فى عالم الدبلوماسية، هناك مقولة شهيرة يفطن إليها المخضرمون، وهى: "عندما يقول الدبلوماسى نعم فهو يعنى ربما، وعندما يقول ربما فإنه يعنى لا، وإذا قال لا فهو ليس دبلوماسياً".. ومفهوم الدبلوماسية يتمحور بالأساس حول إدارة العلاقات بين الدول والأفراد عن طريق التفاوض، لتجنب الصراعات وتعديل الروابط والمصالح المشتركة.. هذا ما تدركه الدول الكبرى جيداً لإدارة شؤونها الخارجية.
أما فى سياسة إسرائيل، فلا وجود مطلقاً لمصطلح الدبلوماسية، فنهجها منذ عقود هو الصَلَف والتعنت وغطرسة القوة، كما أنها لم ولن ترقى إلى "دولة" فما زالت كياناً مُحتلاً بغيضاً مغتصباً للأرض الفلسطينية الطاهرة.. لهذا يحاول كيان الاحتلال الإسرائيلى منذ الإعلان عنه وزرعه فى المنطقة العربية عام 1948 – تحقيق الأحلام الصهيونية الواهية بنهب أرض فلسطين التاريخية.. فلا يكل ولا يمل ذاك الكيان من استخدام سياسة الأرض المحروقة بين الحين والآخر؛ لإرغام الشعب الفلسطينى على التهجير، قسرياً كان أو طوعياً.
واستئناف إسرائيل لعدوانها الغاشم على غزة، وتعمدها خرق اتفاق وقف إطلاق النار بعد 57 يوماً من سريانه منذ 19 يناير الماضى، وما تمارسه من قتل يومى واسع وتهجير لمئات الآلاف داخل القطاع المحاصر – هو مرحلة جديدة من الوحشية تهدف إلى دفع الفلسطينيين خارج غزة وجعل حياتهم داخلها مستحيلة.. وبات الأمر مكشوفاً للجميع، فكلما اقتربت الحرب من نهايتها، تعاود تل أبيب استكمالها وتنسف جهود الوسطاء "الدبلوماسية" الساعية لحلحلة الوضع المتأزم؛ تنفيذاً للمخططات الصهيونية الخبيثة بتهجير الفلسطينيين من أرضهم بأى شكل من الأشكال.
وهذه المخططات الصهيونية "القديمة – المتجددة" لتهجير الشعب الفلسطينى من أرضه التاريخية، ليست وليدة العدوان الإسرائيلى الحالى على غزة، وإنما سيطرت الفكرة على العقول الصهيونية منذ عقود، حتى قبل ظهور كيان الاحتلال الإسرائيلى، حيث طُرحت هذه الفكرة الشيطانية كخطط ومشاريع كان يتم البحث فيها فى إطار مجالس الحركة الصهيونية لترحيل الفلسطينيين إلى خارج أرضهم، وخاصة إلى مصر والأردن.
وكان أول مشاريع تهجير الفلسطينيين إلى سيناء فى أوائل خمسينات القرن الماضي، بعد فرار حوالى 200 ألف لاجئ فلسطينى من فلسطين التاريخية إلى غزة بحلول مارس من عام 1949، ويومها وُضع مخطط أمنى بواجهة اقتصادية واجتماعية لتوطين عشرات آلاف الفلسطينيين فى سيناء، ونوقشت الفكرة مع الرئيس المصرى الراحل جمال عبدالناصر، ودفعت الولايات المتحدة الأمريكية حينذاك عبر "جون بلاندفورد" وهو صانع سياسات أمريكى، باتجاه اقتراح للأمم المتحدة لإعادة توطين عشرات الآلاف فى صحراء سيناء، وكانت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" المؤسسة حديثاً أجرت مسوحاً فى تلك الفترة لاستكشاف مخططات استصلاح الصحراء فى سيناء – شرق قناة السويس مباشرة – كوجهة مقترحة لتوطين الفلسطينيين، وتضمنت الخطة أن يشارك اللاجئون فى مشاريع التنمية الزراعية الجديدة ويُعاد إدماجهم فى الاقتصاد المصرى، وبالفعل خصصت واشنطن الجزء الأكبر من التمويل للمشروع الذى قُدر بنحو 30 مليون دولار عام 1955.. لكن انتفاضة الفلسطينيين فيما عُرف بـ "هبّة مارس" أجهضت المشروع، قبل أن ترفضه مصر.
