حازم حسين

افتكاك غزة من أوحال الطوفان.. عن الاحتلال والهدنة العالقة بين إنكار عظيم وخيال قديم

الأحد، 13 يوليو 2025 02:00 م


ما تزال الهدنة حلما بعيد المنال حتى الساعة؛ رغم ما يردده الأمريكيون عن تفاؤلهم بقرب الوصول، وما يبذله الوسطاء المصريون والقطريون من جهود حثيثة لردم الفجوات المتسعة بين المقترح الموضوع على الطاولة، وتصورات الحماسيين والصهاينة بشأن الصفقة الموعودة.
الورشة الراهنة أقرب من سوابقها؛ لكنها بعيدة عن التوافق المثمر، فيما تكتفى واشنطن بالشعارات، ولا تنزلها على الأرض فى مقاربة عملية صالحة للإنفاذ الفورى، وضامنة للانتقال السلس بين المراحل.


الطوفان هو العنوان السائد، بين مسعى الفصائل للإفلات من تداعياته، واندفاعة الاحتلال لاستكمال مفاعيله حتى النهاية.


وبينما تبدو النظرة محسومة فى تل أبيب؛ فإن الاختلاف فيما يخص مغامرة السنوار ورجاله يستحكم على الجانب الفلسطينى. أكان بادعاء النصر على خلاف وقائع الأرض، أم بالمكابرة فى سداد أثمان الهزيمة واشتعال الرغبة فى اقتسامها مع الآخرين، أو تحميلها كاملة لهم وحدهم.


والعُقدة أنه لا سبيل للنجاة من الفخ؛ إلا باستيعاب أنك واقع فيه أصلا، واجتناب مواصلة الحفر والتعميق بلا هوادة، وحسم الاختيار سريعا بين التنظيم والقضية، وبين أن تظل الراية مرفوعة فى المطلق، أو أن يكون ذلك بأيدٍ حماسية وإلا فليذهب الجميع إلى الجحيم.


وتلك نقطة أصيلة فى المداولة، باقية منذ هجمة الغلاف، وسابقة عليها، وستبقى طوال الوقت قيدا على الإجماع الوطنى، وعقبة فى مسار الخروج من الذاتى إلى الموضوعى، ومن الأيديولوجيا إلى الدولة ومشروعها التحرُّرى المُنزّه عن الهوى والمصالح الفئوية.


لن يُحسَم الجدل فيما يخص العملية الهوجاء صبيحة السابع من أكتوبر. يتذرّع الأصوليون بأنه لولاها لماتت قضية فلسطين، وانتهب قطار التطبيع ما تبقى من خرائط المنطقة ومساحات اهتمامها بالصراع المفتوح مع الصهاينة.


وعلى ضفة مقابلة، هناك من يقول إنه أعاد ترتيب البيت العبرى، ووفّر الصمغ الذى جمّع شظاياه ومتّن وحدته تحت مظلة الخطر الوجودى، ولولاه ما كان نتنياهو وائتلافه فى الحكم إلى اليوم.


وكلا الرأيين له مناصرون متحمسون، وشواهد داعمة أيضا؛ لكن المؤكد فى الحالين أن غزة لم تكن لتصل إلى ما هى عليه حاليا، ولا أن تنحشر فى اختياراتها المتاحة بين السيئ والأسوأ، مع مسار انحدارى لا يتوقف عن توليد المآسى والإفراط فى تجلياتها السوداء.


تعطّلت عربة الاتفاقات الإبراهيمية، ولم تخرج عن القضبان للأسف. وحالما تبرد المحرقةُ المُتأجِّجة فى القطاع، ستعود الغرف الباردة إلى سابق حديثها من النقطة نفسها.


مُنتهى طموح الغزيين أن يلتقطوا أنفاسهم بين الطلل والأشلاء؛ وإن حوطتهم مخاطر اندلاع النار وتجدد الحرب لاحقا. أما الحماسيون فيحلمون باليوم السابق على طوفانهم، ويعرفون قبل غيرهم أن العودة فى الزمن من قبيل الأمانى المستحيلة، وتستعصى على القتال والحوار بأكثر ممَّا تتأبَّى على علوم الفيزياء التطبيقية.


