وليد فكرى

من تاريخ الخوارج «5»

الثلاثاء، 27 مايو 2025 01:10 م


ما زلنا مع الحديث عن تاريخ الخوارج، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة.

عندما ارتكب المتمردون جريمة قتل الخليفة عثمان بن عفان، كانت أم المؤمنين السيدة عائشة بنت أبى بكر الصديق فى مكة، فلما بلغها الخبر راحت تطالب بالقصاص من قتلة عثمان.

سرعان ما انضم إليها كل من الزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله، وقد أعلنا رفضهما بيعة الإمام على بن أبى طالب بالخلافة، لأنها كانت فى ظروف مريبة لا تكتمل فيها حرية الإرادة، وقد أظهرا الاستياء من عدم تحرك الإمام للقصاص من القتلة، فضلا عن موافقته على طلبهم ترشحه للخلافة.

حشد كل من السيدة عائشة وطلحة والزبير جيشا قرروا أن يقودوه لمواطن زعماء حركة القراء لمطاردة القتلة، وتوجهوا إلى العراق، بلغ الخبر الخليفة فى المدينة، فكان من الطبيعى أن يسارع بالتحرك لإيقاف «أصحاب الجمل»، وعُرفوا بذلك نسبة لجمل قيادة الجيش الذى كان يحمل هودج السيدة عائشة، لأنه لم يكن ليسمح بأن يتحرك هذا أو ذاك لإشعال قتال داخل الدولة بذريعة القصاص، لأن القصاص هو مهمة الدولة.

تحرك الخليفة على رأس جيشه لمنع تلك الكارثة من الوقوع، وانضم القراء، قتلة الخليفة السابق عثمان بن عفان، إلى الجيش، من ناحية لأنهم خشوا من رجحان كفة المطالبين بالقصاص، ومن ناحية أخرى لرغبتهم أن يكونوا فى قلب مسرح الأحداث.

بلغ جيش الإمام العراق، وواجه جيش أصحاب الجمل قرب مدينة البصرة، حيث دارت بعض المناوشات الخفيفة، ثم التقى الطرفان للتفاوض، ومحاولة الوصول لحل مشترك يرضى الجميع، ومر اليوم الأول من المفاوضات مثمرا، وانتهى بالاتفاق على استكمالها فى اليوم التالى، وبدا أن الأزمة فى طريقها للانتهاء، واستعد الكل لتنفس الصعداء.

ولكن قتلة عثمان كان لهم رأى آخر، فقد خشوا أن يؤدى اتفاق الإمام على وأصحاب الجمل إلى وقوعهم «القتلة» بين شقى الرحى، وأن يستقر الأمر للخليفة على، فتأتى ساعة الحساب، ويا له من حساب عسير تطير له رؤوس المجرمون.

تحسس القتلة أعناقهم وهم ينسلون ليلا من معسكر جيش الخليفة، ويجتمعون ليدبروا سريعا ما يفسدون به المفاوضات ويقطعون به أى طريق للصلح والاتفاق.

ولم تشرق الشمس إلا وصائحان يستصرخ كل منهما جيشه ويدعى أن جند الجيش الآخر قد بادروا بغدر وهاجموا معسكره، فما الذى جرى ليحدث ذلك؟

ما جرى أن القتلة قد تلثموا وانقسموا مجموعتان: هاجمت إحداهما معسكر أصحاب الجمل، بينما هاجمت الأخرى معسكر الإمام على، فاندلعت المعركة وكل طرف يحسب أن الآخر قد دبر الغدر به.

واشتعل قتال شرس استحر القتل فيه بين الجيشان، وانتهى الاقتتال بانتصار جيش الخليفة، ولكن الخسارة للجميع كانت مفجعة، فقد قُتٓلَ الآلاف من الطرفين حتى راح الرجل يبكى رفاقه وخصومه على حد سواء.

واغتيل كل من طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام، الأول حين أفجعته المقتلة فاستشعر الندم والنفور من المشاركة فيها، فأراد الانسحاب، فلما رآه مروان بن الحكم، وكان فى جيش أصحاب الجمل، رماه بسهم قاتل، والزبير انسحب أيضا بعد محاورة مع الإمام على اقتنع فيها الزبير بخطأ موقفه، فلما غادر ميدان المعركة تبعه أحد من ادعوا الانحياز للإمام على، وقتله غيلة وهو يصلى، وحمل رأسه وسيفه للخليفة الذى أفجعته الجريمة النكراء فتوعد القاتل بالنار، وراح ينظر لسيف الزبير باكيا وهو يقول: «هذا سيف طالما دفع الكرب عن رسول الله».

والتقى الخليفة على بأم المؤمنين السيدة عائشة، فتصالحا ووقفا يخطبان فى الناس بالصلح، وقد اعتذرت أم المؤمنين قائلة: «إنما قيل لى تعالى لتصلحى بين الناس»، وقال فيها الإمام: «صدقت.. وهى زوج رسول الله فى الدنيا والآخرة».

وقد أراد القتلة إفساد هذا الصلح، فراحوا يبثون بين جند الخليفة الفتنة بادعاءهم استنكار رد الإمام لأصحاب الجمل ما سُلِبَ منهم فى القتال، وأنه قد أطلق أسراهم، وصلى على قتلاهم، فلما كادت الفتنة أن تكبر أطفأها الخليفة على ببلاغته المعهودة، فجمع رجال جيشه وقال لهم موبخا: «أيكم يحب أن تكون أم المؤمنين غنيمة له؟»، فأدركوا المعنى وطأطأوا رؤوسهم خجلا من حماقة ما كانوا يطلبون..

وسُئِل الإمام على فى شأن أصحاب الجمل «هل كفروا؟» فأجاب مستنكرا: «من الكفر فروا»، فسُئِلَ: «فهم منافقون؟» فأجاب بنفس الاستنكار: «إن المنافق لا يذكر الله إلا قليلا»، فسُئلَ: «فما هم؟»، فقال حاسما: «إخواننا بغوا علينا»، فاستراحت سرائر أصحاب النوايا الطيبة والنفوس الصادقة، بينما امتعض القراء من رفض الخليفة تكفير مخالفيهم أو الطعن فى دينهم، وراحوا يتبادلون نظرات السخط وهم يتساءلون عما إذا كانوا قد أخطأوا بدعمهم خليفة لا ينتهج منهجهم التكفيرى.

انتهت أزمة أصحاب الجمل، ولكن نُذُر أزمة أكبر راحت سحبها تحتشد فى الأفق.

ففى دمشق، كان معاوية بن أبى سفيان، والى كل من الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان على الشام، والذى أصبح بعد مقتل الخليفة عثمان عميدا للبيت الأموى، قد أعلن رفضه مبايعة الإمام على بن أبى طالب بالخلافة، ما لم يقم بالقصاص الفورى من قتلة عثمان أو تسليمه إياهم، وقد نصب معاوية على منبر مسجد دمشق قميص عثمان الممزق والمخضب بدمه، وعلق عليه أصابع نائلة بنت الفرافصة، أرملة الخليفة الشهيد، التى قُطِعَت أثناء محاولتها رد القتلة عنه، وحشد الناس وراحوا يطالبون بالقصاص، بلغت أخبار دمشق الإمام على، وبطبيعة الحال فقد بلغت حركة القراء الذين أدركوا أن الخطر عليهم لم ينته، وأن رقابهم ليست بعد آمنة، ولكنهم مع ذلك استشعروا ارتياحا، فمزيد من الاضطراب يخدمهم لأنهم يعلمون أن الأمور لو استقرت فسيتفرغ الخليفة «على» للتحقيق فى جريمة قتل سلفه وإيقاع العقاب بالقتلة، فإن كان خلافا صارخا قد نشب بين الخليفة الراغب فى فرض الاستقرار قبل القصاص، ووالى الشام الراغب فى القصاص قبل كل شىء، فإن هذا مما يمهلهم فسحة من الوقت لتدبير خطواتهم التالية.

وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب