مدرب وباحث بالمجلس القومى لحقوق الإنسان
رغم أنني من مواليد القاهرة، فإن جذوري تمتد عميقًا إلى إحدى قرى الصعيد، حيث نشأت العائلة، وتسكن الذكريات، وتُروى الحكايات التي لا ينساها القلب.
كانت زيارتي الأخيرة للقرية حزينة في ظاهرها؛ فقد فقدنا أحد أقاربي الأعزاء، فرجعت إلى الجذور لأداء واجب العزاء وتوديع من ترك فراغًا كبيرًا. لكن المفاجأة التي لم أتوقعها، أنني وجدت القرية قد تغيرت… بل تحولت.
قريتي لم تَعُد كما كانت.
مشهد جديد كان في استقبالي:
- الطرق ممهدة ومنظمة بعد أن كانت ترابية وصعبة.
- مشروعات مياه الشرب والصرف الصحي أُنجزت بالفعل.
- وحدة صحية حديثة تقدم خدمات متطورة للأهالي.
- مركز شباب نشط ومجهز، صار متنفسًا حقيقيًا لأبناء القرية.
- مشروع توصيل الغاز الطبيعي أنهى معاناة سنوات مع أنابيب البوتاجاز.
- وشبكة حديثة لتوصيل الإنترنت دخلت الخدمة، تربط القرية بالعالم، وتفتح أبوابًا جديدة للتعليم والعمل والتواصل، خصوصًا لأجيال الشباب.
هذه المشروعات وغيرها تم تنفيذها في إطار مبادرة "حياة كريمة"، التي تجسدت على أرض الواقع في كل ركن من أركان القرية.
وأنا أسير بين هذه التغيرات، لم تغب عني لحظة أن لعائلتي بصمة راسخة في مسار التنمية منذ زمن بعيد.
فمنذ سنوات، كان عمي الراحل من أوائل من تبنوا فكرة التعليم كأداة للنهضة، وساهم في بناء مجمع مدارس متكامل (ابتدائي - إعدادي - ثانوي)، أُطلق عليه "مجمع الواحي".
بدأ المشروع بمجهود ذاتي، ثم استُكمل التطوير تباعًا بدعم الدولة، ليصبح اليوم صرحًا تعليميًا يفخر به الجميع.
ولم تكن هذه هي البصمة الوحيدة للعائلة،
فقد كان والدي رحمه الله هو أول معلم في القرية، ومن أوائل الرواد الذين آمنوا بأن العلم هو طريق الكرامة والنهوض.
ببساطته وإصراره، أصبح قدوة للطلاب، ومصدر إلهام لكثير من أبناء القرية ليكملوا تعليمهم، ويصبحوا فيما بعد معلمين وأطباء ومهندسين.
كان والدي لا يعلّم فقط، بل يغرس في قلوب التلاميذ معنى الحلم والانتماء.
في تلك اللحظة، شعرت أن الحزن على الفقيد يخف قليلاً أمام مشهد الحياة وهي تعود إلى قريتنا.
أحاديث الناس، ونظرات الفخر، والانتماء الحقيقي الذي لم يُمحَ رغم السنين، كل ذلك أعاد لي يقينًا قديمًا:
أن القرى لا تموت… بل تنهض حين تجد من يراها ويؤمن بها.
قال لي أحد أهالي القرية:
"إحنا النهارده بنعيش حياة عمرنا ما تخيلناها… وبنحلم لأولادنا بالأكتر."
خرجت من القرية وفي قلبي مزيج نادر من الحزن والفخر والامتنان.
حزن على من ودعناهم،
فخر بما تحقق،
وامتنان لأن جذوري تنتمي إلى هذا المكان العظيم.
عن قرية الفيما – اسيوط اتحدث