فكأنهم يُغادرون أُفقَ الحدث مُضطرّين؛ بعدما بدَّدوا ما كان فى أيديهم، وأورثوا بيئتهم خرابًا عميما، وعبَّدوا الطريق إلى الإجهاز على بقيَّة حُلفائهم فى محور الممانعة. والقادم أشدُّ سوءًا بما لا يقاس بكل التجارب السالفة؛ لأنهم عملوا بدأب على شلّ السياسة، ثمَّ قدموا أنفسهم قربانًا سهلاً على مذبح السلاح.


تتشدَّد إسرائيل بطبيعة الحال؛ لأنها صاحبة السَّبق فى الميدان، وأحرزت نجاحاتٍ تغريها باقتفاء أثر الجنون طمعًا فى المزيد. لم يكن الاحتلال ودودًا فى أزمنة القوة؛ ليكون رفيقا بالفصائل وحواضنها فى لحظة الضعف.


العبء الأخلاقى يقع بالضرورة على القاتل؛ إنما لا يمكن توفير الذين أمدّوه بالذرائع من الملامة والنقد الحاد، بدءا بافتتاح مواجهة غير محسوبة ولا مؤطرة بحسابات عقلانية رشيدة، ثم الإصرار على الإيغال فيها بمعزل عن التوازنات والمنغصات، وبعدما تكشف عمليا أن الجبهة الجنوبية مجرد بيدق على رقعة الشيعية المسلحة، وحتى رعاة الإخوان فى المنطقة لن يهبوا لنصرتهم.


وعليه؛ فلم يعد التواضع خيارا، ولا البحث عن المشروع الوطنى المُضيّع سابقا بغرور القوة رفاهية، والمفاضلة المتاحة بين تضحيات كلها قاسية، ومن دون فرص أو مفازات.


أرسل نتنياهو فريقه المفاوض للدوحة، ثم طار إلى واشنطن. وبعد نحو ثمانية أيام من اللقاء على النسخة القطرية المعدلة من ورقة ستيف ويتكوف، يتحدث رجال ترامب عن تصفية ثلاث من جملة أربع نقاط عالقة، وتتوالى الإشارات على استحكام حال الانسداد، وعدم تحقيق أى اختراقات فعلية.


يُريد الصهاينة صفقة لها طعم الحرب الدائمة، ويتعشم رجال حماس فى القفز على تراجيديا اثنين وعشرين شهرا من الهزائم المتوالية، مقدّمين تناقضهم الثانوى مع السلطة على التناقض المركزى مع الاحتلال.


وبين الصلابة فى إبعاد رام الله عن وراثة موقعها داخل القطاع، وانتظار أية ترضية مهما كانت ضئيلة من العدو؛ لا تضيع فرص الاتفاق وحدها، بل تبدو فلسطين فى ردّة زمنية إلى ما قبل النكبة الأولى، وحالة السيولة التى أغرت العصابات أن تكون دولة على حساب المُلاك الأصليين.


ومعضلة المفاوضات الجارية، أن المحتل يطلب من الفصائل أن توقّع شهادة وفاتها بيدها، فيما الأخيرة تتطلع إلى انتزاع اعتراف ضمنى بها بمجرد توقيع الاتفاق.


ولا مخرج هنا إلا باستدعاء الأصيل ممثلا فى الشارع الفلسطينى نفسه، أو الكيانية الأقدر والأكثر جاهزية للنيابة عنه، ممثلة فى منظمة التحرير من دون جدال؛ لتكون الحد الفاصل بين الذريعة والجنون، وأيسر المخارج لفك العقدة المستحكمة بين أصوليتين متشابهتين؛ غير أن إحداهما تملك أسباب البطش والإبادة، ويرافقها إسناد أمريكى كاسح، وعلوّ ظاهر على القانون والمساءلة الدولية.


لقد سبق للمفاوض الحماسى أن جرّب كل الطرق الممكنة، وأفضت به جميعا إلى مآلات أسوأ من بعضها فى كل مرة. وما ارتياح الغزاة لحصر النزاع واحتزاله فى لافتتها الخضراء؛ إلا لأن فى ذلك إجهازا عليها من النقطة صفر، فضلا على إضعاف البديل السياسى وتحييده بالممارسة العملية.