ومن أبرز تلك الخطط الإسرائيلية عبر التاريخ، خطة "إيجال آلون" عام 1967، التى اقترحها السياسى والقائد العسكرى الإسرائيلى "آلون" على مجلس الوزراء الإسرائيلى فى يوليو 1967، بعد انتهاء الحرب مباشرة، لفرض تسوية إقليمية، وإبان احتلال إسرائيل لسيناء (1967 - 1973) حاولت تل أبيب استغلال سيطرتها على الأرض لتهجير آلاف الفلسطينيين من غزة إلى الأراضى المصرية المحتلة آنذاك، فيما عُرف بـ "مشروع العريش" عام 1970، وسعى أرئيل شارون – الذى كان يشغل وقتها منصب قائد المنطقة الجنوبية بجيش الاحتلال الإسرائيلى وأصبح لاحقاً رئيساً لحكومة الاحتلال – إلى تفريغ قطاع غزة من سكانه وكان عددهم آنذاك 400 ألف مواطن، فنُقل نحو 16 ألف فلسطينى من عائلات غزة فى حافلات تابعة للجيش إلى سيناء.
كما كان هناك مشروع مستشار الأمن القومى الصهيونى "جيورا أيلاند" عام 2004، الذى تضمن تنازل مصر لقطاع غزة عن مناطق من سيناء، وبموجب ذلك المشروع تتنازل مصر عن 720 كيلومتراً مربعاً من أراضى سيناء لصالح الدولة الفلسطينية المقترحة، وتمتد بطول الساحل من مدينة رفح غرباً حتى حدود مدينة العريش، مقابل حصولها على مساحة مساوية فى صحراء النقب.. وأيضاً خطة "يوشع بن آريه" عام 2013، التى قدمها الرئيس السابق للجامعة العبرية "آريه" مقترحاً إقامة وطن بديل للفلسطينيين فى سيناء.. كما تم الكشف عن وثيقة سرية لوزارة المخابرات الإسرائيلية العام قبل الماضى، دعت لتهجير سكان غزة إلى سيناء عقب عملية طوفان الأقصى.. وهناك دراسة لمعهد "مسجاف" للأمن القومى والاستراتيجى الإسرائيلى فى 17 أكتوبر عام 2023، طالبت بإخلاء قطاع غزة بأكمله بالتنسيق مع مصر مقابل دعم الاقتصاد المصرى.
منذ قرن تقريباً.. بدأت مخططات التهجير، وحتى اليوم لا تزال تلك المقترحات تُناقش فى الداخل الإسرائيلى، وتسعى حكومة بنيامين نتنياهو إلى إيجاد ثغرات تحقق لها أهدافها فى التخلص من ملف الفلسطينيين والقضية الفلسطينية.. ولكن، تلك المخططات تتحطم دائماً على "صخرة" صمود الشعب الفلسطينى ورفض الدولة المصرية المستمر على مدار التاريخ لطروحات التهجير، بالرغم من الضغوط الدولية.
وفى أكثر من مناسبة يؤكد الرئيس عبدالفتاح السيسى، على رفض مصر القاطع لتصفية القضية الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، حتى مع اقتراح الإدارة الأمريكية مؤخراً لخطة ترحيل الفلسطينيين من غزة، أكد الرئيس السيسى أن التهجير ظلم لن تشارك مصر فيه أبداً.
والآن.. وبعد افتضاح المخطط الإسرائيلى من استئناف العدوان على غزة، والذى ترعاه واشنطن سراً وعلانية، يبقى الحل فى تكاتف كل الدول المحبة للسلام والمؤيدة للقانون الدولى والمدافعة عنه، وتحركها فوراً لوقف آلة الحرب الإسرائيلية ومن ورائها لتحقيق الاستقرار المستدام فى منطقة الشرق الأوسط.
ولعل زيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون المرتقبة إلى مدينة العريش خلال الأسبوع الجارى للتأكيد على ضرورة وقف إطلاق النار فى غزة، خطوة على الطريق الصحيح لردع الكيان الإسرائيلى وحلفائه.. ومن الضرورى أن يعقبها زيارات مماثلة من زعماء العالم الغربى، للتأكيد على ذات الأمر، ووضع حد للممارسات والمخططات الإسرائيلية المستفزة.
ومن الأهمية بمكان، أن تواصل الدولة المصرية العمل فى هذا المسار لاستقطاب المزيد من قادة الغرب والحشد الدولى لدعم الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة، بالتوازى مع جهود القاهرة الحثيثة كوسيط نزيه وشريف فى مفاوضات وقف إطلاق النار، وجهودها المكثفة لرفع المعاناة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني.