في الوقت الذي يسعى فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إنهاء الصراع في أوكرانيا، عبر إضفاء قدر من النزاهة على الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة، لتحقيق التوازن المفقود، في إدارة الصراع بين روسيا ودول أوروبا الغربية، لعقود طويلة من الزمن، عبر مسارين أولهما الانحياز بصورة ما لموسكو، وهو الأمر الذي وإن كان محدودا، فيمثل صاعقة لكل دوائر المحللين السياسيين، وصناعة القرار في المعسكر الغربي، باعتباره انقلابا على معايير واشنطن العتيدة، التي لم تستنكف يوما من الإعلان الصريح عن عدائها تجاه الروس، رغم انقضاء مرحلة الصراع بنهاية الحرب الباردة وما تبعها من انهيار للاتحاد السوفيتي، بينما اعتمدت في المسار الآخر إلى التلويح بالعصا تجاه الحلفاء الغربيين، عبر أدوات التجارة والاقتصاد، مرورا بالسياسة، وحتى الحديث عن السيادة، من خلال مقترحه المثير للجدل حول ضم جزيرة جرينلاند الخاضعة لسيادة الدنمارك.
الموقف الأمريكي تجاه الأزمة الأوكرانية، يدور حول رغبة الرئيس دونالد ترامب القيام بدور الوساطة، فيما تناولته باستفاضة أكبر، في مقال سابق، حمل عنوان "الوسيط الشرس"، في ضوء تقاربه، ربما المحدود ولكن غير المسبوق تجاه روسيا، في الوقت الذي تباعدت فيه المواقف مع الحلفاء، وهي المواقف المعرضة للتغيير بين لحظة وأخرى، حال حدوث أي خلل في التوازن المنشود، الذي من شأنه تحقيق النجاعة المطلوبة للدور الذي تلعبه الولايات المتحدة لإنهاء الصراع، وبالتالي "صناعة السلام" التي طالما وعد بها الرئيس الأمريكي منذ انطلاق حملته الانتخابية، باعتباره الوحيد القادر على إنهاء الأزمات التي باتت تلاحق الكوكب بل وتهدد بانفجاره.
ووعود ترامب بـ"صناعة السلام"، في واقع الأمر، لم تقتصر في جوهرها على العمق الأوروبي، وإنما ممتدة إلى منطقة الشرق الأوسط، إلا أن ثمة العديد من الاختلافات في إدارة المشهد، ربما أبرزها الانحياز للحليف التاريخي (إسرائيل) على حساب القضية الفلسطينية، ناهيك عن دخوله على خط الصراع، عبر المشاركة مؤخرا في هجمات استهدفت معاقل الحوثيين في اليمن، وهو ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت واشنطن لا ترغب في تحقيق أي قدر من النزاهة، على غرار موقفها من الصراع في أوروبا، وهو ما يعني بقاء الأمور لا تراوح مكانها، في ضوء التصعيد الكبير من قبل قوات الاحتلال، والرغبة العارمة لدى حكومة بنيامين نتنياهو في إطالة أمد الحرب زمنيا، وتوسيع نطاقها الجغرافي.
"شراسة" الوسيط الأمريكي، في الشرق الأوسط، استبقت وصول ترامب إلى البيت الأبيض، عندما أرسل مبعوثه ستيف ويتكوف إلى المنطقة، للتأكيد على إصرار الرئيس المنتخب آنذاك على دخول اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، حيز النفاذ، قبل تنصيبه، وهو الأمر الذي اضطر نتنياهو إلى قبوله مرغما، وهو ما يعكس رغبة عارمة في ترويض الحليف المدلل، الذي طالما رفض كافة النداءات الداعية لوقف الحرب الدامية، لشهور طويلة، إلا أن الاختلاف بدا بعد ذلك في ضوء العديد من المعطيات الإقليمية، أهمها ما تواجهه التجارة الدولية، وفي القلب منها الأمريكية، من تهديدات، إثر اعتراض السفن في البحر الأحمر، وهو ما يمثل تهديدا صريحا للاقتصاد الأمريكي، والذي يعد أولوية قصوى في أجندة الرئيس، بينما يبقى الدور الذي تلعبه الفصائل نفسها عائقا آخر أمام توجيه بوصلة الوساطة الأمريكية، نحو التوازن المنشود.
والحقيقة التي لا تقبل جدالا على الإطلاق، أن الحالة الإقليمية الراهنة، وفي القلب منها حالة الانقسام التي تهيمن على المشهد الفلسطيني الداخلي، وما ترتب على ذلك من تداعيات كبيرة، ساهمت بصورة أو بأخرى نحو تحويل "شراسة" الوسيط، والتي استبق بها ولايته الجديدة تجاه الحليف "المدلل"، إلى تطويعها مجددا، وهو ما بدا أولا في موقفه المؤيد لتهجير سكان غزة تحت مظلة إعادة الإعمار، ثم انغماسه في عمليات عسكرية باليمن، أو على الأقل تغيير وجهتها مرحليا، مما سمح لدولة الاحتلال بالعودة إلى العمليات القتالية، وبمباركة أمريكية، في محاولة للضغط على الفصائل مجددا، وهو ما يفسر في جزء كبير منه الأولوية الكبيرة التي باتت تحظى به الأزمة الأوكرانية، في أجندة الرئيس ترامب المرتبطة بـ"صناعة السلام"، على حساب الشرق الأوسط.
موقف الرئيس ترامب تجاه التهجير وجد في المقابل ردا إقليميا عربيا عمليا، وليس خطابيا، عبر تقديم خطة واضحة الملامح، من شأنها إعادة الإعمار في وجود سكان القطاع، وهي الخطة التي لاقت دعما دوليا، أضفى عليها قدرا كبيرا من الشرعية، لتمنحها مزيدا من القوة خلال الحوار مع الجانب الأمريكي، إلا أن الحاجة باتت ملحة لدى أصحاب القضية أنفسهم للتجرد من المصالح سواء شخصية أو أيديولوجية أو غير ذلك والانتصار للقضية، والتي ربما عانت لعقود، من غياب أي قدر من النزاهة في إدارتها من قبل الأطراف الدولية، وهو الأمر الذي تحقق جزئيا مع تغيير ملموس في مواقف أوروبا الغربية، خلال مراحل العدوان الحالي، ناهيك عن استعداد أمريكا لتغيير مواقفها ولو جزئيا، وهو ما يمكن استلهامه بقراءة مواقفها في المناطق الأخرى من العالم.
وهنا يمكننا القول بأن الحاجة ملحة إلى استدعاء "الوساطة الشرسة" لإدارة الرئيس ترامب في الشرق الأوسط، على غرار ما تشهده الحالة الأوكرانية، خاصة وأن التحالفات التقليدية التي تتبناها واشنطن لا يمثل الاحتفاظ بها أولوية كبيرة لدى البيت الأبيض، في اللحظة الراهنة، بينما يبقى الرهان على دور الوسيط، للاحتفاظ بالقيادة الأحادية، بعيدا عن الحالة التي سادت خلال العقود الأخيرة والتي وإن كانت قد هيمنت عليها واشنطن، إلا أن معسكر الحلفاء كان شريكا لها في القيادة، حتى وإن كان ذلك شكليا أو بصورة رمزية، وهو الأمر الذي لا ترغب فيه الإدارة الحالية، والتي تطمح في الاستئثار المطلق بالقيادة الدولية، وهو ما يمثل فرصة جوهرية، حال استثمارها من أصحاب القضية، لتحقيق انتصار جديد على الصعيد الدبلوماسي، عبر توجيه بوصلة السياسة الأمريكية من كفة الانحياز المطلق إلى إسرائيل، نحو المزيد من التوازن.