والخطأ الذى دعاها إلى الاستبداد بقرار الحرب، يجب ألا يكون عائقا لها من الاستدراك على ذاتها، أو دافعا لمزيد من التورط فى تهشيم الجدار الزجاجى للقضية؛ مهما كانت حدود التنازع مع السلطة أو الاختلاف عليها.


خصوصا أنها تُوقن، وربما تُسلِّم تمامًا، باستحالة الحفاظ على إدارتها للقطاع، ومن ثمّ فإنها تُغامر بإلقائه فى عهدة المجهول، أو استحداث بدائل صحيح أنها لن تصب فى رصيد خصومها المحليين، لكنها ستنزح من خزان القضية الوطنية، وتُصعّب مهمة التعافى وإعادة البناء، والمعنوى هنا يتقدّم على المادى، بكلِّ أهميته، وطابعه الحيوىِّ للغزِّيين وغيرهم من أبناء الشعب المنكوب.


النقاط العالقة فى جولة التفاوض الأخيرة تشمل الانسحاب والبروتوكول الإنسانى وإنهاء الحرب. وبقدر من الضغوط السياسية يمكن استعادة آلية المساعدات المتفق عليها فى هدنة يناير الماضى، كما أن التسوية الدائمة تظل مُجرَّد وعدٍ مُعلَّق فى الهواء، حتى مع الضمانة الأمريكية؛ لأن نتنياهو قادر على التفلُّت منها، والإشارات نفسها تُوحى بإقرار واشنطن لفكرة الرجوع إلى القتال حال عدم التزام الحركة.


وما يجرى على ترتيبات الانتقال بين المراحل، يصح فى النظر إلى خرائط إخلاء المواقع المحتلة حاليا. بمعنى أن الصفقة بكاملها ستظل معلقة على شروط نهائية بالغة الصعوبة، أهمها نزع السلاح وإنهاء سيطرة الحركة على القطاع، مع إحلال إدارة مدنية بمواكبة أمنية من الخارج، بعيدًا من تفاصيل التركيبة المقترحة وما يمكن أن تُفضى إليه التفاهمات الأخيرة.


وباختصار؛ إمَّا أنَّ الحركة تتقبّل الأثمان المُقرَّر سحبها من رصيدها، وبالتالى عليها أن تُفوّض الوسطاء فى مُقتضيات الإنفاذ الوقتية وبعيدة المدى، أو أنها تحاول الاحتيال على الوقت، وإثبات البديهيات بشأن ما يعرفه الجميع عن الاحتلال، دون رغبة حقيقية فى حلحلة الأمور، أقله بالتوقف عن دور "مسمار جحا" الذى يُوفِّر له التعاليل والمُبرِّرات، ويُغلق الأبواب على أصابع الغزِّيين، والفلسطينيين جميعًا.


لقد طرح الإسرائيليون خريطة انسحاب أقرب إلى إعادة الانتشار والتموضع، ولا يمكن اعتبارها طرحًا موضوعيًّا على أىّ وجهٍ كان. لكنَّ الحال لم تعُد منطقيَّةً واعتيادية منذ شهور طويلة، وقوّاته تفرض سيطرتَها المُباشرة على ثُلثَى مساحة القطاع أو يزيد.


والمفارقة أنه يتمسَّكُ اليومَ بالهيمنة على منطقة رفح أو أغلبها؛ بينما لم يكن حاضرًا فيها قبل ما يزيد قليلاً عن سنة، وعندما كانت الورقةُ المصرية ومُقترح بايدن على الطاولة، فقرَّرت حماس أن تقبل شروط الهُدنة فعلاً؛ إنما بعد إلقاء عدَّة صواريخ على محيط كرم أبو سالم، فتحت لمخبول تل أبيب بابًا ذهبيًّا للسيطرة على أكبر المحافظات، لتُصبح عقبةً فى طريق الاتفاق الآن، بينما لم تكُن مُحتلّةً أصلاً وقتما كان بالإمكان إبرام صفقة أفضل كثيرًا.


وعلى هذا المنوال سارت الأمور، وتسير حتى الآن. أخذ السنوار قرار الطوفان ولم ينشغل بما بعد ذلك، والذين توارثوا مقعدَه، قتالاً وحوارًا، لا يعرفون ما يتعيَّن عليهم فعلَه لإنهاء المحنة أو ترشيد نزيفها المتواصل.


وكل ما يشغلهم أن يخرجوا بأيّة مكاسب مُمكنة للتنظيم، أو يظهروا فى صورة الفاعل الذى يُعيد ترسيم حضور المُحتلِّين فى جغرافيا غزّة، بينما يتجاهلون تمامًا أنهم استدعوهم أصلاً بغير ضرورة ولا استعداد.


بالضبط كما يفعل حزب الله فى لبنان، متمسِّكًا بسلاحه رغم أنف الدولة، تحت زعم أنه الضمانة للمقاومة والتحرير، قفزًا على حقيقة أنه استجلب الاحتلال عن خطأ فى التقدير، أو إملاءٍ من الحرس الثورىِّ، تغلَّبت فيه عقيدتُه الولائية للمُرشد الأعلى، على الانتماء والالتزام الواجب تجاه الوطن وبقية الشركاء فيه.


الآن، لم يعُد الحديث عن غزَّة المُدمَّرة فحسب؛ بل المبتورة أيضًا. وبحسب ما نشره موقع أكسيوس الأمريكى، وثيق الصلة بالأجهزة الأمنية فى الولايات المتحدة؛ فإنَّ إسرائيل وضعت خطَّةً للسيطرة على حزام عازل على امتداد حدود القطاع، يتراوح بين كيلو مترٍ أو يزيد فى المناطق الشمالية الضيِّقة، ويصل إلى ثلاثة كيلو مترات فى أعرض المناطق جنوبًا.


وهى الفكرة التى طُرِحَت فى أوَّل الحرب ثم تقلَّص الكلام عنها، بالضبط كما توقَّف ترامب عن حديث للتهجير و"الريفييرا الشرقية" بعد أسابيع من إثارته لأوَّل مرة خلال فبراير الماضى، إنما لم تنصرف عنه أذهانُ المُتطرِّفين من اليمين القومى والتوراتى فى تل أبيب، ويتطلَّعون لتفعيله من ناحية استبقاء غزّة فى قبضتهم، وترحيل مئات الآلاف من الشمال والوسط إليها، تمهيدًا لكَنسهم بَرًّا أو عبر البحر إلى وجهة ثالثة.


وكلها تفاصيل حاضرة دومًا فى المخيال الصهيونى من دون شَكٍّ؛ لكنها كانت مُرجأةً أو مخبوءة فى الأدراج، ولم يكن مُمكنًا استدعاؤها لسطح الأحداث إلَّا بلَوثةٍ جنونية كالتى يخوضُها زعيم الليكود دون أُفق سياسى، وأعانه عليها زعيمُ حماس الراحل دون معرفةٍ بالحرب ولا بالسياسة على السواء.


والحال؛ أنَّ الأوضاع ستكون سيِّئةً بالهُدنة، وأسوأ كثيرًا من غيرها. ترامب يُريد الاتفاق لأهداف خاصة جدًّا، لا فارق فيها بين الوفاء بمَوعدة إنهاء الحروب أو الطموح لاقتناص جائزة نوبل، وفيما بينهما الرغبة فى تفعيل الورشة الإبراهيمية، وتجديد أحلامه فى استقطاب الرياض ولبنان وسوريا وغيرها.


والأخيرةُ تحديدًا جاهزةٌ تمامًا لمُقاربةٍ تُواتى تطلُّعات الرئيس الأمريكى، وتفتح الباب لإعادة إنعاش مسار السلام الاقتصادى بديلاً عن التسويات السياسية، بل تُستَخدَم من البعض على طريقة "كاسحة الإلغام"، لتُستَكشَف بها إمكانيّة الخروج من غبار الميدان قبل أن تبرُد نار الحرب الغزّية أصلاً.


وكما يُقال للفرقاء فى بيروت إنَّ المنطقة تتحرَّكُ بإيقاعٍ لاهث، وإمَّا أن يلتحقوا بها أو يسقطوا من لائحة الأولويات؛ فالخطر نفسُه يُطوّق فلسطين كما لم تكُن قَطّ فى كلِّ عقودها السابقة، ليس لانفلات آلة التوحُّش والإبادة بما يفوقُ كلَّ محطاتها المعروفة، إنما لأن الفلسطينيين يتواطئون على أنفسهم باستمراء الانقسام، وبإصرار الحماسيِّين على احتكار جُزءٍ أصيلٍ من الجغرافيا والديموغرافيا، وتوظيفه من دون وَعى لصالح إطلاق أيدى الصهاينة فى الضفّة والقطاع، وتيئيس المشغولين بالقضية من إمكانية الاستدراك وإصلاح الأعطاب الداخلية.


وانطلاقًا من رغبة البيت الأبيض؛ فإن نتنياهو يسعى للهُدنة بقَدَمٍ، ويتردَّد فى تحريك الثانية، ويُمَنّى نفسَه بأن يظل للاستعصاءُ قائمًا من جهة حماس. مع العلم بأنه وصل لمرحلةٍ تُتيح له التربُّح من المسارين: التهدئة أو الإشعال.


لا سيَّما أنَّ زخم الحرب مع إيران لم ينطفئ بعد، وفكرةُ الهيمنة الإقليمية فى أَوجِها، وإن اضطُرّ لإعادة الأسرى بصفقةٍ سيُضيفُ عائدها لرصيده الشخصى، وإن تشدَّدت حماس فلديه فائضُ إنجازٍ يُغطّيه لأسابيع مُقبلة، ويُمكن أن يُعزِّزه بتجديد الحرب على الحزب فى جنوبى لبنان. وهو الآن يُدير لعبته الداخلية بأكثر مما ينشغل بالحادث فى الدوحة، ويسعى للاحتيال على المعارضة وشركاء الائتلاف بضربة واحدة.


التفاوض الأكبر والأشدّ صعوبة لدى رئيس الحكومة يجرى اليومَ فى تل أبيب. إذ يُحاول استقطابَ وزير ماليَّته المُتطرِّف بتسلئيل سموتريتش لقبول الهُدنة دون الانسحاب، على أن يتكفَّل إقناعُه بإبقاء شريكه فى التهديد بإسقاط الائتلاف، وزير الأمن القومى إيتمار بن جفير.


وقد لا يُوفِّر ورقةَ المُعارضة للضغط على الحلفاء، بالنظر إلى شبكة الأمان المعروضة عليه من يائير لابيد وغيره منذ شهور، وما يتردَّد فى الفترة الأخيرة عن مُداولاتٍ مع بينى جانتس لإدخاله فى الدائرة، خصوصًا بعد انكسار تحالُفه ومغادرة جادى آيزنكوت لتأسيس حزب جديد.


يُلاعِبُ العجوزُ كلَّ طرفٍ منهما بالآخر؛ لكنه لا يُريد القفز بين الحلقات. وعلى الأرجح سينجح فى إقناع سموتريتش وتمرير الصفقة، دون اللجوء إلى شبكة الأمان وتوسيع الائتلاف. فمن ناحيةٍ، كُلَّما طال مدى الريبة وتعالى غُبار المُداولات، يخسرُ المعارضون مزيدًا من طاقتهم وحواضنهم، وكلَّما شاغب التوراتيِّون داخل الحكومة يُعزِّزون خياراته الصلبة، فيما يَظهرون للعامة أنهم سبب الأزمة وحدهم، على أن يُضيف الاتفاق لرصيد ذئب الليكود لاحقًا، لناحية أنه انتزعه من مخالب المُتطرِّفين فى غزَّة وداخل البيت العِبرىّ أيضًا.


إمَّا أن يُحقِّق الوِفاق الحرج الآن، أو فى فترة غياب الكنيست بدءًا من آخر يوليو ولمُدّة ثلاثة أشهر تقريبًا. وهذا مِمَّا يسمح له بعد استعادة الأسرى بصَرف الفائدة كاملةً لصالحه، دون شراكةٍ من أقصى اليمين أو تيَّارات الوسط، وبهذا يُعزِّز فُرصَه فى البقاء دون مُنغِّصات حتى موعد الانتخابات خريف العام المقبل، وربما التجاسر على الدعوة لمواجهة مُبكّرةٍ؛ إذا واتته الظروف واطمأن لحساب الفوز.


الرجل الذى بدأ ولايته الأخيرة بصراعٍ داخلىٍّ غير مسبوق فى تاريخ الدولة، وكاد أن يُطيح حكومتَه فى شهورها الأُولى، يقفُ حاليًا على تلٍّ من النجاحات التى يُرتِّب وحده كيف يُجيّرها لحساب مشروعه السياسى، وصناعة أسطورته الخاصة كآخر ملوك اليهود وأكثرهم دهاء.


مجرمٌ قطعًا، ومُحاط بالاتهامات؛ لكنه أفضل فى بيئته بما لا يُقاس على حاله قبل سنتين تقريبًا. والشارع ينحو معه جهةَ اليمين، ولولا مسألة الرهائن لكان الإجماع على الحرب دون سقفٍ أو مُساءلة.


لقد كسّر كثيرًا من الثوابت لدى الحاضنة اليهودية، وفى وعى الدولة وأدبيَّاتها عن العيش على حَدِّ السكِّين. خاض بهم النار فى عدَّة جبهات، واستجلب الصواريخ الإيرانية إلى قلب تلّ بيب للمرَّة الأُولى فى عُمرها القصير؛ لو استثنينا تجربة صدام الباهتة فى أول التسعينيات. وكان الناس يخرجون من الملاجئ مُصرِّين على مُواصلة الهجوم على الجمهورية الإسلامية، وقد لا يُمانعونه فى تجديد القتال عند أية لحظة يُقرِّر فيها العودة.


وبإيجازٍ كاشف؛ يزدهرُ نتنياهو فى أزمنة الفوضى، ويتسيَّدُ خطابُه بين جمهوره، حتى الذين ينتقدونه فى بعض النقاط، ولديه حليفٌ لا يتباطَأ فى دعمه ولن يتوقَّف عن تغذية مشروعه المُلتهب؛ لأنه عميق فى التزامه تجاه الدولة العِبريَّة، ولأن ما يفعله قائدُه المخبول يصبُّ فى نهر الرؤية الأمريكية المُحدَّثة للشرق الأوسط.


وإذا تساوت مخاطر التصعيد والتبريد؛ فلا مُبرِّر للذهاب إلى النقطة نفسها بتكاليف أعلى. وعلى حماس أن تنحنى للعاصفة؛ لا لأنَّ الاتفاقَ اليومَ أقلُّ ضررًا مِمَّا سيكون مُتاحًا فى الغد فحسب؛ إنما لأن التجربة أثبتت أنها تعملُ بالآلية ذاتها لدى عدوِّها، المُتقدِّم عنها كثيرًا، وفائق القُدرة والإمكانات، وعليها أن تتراجع قليلاً للوراء؛ لتسلبه فُرصةَ التقدُّم تحت ظلِّ السلاح، وأقلّه أن تُعرّى بالسياسة ما لا تستطيع كبحَه بالقوّة.


والفكرة هنا ليست فى جدارة الشعارات من عدمها؛ بل فى عقلانية التخلِّى عنها عندما تتصادم مع الأُصول والأولويَّات، وتبدو خنجرًا فى خاصرة أصحابها، بدلاً من أن تكون أداةً لحمايتهم أو الإبقاء على سرديَّتهم نقيَّةً وفاعلة.


فالقضية تضرَّرت فى الميدان، واختزالها فى الحركة يُعمِّقُ أضرارَها، مع الإجماع الدولى على رفض الصفة الحماسية بمقدارِ استهجان الجريمة البنيامينيَّة، أى أنَّ الحاجة لإخلاء الساحة لبديلٍ نظامىٍّ أكثر رُشدًا ومقبوليَّةً صارت وجوديَّةً للبلاد والعباد؛ ولو تعارضت مع عقيدة التنظيم، ومصالحه الخاصة، أو فى إطار ولاءاته والتزاماته ضمن لعبة المحاور والأحلاف.


تَردّد أنَّ الحركة أثارت مسألة المصير من زوايا عِدَّة؛ لعلَّ أبرزها تأمين قادتها وعدم المساس بالمكتب السياسى. صحيح أنَّ بعض مُتحدّثيها نَفوا المسألة وأنكروها تمامًا؛ لكنَّ مُجريات الشهور الماضية تجعلها صالحةً للقبول نسبيًّا. مع التضارب المُتوقّع هُنا بين بقائهم فى القطاع وحماوة المطلب الإسرائيلى بتفكيك قبضة التنظيم، أو إخراجهم منه مع رفض الحماسيّين لذلك، وصعوبة حمايتهم من التعقُّب والاغتيال.


وتلك تناقضاتٌ تتعثّر فيها الفصائل، وتُقدِّم الخاص على العام، وتنشغل بذاتها عن قواعدها والواقعين فى أسرها. وتبدو أنها هيكليّة ومُتجذّرة فى عقلها، وبنيتها التنظيمية والحركيّة.


وذلك مِمَّا يُستَشَفُّ من وقائع سابقة فى تاريخ الأُصوليَّة وميليشياتها؛ ربما أوضحها التشغيب على السلطة الوطنية وانتقاد خياراتها من أوسلو وما بعدها؛ رغم أنها أعادت القضية للنضال من الداخل، وأمَّنت صندوقًا حمل حماس إلى الحُكم فى أول انتخابات تالية لرحيل عرفات، وكان أداءُ الحركة أشدَّ رداءةً من كلِّ ما تأخذه على فتح والسلطة.


إذ بجانب الانقلاب والاستئثار بالقطاع؛ فإنها لم تُقدّم نموذجًا للحُكم الرشيد والإدارة الكفؤة، ولا جنّبت الغزِّيين كُلفةَ المُقامرات غير المحسوبة، والرهان بهم على حسابات فوق فلسطينية، وتخصُّ قاعدتها الإخوانية، أو تشابُكاتها مع الشيعية المُسلّحة، بأكثر مِمَّا تنتمى للقضية أو تعتنى بشواغلها الكُبرى، معاشًا ونضالاً.


ومن جديد؛ ينكشف العقائديون ومزايداتُهم مع أوَّل فرصة للصعود السياسى. الحركة نموذج، وتجربة الإخوان فى مصر أيضًا، وما يتطوَّعُ به الجولانى فى سوريا كذلك. وكان المأخذ على البعث ونظام الأسَدَين أنهم يتناسون الجولان، ولا يُصنّفون إسرائيل تحت لافتة العدو، ويُقدِّمون عليها آخرين من النسيج الإقليمى القريب عِرقًا وثقافة. وكلها تقع من حُكّام دمشق الجُدد بجرأةٍ تفوق أسلافهم، وبما لا يختلف فى وضعهم طهران قبل تل أبيب، عن مُعاداة حماس لرام الله بأكثر مِمَّا تُعادى نتنياهو وحكومته، أو على الأقل ما تُبديه من استعداد للتفاهم مع الأخير، مقابل حِدّة المُخاصمة لمنافسها الوطنى؛ ولو هدَّمَت المعبد على رؤوس الجميع.


لم يُجهِز الطوفان على غزّة فقط؛ إنما أنهى سطوةَ خطاب المُمانَعة فى المنطقة، وعرَّى الحركات الأُصوليَّة وهشاشة شعاراتها، وافتقادها للرُّؤى العملية الصالحة لإدارة الاجتماع فى لحظاته الحرجة أو ظروفه الطبيعية.


لا ينتصرُ إلا مَن يُقرّ بالهزيمة ليبرأ منها، ولا ينجو سوى من يفرّ بما تبقّى من الزاد وعُدّة الحرب. أمَّا الإنكار فانتحارٌ مجانىٌّ؛ إن لم يكُن تواطُؤًا مشبوهًا على الذات والآخر.


هُزِمَتْ حماس فى الميدان؛ ولا معنى لمحاولة اعتصار الهزيمة إلى آخرها، تطلُّعًا لتصويرها على صورة النصر أو بطولة الثبات؛ إنما البديل الناضج أن تُوظِّف هزيمتَها لصالح القضية ومُنظَّمة التحرير؛ وإلَّا فالمعنى الوحيد للأسف أنها تعملُ لصالحها حصرًا، وتتقبّلُ أن يفوز الاحتلال بالضربة القاضية، انطلاقًا من منطقِ «إمَّا أنا أو لا أحد».




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب