ليست الدراما مجرد أداة ترفيهية تُملأ بها ساعات البث، أو سلعة تُنتَج لتُباع، بل هي واحدة من أخطر وأهم أدوات تشكيل الوعي الجمعي، وأبلغ وسائل التأثير في المجتمعات. إنها الوسيلة التي تُخاطب العقول والقلوب معًا، وتصل إلى كل بيت، وتتسلل إلى كل عقل، وتترك في الذاكرة مشاهد لا تُنسى، تتجلى آثارها لاحقًا في سلوكيات الناس ومواقفهم وخياراتهم، ولذلك أصبحت الحاجة مُلحّة إلى تطوير رؤية وطنية شاملة تُعيد للدراما دورها المحوري في بناء الإنسان، وتضعها في مكانها الصحيح كجزء من مشروع ثقافي كبير، يُسهم في حماية الهوية، وتحصين المجتمع، وتعزيز القيم، وتفكيك الأفكار الهدامة.
ولعل أول ما ينبغي التوقف عنده هو دراما الطفل، ذلك المجال الحيوي الذي طال إهماله لعقود، مع أنه يمثّل اللبنة الأولى في بناء الوعي المجتمعي. فالدراما الموجَّهة للأطفال لا بد أن تتجاوز الأساليب القديمة القائمة على التلقين أو التسطيح، وأن تُقدّم محتوى يحمل القيم في ثناياه، ويعزز التفكير الإبداعي، وينمّي الذكاء العاطفي والسلوكي. نحتاج إلى أعمال تُعزز حب الوطن والانتماء له، وتغرس في الأطفال احترام الكبير، والعطف على الصغير، وأهمية التعاون، وقيمة العلم والعمل، وتُدرّبهم على التعامل مع الاختلاف، وتُعرّفهم بتاريخهم وشخصياتهم الرمزية من علماء وأبطال ومفكرين. كما ينبغي أن تحمل دراما الطفل رسائل تربوية تعالج التنمر، والعزلة، والخوف، والانحراف السلوكي، بأسلوب مشوّق وبسيط، يراعي فئة عمرية شديدة الحساسية، ويخاطبها بلغة محببة تجمع بين المتعة والمعرفة، وتُنشِّئ الطفل منذ نعومة أظفاره على برّ الوالدين، وحب الوطن، واحترام المجتمع، وتقديس الدين، وخطورة واحترام الكلمة، والابتعاد عن الكذب والخيانة والخصال السيئة، وطلب العلم، والتحلي بالصدق، والعدل، والرحمة، والوسطية في الفكر والتدين، واحترام الآخر، وتقبّل التنوع، والنظر إلى الاختلاف بوصفه سنة كونية لا تهديدًا للذات.
وإذا كانت البدايات تُصنع في الطفولة، فإن المرأة تمثّل ركيزة الوعي في كل مرحلة عمرية لاحقة، فهي الأم، والمُربية، والمعلّمة، والعاملة، والقائدة، وصانعة الأجيال. وللأسف، كثيرًا ما أساءت الدراما تقديم صورة المرأة، إما باختزالها في أدوار هامشية، أو بتضخيم صورة الأنثى بوصفها جسدًا لا عقلًا، أو بترويج نماذج سطحية لا تُعبّر عن عمق نضالها اليومي. والواجب أن تعيد الدراما بناء صورتها الواقعية بما يليق بكرامتها ودورها الوطني والإنساني، فتتناول قضاياها الجوهرية مثل التمييز الوظيفي، والحرمان من التعليم، والوصاية الاجتماعية، والعنف المنزلي، والتحرش، والطلاق، وتهميش دورها في القيادة، مع التركيز على عرض نماذج نسائية ناجحة في مختلف مجالات الحياة، تُلهِم الفتيات، وتعيد للمرأة احترامها في الوجدان الجمعي.
وحين نتحدث عن الشباب، فإننا نتحدث عن قطاع واسع يمثّل المستقبل بكل تحدياته. ولا يكفي أن تتناول الدراما مشكلاتهم من بعيد، بل ينبغي أن تقترب من قضاياهم الحقيقية كالبطالة، وضغط الطموحات، والتشتت بين القيم التقليدية والانفتاح الرقمي. ومن القضايا التي تمس وجدان الشباب وتؤرق المجتمع كله، تبرز مشكلات كبرى تتطلب من الدراما أن تفتح عيونها عليها لا أن تمرّ بها مرورًا عابرًا، وفي مقدمتها: الإدمان، الذي صار بابًا للهروب من القلق والفراغ، والهجرة غير الشرعية، التي يدفع فيها الشاب حياته ثمنًا لوهم النجاة، والطلاق المبكر الذي أصبح ظاهرة متفاقمة تدمّر استقرار المجتمع من جذوره. فهذه القضايا لا تكفي فيها المعالجة الخطابية أو الإعلامية المباشرة، بل تحتاج إلى تجسيد درامي واقعي، عميق، لا يكتفي بتوصيف الأزمة، بل يُضيء أسبابها الكامنة من داخل البيوت والنفوس، ويقترح في طيّات القصة مسارات للخروج منها، تعيد بناء الأمل في عقل الشاب وقلبه. على أن تناول مثل هذه القضايا الدقيقة لا يجوز أن يتم بعشوائية أو افتعال، بل يتطلب وعيًا شديدًا وحرصًا بالغًا ومهارة فنية عالية، حتى لا تسقط الدراما، من حيث لا تشعر، في فخّ الترويج الضمني لما تحاول أصلاً التحذير منه، فتصبح سببًا في تطبيع الانحراف بدل مقاومته، أو في تجميل السقوط بدل التنبيه إلى خطورته. إن الذكاء هنا ليس في تقديم مشاهد صادمة، بل في بناء سردية تحذيرية محكمة تُفهم دون أن تُغري، وتوقظ دون أن تُفسد. نحتاج إلى دراما تُشرك الشباب في التفكير، وتمنحهم صوتًا صادقًا، وتُبرز إمكانياتهم، وتفتح أمامهم نوافذ الأمل بدلاً من ترسيخ الاغتراب النفسي والاجتماعي، وأن تُظهر قصصًا واقعية لشباب بنى ذاته، أو ساهم في مجتمعه، أو تجاوز أزماته بسعيٍ ونجاح.
وفي هذا السياق، فإن من الضروري إحياء الأعمال الوطنية الكبرى التي شكّلت وعي الأجيال، كمسلسل “رأفت الهجان” وأمثاله، والتي رسّخت في النفوس معنى الفداء والانتماء، وكشفت بأسلوب مشوّق عن أساليب العدو في محاولاته المستميتة لاختراق الوطن وزعزعة استقراره. فمثل هذه الأعمال لا تُربّي فقط على حب الوطن، بل تُبصّر الشباب بالتحديات الحقيقية التي تواجه بلادهم، وتُعرّفهم على أبطال حقيقيين نذروا أنفسهم لحماية الوطن، فيشبّ النشء على الاقتداء بهم، واستلهام روحهم الوطنية الصادقة. نحن بحاجة إلى دراما تُعيد زرع القدوة في نفوس الشباب، وتربّيهم على أن الانتماء ليس شعارًا يُرفع، بل تضحية تُقدَّم، ومسؤولية تُحمَل، واستعداد دائم للبذل في سبيل الوطن حين يدعو الواجب. فكما نحتاج إلى دراما تُحلّل الواقع وتعالج أزماته، فإننا أحوج إلى دراما تُلهِم، وتبني، وتُحسِن التوجيه، وتصنع من حب الوطن ثقافة راسخة لا عاطفة عابرة.
ولا تقل أهمية الدراما الدينية عن سواها من الألوان، بل ربما تفوقها أثرًا حين تُحسن تقديم مضمونها. فالدراما الدينية ليست مجرد سرد لوقائع تاريخية أو مواقف وعظية، بل هي فرصة لتجسيد القيم العليا للدين الإسلامي في صور إنسانية مؤثرة، تُظهر سماحة الشريعة، وعمق الإيمان، ورقيّ الأخلاق، وجمال الرحمة، وقدرة التدين الحقّ على تهذيب النفس وبناء الحضارة. نحتاج إلى دراما تُعرّف الناس بسِيَر الأئمة والعلماء والمجددين، وتُبرز جهادهم العلمي، ونزاهتهم، وتضحياتهم، وحوارهم مع مخالفيهم، وتوازنهم في الفتوى، وحرصهم على وحدة الأمة. كما نحتاج إلى أعمال تسرد المحطات المشرقة من تاريخنا الإسلامي دون تهويل أو تزييف، وتُبيّن كيف شكّل الإسلام قوة للعدل والعلم والعمران، لا أداة صراع أو فرقة أو هيمنة. والدراما الدينية، حين تكون رفيعة فنيًّا وأمينة مضمونًا، تُسهم في تصحيح المفاهيم المغلوطة، ومواجهة حملات التشويه، وتقديم صورة حقيقية ناصعة عن الدين بعيدًا عن التنفير أو التسطيح.
ولأن الوقاية خير من العلاج، فإن معالجة الفكر المتطرف لا يمكن أن تكون حكرًا على المؤسسات الدينية أو الأمنية، بل يجب أن تمتد إلى الدراما بوصفها أداة توعوية فعالة. فالدراما تملك قدرة استثنائية على الدخول إلى المساحات المسكوت عنها، وكشف البنية الداخلية للعقول المنحرفة، وتصوير آليات استقطاب الشباب، وعوامل استدراجهم باسم الدين، ثم تجسيد لحظات الندم والانكسار حين تنكشف الخديعة. ويُعدّ هذا النوع من الأعمال ضروريًا لبناء مناعة فكرية جماعية ضد التطرف، خاصة إذا التزمت الدقة، وتجنّبت المبالغة أو السخرية. فالمشهد الواحد، إن صيغ بعناية وصدق، قد يكون أبلغ من ألف خطبة، وأسرع نفاذًا من عشرات المقالات والمحاضرات.
ولم يعد يكفي أن تكون الدراما مرآة للمجتمع، بل يجب أن تكون أداة من أدوات تثقيفه قانونيًا ومجتمعيًا، في ظل حروب الجيل الخامس التي تُشنّ على الشعوب بأدوات ناعمة وخفية. فالدراما التي تُقدّم نماذج لمواطنين واعين بالقانون، يفهمون حقوقهم وواجباتهم، ويتعاملون مع مؤسسات الدولة بشكل سليم، هي دراما تسهم في تكوين بيئة وطنية أكثر استقرارًا، وأكثر قدرة على مواجهة حملات التشكيك والتضليل. ومن المهم أن تُنتَج أعمال توضّح كيفية تداول الشائعات، وخطر الأخبار المزيّفة، وأساليب إسقاط الدول من الداخل دون طلقة واحدة، من خلال تفكيك الثقة بين المواطن ومؤسسات وطنه.
وإذا كانت حرية الإبداع من الثوابت التي نحرص عليها، فإن هذه الحرية لا تعني الانفلات من كل قيد قيمي أو أخلاقي، ولا تبرر تمرير مشاهد تحمل قبحًا بصريًّا أو لفظيًّا، أو تروّج سلوكيات شاذة، أو تُشيع صورًا سلبية عن الأسرة أو الوطن أو المرأة أو العلاقات الإنساني…