مظهر شاهين

من خراسان إلى قونية… كيف حمل غير العرب شعلة الإسلام إلى عنان السماء؟

الثلاثاء، 27 مايو 2025 03:46 م


لم تكن الحضارة الإسلامية حكرًا على العرب، وإن كانت انطلاقتها الأولى من جزيرة العرب، فإنها ما لبثت أن انفتحت على الشعوب كافة، فدخل فيها العربي والعجمي، الشرقي والغربي، وجمعهم الإيمان، ووحّدهم العلم، وصهرهم القرآن في بوتقة حضارية واحدة، كان معيار التفاضل فيها هو التقوى، وأداة الارتقاء هي الاجتهاد والإبداع.

وقد أثبت غير العرب من العلماء حضورًا لافتًا في بناء صرح العلوم الإسلامية، فكانوا رواة للحديث، وروّادًا في الفقه، ومؤسسين في التفسير والعقيدة واللغة، حتى غدا كثير منهم أئمة يُرجع إليهم ويُبنى على علومهم، فحملوا شعلة الإسلام وارتقوا بها إلى عنان السماء، وخلّد التاريخ أسماءهم في سجلاته المضيئة.

في مدينة بخارى، الواقعة اليوم في أوزبكستان، وُلد محمد بن إسماعيل البخاري عام 194 للهجرة، فكان عَلَمًا من أعلام الحديث الشريف، ومؤلف “الجامع الصحيح” المعروف بـ “صحيح البخاري”، والذي يُعد من أعظم ما صنّف في علم الحديث عبر العصور، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق. لقد جمع فيه خلاصة علمه، وثمرة رحلاته الطويلة، وروح مدرسته النقدية التي اتسمت بالدقة والصرامة في التوثيق والتحرّي. ونال كتابه مكانة مرموقة بين علماء الحديث والأمة جمعاء، لما حواه من أحاديث منتقاة بعناية منهجية فريدة.

قال فيه الإمام الذهبي: “هو الإمام الحافظ، حجة المحدثين، قدوة أهل الأثر، وصاحب الصحيح الذي أعجز من جاء بعده.” وقال ابن حجر العسقلاني: “أجمعت الأمة على قبوله والعمل به سوى من شذ، وهو حجة في صحيحه كما يُحتج بالقرآن.” أما الإمام النووي، فقد رأى أن “صحيح البخاري أولى الكتب بالاعتناء بعد كتاب الله تعالى.”

ورغم أن بعض مواضعه قابلة للنقاش والنظر – كما هو شأن كل نتاج بشري – فإنه يظل عملًا علميًّا رفيعًا يُحتفى به، ويُرجع إليه، ويُبنى عليه، وقد بلغ الغاية في الإتقان البشري، غير أن الكمال لله وحده، وللكتاب الذي تولّى سبحانه حفظه، وهو القرآن الكريم. أما ما سواه، فجهد مشكور، وسندٌ علميّ لا يُستهان به. ومن كلماته البليغة التي تعكس عمق توكّله وزهده: “رجاءك للناس يُذهب هيبتك، ورجاءك لله يُذهب حاجتك.”

ومن مدينة قونية في الأناضول، بزغ نجم الإمام إسماعيل القونوي في القرن العاشر الهجري، أحد كبار فقهاء الحنفية، والذي ترك بصمة علمية متميزة في ميادين الفقه والتفسير والبلاغة. عرفه طلاب العلم من خلال حاشيتين راسختين: فقهية على “شرح كنز الدقائق” للنسفي، وتفسيرية على “أنوار التنزيل وأسرار التأويل” للبيضاوي. وكانت هذه الأخيرة موضوعًا لرسالتي في الدكتوراه بجامعة الأزهر، تحت عنوان: “التصوير البياني في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي: دراسة بلاغية تحليلية”.

كانت رحلة علمية ماتعة في أعماق النص القرآني، رأيت فيها القونوي متذوقًا لا ناقلًا، ومحققًا لا مقلدًا. حملت عباراته روحًا خاصة، وتجلّى فيها فكره المستقل، وفهمه العميق للغة الوحي. لم يكن تابعًا للبيضاوي، بل محاورًا له حينًا، ومفسرًا لتعبيراته حينًا آخر، وكان دائمًا مستبصرًا في معاني القرآن، متلمسًا لروحه وبيانه. أما حاشيته الفقهية، فكانت نموذجًا في التحرير والترجيح داخل إطار المذهب الحنفي، وتجلّت فيها منهجيته الراسخة وميزان ورعه العلمي.

وكان مما يردده لطلابه: “العلم ما أورث الخشية، ومن لم يخشَ ربه فما عرفه.” كما أوصاهم: “لا تنقلوا عني حرفًا حتى تتحققوا من فهمه عن قلبي لا عن لساني.”

ولم يكن البخاري والقونوي استثناءً من بين علماء الأمة، بل اصطفّ إلى جانبهما عشرات من الأئمة غير العرب الذين أسهموا في رفعة الحضارة الإسلامية، وبنوا صرحها العلمي. من هؤلاء الإمام مسلم النيسابوري، صاحب صحيح مسلم، والإمام الترمذي بدقته النقدية، وأبو داود السجستاني الذي جمع أحاديث الأحكام، والنسائي صاحب السنن الكبرى، والزمخشري مفسر خوارزم، وفخر الدين الرازي من الري بموسوعيته الفلسفية، والإمام الماتريدي من سمرقند، أحد أعمدة العقيدة السنية، والسرخسي والنسفي والبِيروني وابن سينا ونجم الدين الكبرى، وغيرهم كثير.

لقد تجاوز الإسلام في رحلته الحضارية حدود اللسان والنسب، وجعل من غير العرب أئمة ومراجع ومجددين، حملوا أمانة الدين، وصاغوا معالم الحضارة الإسلامية. من خراسان إلى قونية، ومن سمرقند إلى الري، ومن خوارزم إلى بخارى، كانت يد غير العرب تسهم بصدق في كتابة تاريخ الإسلام المضيء، وتؤكد أن هذا الدين حين يحتضن الإنسان، يطلق طاقاته، ويصنع منه قائدًا في الأرض وشاهدًا على السماء.

بل إن كل واحد من هؤلاء الأعلام جدير بأن يُفرد له مقال مستقل، يُنصف سيرته، ويكشف عن ملامح فكره، ويُبرز أثره في مسيرة العلم والحضارة. فهم لم يكونوا مجرد أسماء في بطون الكتب، بل كانوا عقولًا ناطقة، وقلوبًا عاملة، ومشاعل هادية امتد ضوؤها عبر القرون، وشهد لها التاريخ بالحضور والتأثير والمجد.

وهنا يحق لنا أن نتساءل بمرارة صادقة: ماذا قدمنا نحن للإسلام؟ وماذا قدم أولئك الذين يهاجمون هذه القمم العلمية العظيمة؟ لقد قدّم أولئك العلماء للإسلام أعمارهم وعقولهم وقلوبهم، أفنوا حياتهم في رحلات العلم، وسهروا الليالي في خدمة الحديث والتفسير والفقه والعقيدة، فكانوا وقودًا لنهضة الدين، وصمام أمان لفكره. أما كثير منّا اليوم، فلا يكاد يتجاوز دوره التلقي الساكن، أو الانتقاد المكرر، أو الهجوم المستند إلى الجهل أو الهوى.

إن الذين يطعنون في البخاري ومسلم، أو يسخرون من الماتريدي والرازي، لم يقدّموا بديلًا علميًّا ولا مشروعًا حضاريًّا، ولا خطابًا دعويًّا راشدًا، بل لم يقرؤوا غالبًا ما ينتقدونه. فهل كتب أحدهم ما يضاهي صحيح البخاري؟ وهل قدّم أحدهم للعقيدة ما يوازي عمق الماتريدي؟ وهل فصّل أحدهم في التفسير كما صنع الرازي أو الزمخشري؟ أم أن أقصى ما لديهم هو الضجيج بلا بناء، والتهجم بلا بديل، والهدم بلا ترميم؟

الأمة لا تحتاج إلى من يُسقط رموزها، بل إلى من يُنزلهم منازلهم، ويقرأهم بعين المنصف لا بعين المغرض، ويضيف إليهم من نبع أصيل، لا أن يطعن فيهم من فراغ. إن أقل الواجب أن نعترف بفضلهم، ونُسكت من جهل قدرهم، فهم منارات لا تُطفأ، وأعلام لا تُنسى، وحُق لهم أن تُذكر أسماؤهم كلما ذُكر المجد والعلم والإخلاص.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب