تخيل أن بوابة الزمن قد انفتحت فجأة لتأخذنا في رحلة مباشرة إلى عصر الفرعون العظيم، حيث نعيش لحظات من الحياة والوفاة، ونشهد تفاصيل لم تكن معروفة من قبل عن كبار رجال الدولة الذين حكموا مصر في عصر الدولة الحديثة. هذا هو بالضبط ما يفعله الكشف الأثري الجديد في ذراع أبو النجا بالأقصر؛ إذ يضيء زوايا مظلمة من التاريخ المصري العريق، ويكشف لنا أسرارًا عن طقوس الموت، الولائم، وحياة النبلاء الذين كان لهم دور حاسم في صناعة التاريخ.
في واحدة من أهم الاكتشافات الأثرية التي شهدتها مصر مؤخراً، أعلنت البعثة المصرية العاملة في ذراع أبو النجا بالأقصر عن الكشف عن ثلاث مقابر تعود لعصر الدولة الحديثة، وتحديدًا لعصر الرعامسة والأسرة الثامنة عشرة. هذه المقابر لم تكتفِ بكونها مجرد مواقع دفن، بل هي بمثابة كنوز أثرية تقدم مشاهد حية من حياة وموت كبار رجال الدولة، من خلال النقوش والرسومات التي توثق لحظات حمل الأثاث الجنائزي، والولائم الجنائزية التي كانت تقام لتكريم المتوفى.
كمدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، أتابع هذا الكشف بفرح وفخر كبيرين، إذ يمثل خطوة نوعية في إثراء معرفتنا بحضارة عاشت قبل آلاف السنين، وما زالت تحكي قصصها عبر الحجر والنقوش الباقية. ما تم العثور عليه لا يقدم لنا مجرد أسماء وألقاب، بل يسمح لنا بالدخول إلى أعماق الحياة الاجتماعية والدينية في تلك الحقبة، لنتفهم كيف كان المصري القديم يعبر عن احترامه للمتوفى، ويهيئ له رحلة مقدسة نحو العالم الآخر.
المقبرة الأولى تعود لشخص يُدعى "آمون-إم-إبت"، وهو من كبار موظفي معبد آمون في عصر الرعامسة. ورغم أن الكثير من مناظر المقبرة تعرضت للتلف، إلا أن ما تبقى يكشف لنا مناظر فريدة لحملة الأثاث الجنائزي، وطقوس تقديم القرابين، والولائم التي كانت جزءاً لا يتجزأ من مراسم الدفن. هذا يعكس مدى الاعتناء والاحترام الذي كان يُخصص لهؤلاء المسؤولين في الحياة وبعد الموت.
أما المقبرتان الأخريان فترجعان إلى الأسرة الثامنة عشرة، حيث تعود إحداهما إلى "باكي"، مشرف صومعة الغلال، وهي وظيفة تعكس العلاقة الوثيقة بين الإدارة الدينية والزراعية، وأخرى لشخص يُدعى "إس"، المشرف على معبد آمون بالواحات، وعمدة الواحات الشمالية، وكاتب. هذه الأدوار المتعددة تعكس تعقيد النظام الإداري في الدولة الحديثة، وتؤكد أهمية مواقع مثل ذراع أبو النجا التي تجمع بين الأبعاد الدينية والإدارية.
في رأيي، هذا الكشف له أكثر من قيمة أثرية، فهو يسلط الضوء على العلاقة بين الحياة اليومية والطقوس الدينية، ويبرز كيف كان الموت بالنسبة للمصري القديم بداية رحلة تستحق أكبر قدر من الاحتفال والتكريم.
كما أن نجاح هذا الكشف بأيادٍ مصرية خالصة، يبعث رسالة واضحة عن قدرة كوادرنا الأثرية في مواجهة تحديات التنقيب والصون، ويثبت أن مصر لا تزال على قمة قائمة الدول التي تمتلك ثروات ثقافية لا تضاهى.
أدعو إلى الإسراع في استكمال أعمال التنظيف والدراسة العلمية للنقوش المتبقية، ونشر النتائج بشكل علمي مفصل ليتمكن الباحثون والمهتمون من الاستفادة القصوى، بالإضافة إلى تقديم هذا الاكتشاف كجزء من برامج السياحة الثقافية التي تستقطب الزائرين من جميع أنحاء العالم.
في النهاية، ما يجعل هذا الكشف مميزًا ليس فقط ما يحتويه من معلومات عن الحياة بعد الموت في مصر القديمة، بل كيف يربطنا بأجدادنا الذين رغم مرور آلاف السنين على رحيلهم، لا يزالون يخاطبوننا بلغة الفن والرموز والنقوش، حكاياتهم تتردد في صمت الحجارة لتروي لنا قصة حضارة خلدة التاريخ.