزوٍ واحتلال طيلةَ العقود الماضية، مع فارق أنَّ الصهيونية تتفوَّق على أسلافها بنكهةٍ إحلاليَّة إلغائيّة مُغرقة فى الإبادة، ومُفرطة فى التبجُّح وادِّعاء مِثاليَّةٍ أخلاقيَّة تتضادّ مع الوقائع الماثلة، وتتعثَّر فى تناقضاتها الذاتيّة، حتى لَيَبدو الخطاب فجًّا وغير مُقنعٍ للبيئة ذاتِها، ولبَعض صُقورها المعروفين بالمُغالاة فى العداوة والولوغ فى بحور الدم.

يزعُم الصهاينة طوال الوقت أنهم يخوضون حروبًا عادلة، وأنَّ لديهم الجيشَ الأكثر أخلاقيَّةً على الإطلاق. وكلَّما توحَّشَ ساستُهم ومُقاتلوهم فى الإبادة الجماعيَّة وجرائم الحرب، أفرطوا فى دعايات الطّهرانية والمُثُل، وكثَّفوا الرسائل المُلفَّقة باستخفافٍ عظيم بالعقل والضمير، وباندفاعة تُلامسُ منطقَ «يكاد المُريب يقول خذونى».

ولأنَّ الخرقَ اتَّسع على الراتق، فما عاد الكلامُ وحده كافيًا لسَتر العورات، فكان اللجوء إلى هندساتٍ شكليَّة لبعض الأفعال التى تنطوى على مهمَّة مُزدوجة: تمرير السياسات العدوانية والاستحصال على أثرها الكامل، بمُوازاة الاضطلاع بأدوارِ العلاقات العامة وغسل السمعة. وهو ما يتحقَّق بوضوحٍ فى انتحال صِفَة «الإنسانية» مُؤخَّرًا لاثنتين من أسوأ المُمارسات الحيوانية على الإطلاق.

التجربة الأُولى أخذت طابعَ الشراكة المُباشرة مع الولايات المتحدة، لا فى كَبح النازية الإسرائيلية وإسناد جهود الإغاثة وتجنيب المدنيِّين مغبّة العدوان، بل فى تسليح المُساعدات وإحكام الحصار على الجوعى، مع مُواصلة الترصُّد العَمدىِّ للمُؤسَّسات الدولية المَعنيَّة بالملف وخنقها بغِلظةٍ واعتساف.

مُنِحَت اللعبةُ مُسمَّى «مُؤسَّسة غزَة الإنسانية»، وسُجِّلَت فى سويسرا والولايات المتحدة، تحديدًا ولاية ديلاوير موطن الرئيس السابق جو بايدن، على أن تكون وظيفتها تدبير المُؤَن والضروريَّات المعيشية لِمَا يزيد على مليونين فى القطاع، وتحييد وكالة أونروا وبقيَّة الفعاليَّات الرسمية والأهلية الشبيهة.

وفى غضون ثلاثة أشهر أو أقلّ من التأسيس تكشَّفت الحقائق، وقُتِلَ مئاتُ المنكوبين العُزّل فى محيط مقرَّاتها الثلاث، وتوالت الإدانات من الحكومات والجهات الدولية ومنظمّات المجتمع المدنى. استقال مديرُها الأوّل شافعًا قراره بانتقاداتٍ صُلبة، ليُعَيّن قِسٌّ إنجيلىّ فى موقعه، كما قرَّرت سويسرا حلَّ الفرع المُسجَّل لديها.

بدت الشُّبهة واضحةَ بحقِّ فريق عملها، المُشكَّل من ضباط وعملاء سابقين فى الاستخبارات الأمريكية، وأنهم ليسوا أكثر من واجهةٍ لجيش الاحتلال، يُؤازرون نشاطه القتالى الهائج، ويُوفِّرون له غطاءً مُخادعًا لاصطياد الأبرياء الزاحفين على بطونٍ خاوية.

أمَّا النسخة الثانية فإنها معروضةٌ على النقاش العام اليومَ، وتُثير قدرًا واسعًا من الجدل داخل تل أبيب وخارجها، ومع الدُّوَل الصديقة للمشروع الصهيونى أو المُنحازة بحيادٍ مزعوم، وصولاً إلى مُداولات الهُدنة التى دخلت أسبوعها الثانى فى العاصمة القطرية.

والفكرة أنْ يحتفظَ جيشُ الاحتلال بالسيطرة على منطقةٍ واسعة من رفح، بين محورى موراج وفيلادلفيا، ويعمل بعدها على تدشين مُعسكر خيامٍ يمنحُه اسم «المدينة الإنسانية»، ويحشرُ فيه نحو 600 ألفٍ كمرحلةٍ أُولى، على أن يكون الوصول إليه وفقَ إجراءاتٍ أمنيَّةٍ مُشدَّدة، ودون السماح بمُغادرته لاحقًا.

ما يسمح لهم بإعادة توزيع الكتلة الديموغرافية بحساباتٍ تُتيح السيطرةَ العسكرية وحرية العمليات شمالاً، وتُمهِّدُ الطريقَ فيما بعد للتهجير قسرًا أو طوعًا. وفضلاً عَمَّا وراء الأمر من نوايا سوداء، فإنه ينطوى على جريمةٍ موصوفة وفقَ القوانين الدولية وأعراف الحرب نفسها.

لم يَكُن الخلافُ على الأُطروحة خارجيًّا فقط، بل تفجَّر داخليًّا قبل أن تخرُجَ للعَلَن أصلاً، وكان الجيش ورئيس أركانه إيال زامير، المُعيَّن بقرار نتنياهو واختياره الخالص، أوَّلَ المُختلفين عليه لاعتباراتٍ تنظيمية وعملياتية، مُنطلِقًا فى موقفه مِمَّا يَعُدّه تمهيدًا للسيطرة العسكرية طويلة المدى، وتحميلاً له بأعباء إدارة وتنظيم الحياة اليومية، وما يخصُّ معاشَ طوفانٍ بشرىٍّ على حرفٍ من المجاعة والانفلات الكامل.

ولأجل الانتقال من الرفض المبدئىِّ إلى التعطيل العملىِّ، أعدَّ خطَّةً تستغرقُ عامًا تقريبًا، وتتكلَّف نحو 15 مليار شيكل «3.6 مليار دولار»، ما دفع رئيس الحكومة للاعتراض عليها، طالبًا التوصُّل إلى بديلٍ يُقلِّصُ الوقتَ ويُرَشِّد النفقات.

أمَّا الصدمةُ الكُبرى للائتلاف الحاكم، فجاءت من السياسى اللامع ورئيس الحكومة الأسبق إيهود أولمرت. إذ قال فى تصريحاتٍ صحفية إنَّ المدينةَ المُقتَرَحة ليست أكثر من معسكرِ اعتقالٍ جماعى، وتُؤكِّدُ شكلاً واضحًا من أشكال التطهير العرقىِّ فى غزَّة، مُستخلِصًا أنَّ الجيش يُمارس فِعليًّا أعمالَ إبادةٍ وجرائم حرب فى القطاع.

وفيما يُوازِنُ ائتلافَ الليكود بعضَ الانتقادات الشبيهة، من لابيد وليبرمان وغيرهما من أحزاب اليمين والوسط، بدعوى الاختلاف السياسى وتشغيب المُعارضة المعتاد، فإنَّ الآليَّة نفسَها غير صالحةٍ للتفعيل مع زعيم كاديما السابق، وقد انطفأ حزبُه وغاب عن الساحة، ولم يَعُد الرجلُ مُنافسًا أو ساعيًا للسلطة. فضلا عن أنَّ يساريَّته الواضحة لا يُحتَجُّ بها إطلاقًا على الترصُّد لنتنياهو أو الكَيد له والمُزايدة عليها، وهُما عَمليًّا من طينةٍ واحدة فى اتّهامات الفساد أو جرائم السياسة والحرب.

سبقَ أن حُوكِمَ أولمرت وسُجِنَ فى وقائع رِشَى شبيهةٍ بالتى يُحاكَمُ بها زعيمُ الليكود حاليًا. بَيْدَ أنّه كان صقرًا مُتغطرسًا أيضًا فى مرحلةٍ سابقة، وخاض حربين كُبرَيَين فى أقلِّ من ثلاث سنوات تقلَّد فيها الحُكم بين مايو 2006 ومارس 2009: الأُولى بعد شهرين فقط من بدء ولايته فى مُواجهة حزب الله على الجبهة اللبنانية، والثانية قبل ثلاثة أشهر من رحيله بعملية «الرصاص المصبوب» الشهيرة ضد غزَّة أواخر العام 2008.

أى أنَّ للرجل سيرةً سياسية تُشبه قائدَ إسرائيل الحالى، واشتبك مع الأعداء أنفسهم، ومارسَ اعتداءاتٍ مُتطابقةً مع ما يُمارَسُ اليومَ، وإنْ اختلفت حِدّتها ومَدَاها الزمنى.

لسنا إزاء سياسىٍّ طاهر اليد، ولا واحدٍ من الحمائم فى بلدٍ لم يعرف إلَّا الصقور والمخابيل وسفّاكى الدماء. وعليه، فإنَّ النقد من تلك الجهة تحديدًا يكتسبُ قيمةً أعلى، ويدلُّ على انفلاتٍ إجرامىٍّ فجٍّ لدرجة أنه لا يَمُرُّ بيُسرٍ على مُجرمٍ عتيدٍ آخر.

فالاختلافُ لا ينحصر فى الأُمَم المُتَّحدة وبعض مرافقها، ولا فى دُوَلٍ يتسلّط عليها شىء من وخز الضمير وحرارة المأساة، أو شباب جامعاتٍ تكويهم المآسى وتُقلّبهم على جمرِ الاستنكار والعجز، إنما يتفجَّرُ من داخل البيت، وعلى لسانٍ لطالما انحاز صاحبه للسرديَّة ذاتها، وَروَّجها، ومن سيكولوجيَّةٍ تقبَّلت القتلَ ومارسَتْه بلا رادعٍ أو تعقُّل.

فيما يستعصى فى المُقابل على اتهامات الأُصوليَّة ودعم الإرهاب ومعاداة السامية، أن تُنجز وظيفة الترهيب والتحييد، أو تطعن فى جدّية الموقف وجدارته. وليس هذا لموثوقيّة القائل، إنما لأنَّ قولَه يُشبه اعترافَ القاتل، ويُقيم الحُجّة على شُركائه وبقيَّة الطَّيف ضمن العصابة الواحدة.

وخروجًا من شهادة أولمرت التى لا نحتاجها، وإنْ قدّمت دليلاً موثوقًا ومُضاعَفًا على مدى التردِّى والانحطاط الأخلاقى لدولة الاحتلال، فالواقع أنَّ التناقُضَ العميق فى مُقاربة المُمارسة ينسحبُ بالضرورة، ومن دون جهدٍ، على اللغة أيضًا، فلا يعود الاختلاف على عدالة الفعل وتناسُبيَّته فحسب، بل على انتحال التسمية والتلطِّى وراءها، تعويضًا عن شرخٍ حادٍّ يمَسُّ صُلب الحالة الإسرائيلية ونظرتها لنفسها والآخر.

فإذا كان الكيانُ المُلفَّق قد تأسَّس بالأصل على ترويع الآخرين واغتصاب حقوقهم، وتربَّح المُنخرطون فيه جميعًا من عوائد السلوكيات العدوانية ومنافعها المادية والمعنوية، فإنَّ شِقاقَهم واشتجارهم فيها اليومَ يُعبِّران عن خلخلةٍ عظيمةٍ تضربُ العُمُد التى انبنت عليها التجربةُ من الأساس، وتشى بأنَّ الصهيونية تُعانى من داخلها ضمورًا عقائديًّا، وشعورًا عارمًا بالهشاشة والتداعى وانعدام المشروعية.

صحيح أنها أقوى من خصومها جميعًا، وبما لا يُقاس أو يتقبَّل المقارنة، لكنها لا تُمارِسُ لعبةَ المُراوغة والخداع بتيقُّنٍ وتسليمٍ كامِلَين، بل بالإيغال فى الأكاذيب عن قصدٍ وسبق إصرار، ومع انكشافٍ داخلىٍّ حادّ، وغيابٍ للقُدرة على تصديق أكاذيبها، أو إلباسها قلنسوة الحق وإدخالها على القريب قبل البعيد.

وبالمنطق ذاته، فإنَّ اختلال السردية والتعثُّر فيها يُشكِّلان قيدًا على تطبيع الصهاينة مع ذواتهم وبيئتهم نفسها. أكان لجهةِ ادِّعاء الفردانية الإقليمية فى تقديم نموذجٍ ديمقراطىٍّ غربىٍّ مُتقدّم، ضمن سياقٍ شرقىٍّ شمولىٍّ مُتخلِّفٍ وقبائلىّ، يينما يُنَصِّبُ نتنياهو نفسَه مَلِكًا أُسطوريًّا لليهود واليهودية، ويتلاعَبُ بإرث الآباء، سعيًا إلى تكييف منظومة الحُكم بما يتناسَبُ مع طموحاته الخاصّة.

وعليه، تتحوَّلُ عناصرُ قوّة المشروع إلى نقاط ضعفٍ بنيويَّةٍ مَاسّة بأُصوله ومُهدِّدَةٍ له، ومنها مثلاً غياب الدستور المكتوب أو الامتناع عن ترسيم حدودٍ نهائيَّة واضحة للدولة، لأنهما مثلما يُوفِّران حاضنةً ديناميكيَّةً مُعِينَةً على التجدُّد والتمدُّد، يحملان بالكيفية ذاتها مخاطر السيولة والذوبان فى الآخر، أو تآكُل التجربة من داخلها، وبالأكاسيد الحارقة التى تُهدِّدُ بها الأغيارَ طوال الوقت.

وإذ يرى العقلانيِّون فى المنطقة أنَّ إسرائيل صارت أمرًا واقعًا، وحقيقةً لا يُمكِنُ التصدِّى لها بالتوهُّم أو الإنكار، فإنَّ القناعة نفسَها ليست راسخةً على ما يبدو فى وعى الإسرائيليين، ويملؤهم الشعور بأنهم دولةٌ طارئة على نسيجٍ مُتجانس، ومُتأهَّبٍ دومًا لأنْ يلفظَهم تمامًا عندما تسنَحُ الفرصةُ أو تواتيه اللحظةُ المُناسبة.

وبهذا التصوُّر، لا تحضُر السياسةُ بوَصفِها أداةً لإدارة التناقُضات مع المحيط، بل للاحتيال عليه. كما لا تأخذُ الحربُ طابعَها التقليدىّ المُعتاد كمَنفذٍ غير اعتيادىٍّ إلى جَبْر التناقُضات، بالمُواءمة أو الحَسْم، ثمَّ إعادة الكُرة إلى ملعب الحوار والمُقاربات الموضوعية المُتوازِنة، ما يعنى أنَّ الأدوات الواحدة يُعَادُ تعريفُها من زوايا شَتّى، وتُسبَغُ عليها معانٍ ووظائفُ ليست من صميم أدوارها أصلاً، أو على الأقل لا تضمنُ لها الانتظامَ والفاعليَّة الدائمَيْن، لأنه لا حروبَ أبديَّةً ولا صفقات رابحة على طُول الخط، والهاجس الذاتىُّ إذ يُبقِى السلاح والدبلوماسية خارجَ مجالَيْهما الطبيعيِّين، فإنه يُعبِّرُ عن أزمة صاحبهما بأكثر مِمَّا يُخَلِّقُ المُعادلات الظالمة، ويحرسُها من الخصوم المُتحفِّزين.

بإمكان تل أبيب أن تظلَّ فوقَ الطبيعة والقانون والإنسانية، طالما تملكُ المَقدرَةَ ويتأمَّنُ لها غطاءُ الرعاية الغربية، إنما لا يمكنها أن تتوقَّى من تداعيات الاستثنائية تلك، أو تضمن البقاء دومًا فى مأمنٍ من الغضب، ولا أن تنتزع من مناوئيها تسوياتٍ نهائيَّةً تتساوَى فيها الكرامةُ مع المهانة، والوجودُ مع العدم.

يتعثَّرُ الصهاينةُ فى السياسة والحرب، لأنهم لا يعرفون كيفية الانتقال بينهما بسلاسةٍ واعتدال، أو لا يعرفون أنفسَهم من قُربٍ وعلى وجه الدقّة. لقد حُمِلَ المشروعُ على أكتاف العلمانيِّين، ودعَّمَه العالمُ الأنجلوساكسونى ليكون مَسربًا للخلاص من اليهود، وتعويضهم، وامتلاك بديلٍ كولونيالىٍّ عن الاستعمار المُباشر وحقبته الآفلة.

والآباء جمعوا بين المُتضادَّات فى باكورة الدولة وإرساء دعائمها، لتختلط شروحاتُ الماركسيَّة بنصوص التلمود والتناخ، والفكرة الوطنية بالقومية الدينية، والمَأسَسة بالعِصابيَّة وانفلات الميليشيا.

وكما تتضخَّمُ كُرةُ الثلج بالدوران، فإنَّ المكاسب والانتكاسات نفخَتْ فى الروحَ وكبّلت الجسد، فصار العقل الإسرائيلىُّ ماردًا فى قُمقم، أو مُستعمِرًا كبيرًا فى جسدٍ صغير، ولا قابليّة لديه لأن يتعملَقَ أو يكون امبراطوريَّةً أبدًا.

وهُم اليومَ يقبضون على الزَّعْم المَدنىِّ بيَدٍ، ويرفعون الصِّفَة اليهودية الخالصة بالثانية. يبيدون ضحاياهم بنازيَّةٍ تعلو على ما عرفوه فى أفران هتلر، ويتحدَّثون عن الإنسانية كما لو كانوا فرعًا للصليب الأحمر. ولا تخلو الحال من الانتحالية والاحتيال قطعًا، لكنها أقربُ جدًّا فى الحقيقة إلى الاعتلال والخلل النفسى.

إسرائيلُ مريضٌ عقلىٌّ يتعذّر شفاؤه، غيرَ أنّه يجهلُ عِلّته أو لا يعترف بها، ويُطلقه عالم الشمال على أبرياء الجنوب دون مُراعاةٍ لإنسانيّتهم، ولا لأنّه يحتاجُ للعلاج أو العقاب.

وليس أسخف من توقيع نتنياهو وثيقةَ ترشيح وتزكية ترامب لجائزة نوبل، إلَّا أن يُحتَجَّ على الأُمَم المُتَّحدة والمُؤسَّسات الإغاثية المُنبثقة عنها أو المُتحالفة معها، بشهادة المُتطرِّفين فى حكومة «بى بى» والنازيِّين فى عصاباته المُسلَّحة، وأن يقبَلَ الغربُ منه سرديَّة الإنسانيَّة التى يحتال بها على النقد والاستهجان، ويُمرِّر من خلالها نزوات الإبادة والتطهير وابتلاع الجغرافيا.

بل الأدهى أن يُشاركه المُتحضّرون فى جنايته، كما فى حال المُؤسَّسة «نصف الأمريكية» المُكلّفة بإطعام البنادق وتصفية الجوعى، أو يعينه على تسويق نسخةٍ عصرية من مُعسكر أوشيفتز النازىِّ تحت صِفَة مدينة الخيام فى رفح، ويتقبَّل أن تكون الفكرة الوقحةُ موضوعًا للحوار أصلاً، فى الخفاء أو العلن.

وأن يكون التفاوض على ورقة مبعوث ترامب وتعديلها القطرى، مُقدِّمةً لتجميد وقائع الميدان، وتحريك أجندة اللعب بالديموغرافيا والاستعراض على جوع المدنيِّين، وحَشرهم فى فُرنٍ كبير يَبنيه الجيشُ الصهيونىُّ، ويحرسُه، ويُوقِدُ من حواليه النار.

إن رمزيّة الشهادة التى ساقتها الأحوال على لسان أولمرت تتّسع بما يتجاوز مجال المَقتَلة الراهنة، فإذا كان يدين ما يلغ فيه الصهاينة من دماء الغزيِّين راهنًا، فالبديهة يُصوِّب على نفسه فى الوقائع المثيلة قبل نحو عقدين، وعلى آخرين سابقين من زمن التأسيس إلى الآن. ويُبرهن بهذا عَمليًّا على أن جانبًا عريضًا من الصمت فى إسرائيل، إنما يتأسَّس على التواطؤ أو إبراء الذمّة، لا عن الاقتناع بعدالة الموقف واستقامة السلوك، وقد تردَّدت انتقادات ناعمة نسبيًّا من بينى جانتس وآيزنكوت وغيرهم من العسكريِّين السابقين، وجميعهم مارسوا القتل وأياديهم مُلطّخة بالدم الحرام.

كأننا إزاء عصابةٍ تتواضع على الإجرام، وتقتسم مغانمه، وعلى صلابة الصمغ الذى يربطهم بالسرديّة الصهيونية، فإن الاختلاف السياسى أو الانزعاج الضميرى كافيان أحيانًا لإخراجهما عن الخطوط الحُمر للدولة ومشروعها، ودفعهما عفوًا أو بسوء التقدير إلى إظهار وجه إسرائيل الوقح، وإقامة الحجّة على الماضى والحاضر والمُستقبل بضربةٍ واحدة.

إنها سبيكة إجراميّة لا تنفصل ذرّاتُها، ولا ينوب فيها مُجرمٌ على رأس الحكومة مثل نتنياهو، عن الإدانة المُعَمَّمة على مُجتمع كاملٍ، يتشارَكُ بحماسةٍ فى عَجن فطيرة الدم وخَبزِها والتلذُّذ بمذاقها اللاذع، ويكذب على نفسه والعالم، ويتعثّر فى أكاذيبه بين وقت وآخر، لأنه لا كذبة كاملة على الإطلاق وطوال الوقت، ولأن وحشية إسرائيل ووقاحتها وفساد قادتها وإجرام عساكرها فاقت الحدود كلّها، وتعرَّت أمام القريب والبعيد، بل ما عادت قادرةً على إقناع أصحابها أو ضمان سوائهم النفسىّ.

قطيعٌ من النازيِّين الجُدد، فيهم جوبلز ببوق دعايته، وبينهم من يجمعون الحطب أو يضخّون الغاز ويُوقدون النار ويُدفِّعون الضحايا إليها. كُلّهم موصومون ولو أنكروا أو تطهّروا، طالما يُقرّون المُرتكبين ويقتسمون العوائد ولا يُجاهرون بالحق أو يستنقذون المنكوبين. ربما تختلف الأدوار وتتبدّل وتتفاوت أحجامها، لكنهم جميعًا شركاء فى المحرقة.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب