لا أحد يعرف ما يدور فى رأس ترامب، ولا حتى ترامب نفسه. ربما تكون أهدافه معلومةً نوعًا ما؛ لكنه يمضى إليها من طُرقٍ مُتعرّجة، ومع قدرٍ وافرٍ من الانعطافات، وتفاوت السرعات، والتقافز بين تلالٍ عالية وأودية سحيقة.
ليس تقليديًّا قَطعًا؛ لكنه ليس مُرتَّبًا بعناية على صعيد الفكر والرؤية وآليات العمل. ينطلقُ من لا أيديولوجيا تقريبًا، ويسعى لأن يكون هو نفسه الأيديولوجيا، والدولة بذاتها، وأن يبنى تيَّارًا يحفظُ إرثَه الذى لم يتشكَّل بعد، ويبدو أنه يُواجه عوائقَ غير هَيّنةٍ على طريق التشكُّل.
الرئيسُ صاخبٌ بإرادته، ويعتبرُ أنَّ إفراطَه فى تذويب معالم الطريق المُوصلة إلى عقله، من عناصر القوّة التى تُبقِيه غامضًا، مُخيفًا، قادرًا على المبادرة بما يفاجئ الآخرين، ومشمولاً بارتعاب الحلفاء قبل الخصوم، واستعدادهم المُسبَق للتوقيع على عروضه التى لا يُمكن رفضها، كما لو أنه ينطقُها بطريقة مارلون براندو الآسِرَة فى ملحمة «العرَّاب».
كان المشهدُ مسرحيًّا بامتياز، وبالنظر إلى خَلفِيَّتَى بطلَيه؛ فإنه كان عرضًا للتسلية بأكثر من كونه عملاً سياسيًّا، ومُباراة فى التلوين وتحمية الأجواء وسرقة الكاميرا، حتى لكأنه صِيغ بقلم كاتب سيناريو شعبوىٍّ ردىء، ومنح لطَرَفَى المُشاجرة ما يُشعرهما بالفوز معًا.
أُدِير على ما يبدو بأقصى قدرٍ مُمكنٍ من الاستعراض، وأقسى حدٍّ من الضغط على المشاعر وابتزاز الجمهور فى أحد اتجاهين: الساديّة لدى المُغرمين بالقوىِّ المُتسلّط، إذ يُملِى إرادتَه ويُعبِّر عن الفاعلية ولو بأردأ الصُّوَر، والهشاشة فى نفوس الضعفاء المُتعاطفين مع المُستَضعَف، وقد اتُّخِذَ شاخصًا للتصويب دون رحمةٍ، وبما لا يختلف عن سلوك الجلَّاد البعيد الذى أتى مُستنجِدًا منه، وباحثًا حسبما يقولُ عن طوقِ نجاةٍ لوطنٍ بائسٍ، ولأُمثولةٍ حضاريَّة تنتمى لأوروبا والولايات المُتَّحدة بأكثر من انتمائها لأوراسيا.
جاء فلوديمير زيلينسكى من عالم الكوميديا والتشخيص. زجَّ به القَدرُ فى بطولة مسلسلٍ عنوانه «خادم الشعب»، اختبر فيه سهولةَ المنصب السياسىِّ والتنفيذىِّ الأرفع فى الدولة؛ فتشجَّع على أن يقفز من الاستوديو إلى قصر الحُكم.
والسيد دونالد لا يختلف كثيرًا؛ إذ يتحرَّكُ أصلاً بوقود «الافتتان بالذات» والثقة العمياء فيها، ولديه نَهَمٌ غير محدودٍ للشُّهرة، وتجاربُ عِدّة مع تليفزيون الواقع ومُصارعة المحترفين والإعلانات التجارية.
وبمعنىً ما؛ فإنه مُمثِّلٌ أيضًا، لعلّه يختلفُ عن الطبعة الأوكرانية المُقابِلَة فى حجم الموهبة واللياقة وتقنيات الأداء، لكنهما فى النهاية يتعاملان مع العالم بشخصيَّتَيْهما الحقيقيَّتَيْن أحيانًا، وبأدوار المُهرِّجين والحَواة ومُبتَذَلِى الكوميديات الرخيصة والميلودرامات البائسة غالبًا.
تستندُ الدراما إلى الإيهام، وظلَّ مبدعوها يحرسون جدارًا رابعًا مُتخيَّلاً بين المسرح والجمهور، إلى أن حطَّمَه برتولد بريخت فى تنظيراته عن الملحميَّة، أو التغريب. وما يزال القديم سائدًا حتى الساعة؛ فالفنانون يحبسون أنفسَهم وراء حائطهم الزجاجى، والمُتفرجون يدخلون فى الحكاية باقتناعٍ كما لو أنها حقيقيَّةٌ تمامًا.
السياسةُ على النقيض. صحيحٌ أنها لا تخلو من أوهامٍ أيضًا؛ لكنها لا تُحبّ الجُدُرَ الشفَّافة، ولا المثقوبة. إمَّا أن يكون الكلامُ علنًا وفقَ أُطرٍ وقواعد محسوبة ومُهندَمة، أو يظلَّ فى الغُرف المُغلقة والصدور المكتومة، بكلِّ ما فيه من شدٍّ وجذبٍ وتجاوزٍ وبلطجة، ليُدفَن فى النهاية مع القائل والسامع، وفى أضابير المُدوَّنات التى لا تخرجُ تفاصيلُها الدقيقةُ للعَلَن غالبًا؛ حتى لو كانت فى بلدٍ يُتيحُ تداولَ المعلومات بإطلاقٍ، ويُحدِّد آجالاً مُؤقّتة لسريّة الوثائق.
بكلِّ الاعتبارات؛ فإنَّ ما حدث فى البيت الأبيض ظهيرةَ الجمعة الماضية غير مسبوقٍ على الإطلاق. لا شكَّ فى أنَّ مقرَّ الحُكم استضاف فعالياتٍ أشدَّ صخبًا على مدار أكثر من قَرنَيْن، ولم تخلُ عشراتُ اللقاءات فيه من التهديد والابتزاز والتلويح بالقوَّة وغصب حقوق الآخرين.
الولاياتُ المُتَّحدة ليست ملاكًا، ولطالما سرقَتْ خصومًا وحُلفاء وعابرى طريق، أو جارت عليهم دون رأفةٍ، ولن تتوقَّف عن سلوكها طبعًا؛ لكنها فيما مضى كانت أكثر رُشدًا من المُجاهرة بما يَعِنُّ لها من نزواتٍ، ومن صياغتها بمادّة قاموسٍ وقحٍ لا يهتمُّ بتنميق العبارات، ولا يعينه وَقعُها على السامعين.
الرؤساء الذين كانوا يبتزّون الآخرين فى الخفاء، اعتادوا أن يخرجوا إلى الإعلام والجمهور بابتساماتٍ عريضة، وحديثٍ وقورٍ تُغلِّفُه البلاغةُ وتفيضُ من حواشيه الحكمة. أمَّا لقاء ترامب الأخير مع زيلينسكى، وبعض لقاءاتٍ قبله وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة؛ فقد هدمَتْ الحائطَ الرابعَ على رؤوس الحضور، وفوق رأس واشنطن أولاً وأخيرًا.
لا يُمكن الانسياق بخفّة مع القائلين إن رئيس أوكرانيا تعرَّض لكمين مُرتَّب. الحقيقة أنه لا ترامب ولا نائبه «دى فانس» أرادا هذا أو استعدَّا له؛ لكنهما كانا أقلَّ كياسة وأكثر اندفاعًا، بما يكفى لإخراج المشهد على الصورة البائسة التى رأيناه عليها.
استُهلِك الجدلُ كلّه فى الأيام السابقة، والرجل الآتى من كييف كان مُستعدًّا لتوقيع اتفاق المعادن النادرة بمنافع أمريكية تتجاوز نصف تريليون دولار، ولعلّه تعشّم فى رسالةٍ رديفة تُطمئنه، أو تحمل ما يُشبه الضمانة الأمنية. لم يكن يتطلّع إلى أن يُخبره ترامب أنه إلى جواره حتى تحترق النجوم وتفنى العوالم، ولا أنه سيحصل على سلاح بدون حساب ولا أسقف للاستخدام. كان يتطلّع للقليل، القليل فحسب.
ربما يبدو زيلينسكى أقرب إلى مُهرِّجٍ أظلم المسرح وهو يتدرّج سلالم السيرك؛ ثم أضاء عليه مُتسنّمًا صهوة السلطة. ممثل خفيف، وسياسى من دون خبرات تمامًا؛ لكنه ليس ساذجًا ولا ناقص عقل، ولديه قادة ومُعاونون من التكنوقراط والعسكريين المُحترفين، وثمّة سيناريوهات يتحرّكون فى ضوئها، وأهداف يتقصّدونها، وأمور يرفضونها وأخرى يُمكنهم التفاوض بشأنها.
وإن صحّ القول إنه يتعرّض لابتزاز من إدارة ترامب؛ فالواقع أنه أوّل من تحدَّث عن المعادن الأرضية وبقية ثروات أوكرانيا الطبيعية، وسعى لإغراء الحُلفاء فى واشنطن وعواصم أوروبا بمواصلة إسناده انتظارًا لصفقات استثمارية وتجارية مُجزية لاحقا، كما أنه لمَّح غير مرّة، وعلى مدار شهور طويلة، لمقبولية أن يتفاوض فى الحدود التى انتهت إليها الحرب، وإن لم يعترف بسيادة روسيا على خُمس بلاده من الجنوب والشرق.
الفكرةُ أنه يقبلُ النزولَ عن بعض المساحات، وبادر بتقديم ثرواته للحُلفاء، ويعرف يقينًا أنه لا سبيل إلى الوصول لعتبة الناتو، ومن ثمَّ فالمَخرَجُ الوحيد أنْ تتوقَّف الحربُ عند حدودها الحالية. يمتلئ الرجلُ من داخله باليقين فى أنه خُذِلَ فعلاً، والسؤال اليومَ عن الإنقاذ لا الاستدراك والتصويب؛ لأنَّ الزمنَ الأوكرانىَّ لن يعود للوراء.
لا وجهَ لافتراض أنَّ الرئيس الأمريكى استدعى نائبَه قبل وفادةِ الضيف، وطلبَ منه أن يفتعِلَ معه مُشاجرةً، سيسقط هو نفسه فى أتونها سريعًا. جاءت الأمورُ ارتجاليّةً تمامًا؛ ما يكشفُ عن أزمةٍ عميقة فى مستوى الوعى والمُمارسة السياسية لدى الطرفين على السواء، وأنهما يُقادَان ولا يقودان، وينفعلان بالأحداث بعاطفيَّةٍ فجَّة، وكما يُمكن أن ينفعِلَ أىُّ رجلِ شارعٍ عادىٍّ.
ظهر ترامب بطلاً فى عيون جمهوره، وزيلينسكى أيضًا، وتعاطف كثيرون مع الأخير، وأوسعَه آخرون شَتمًا وانتقادًا؛ لأنه فرّط فى استقلاله منذ البداية على ما يقولون، وسار وراء سرابٍ خُدِعَ به من جهة الدائرة الأطلسية، وانزلق بإرادته فى محرقة الصراع بين الكبار، بما يفوقُه حَجمًا وعُدَّةً واحتمالاً، وما يفتقدُ فيه لأيّة ضمانات تُحصِّنُه من شرور الفريقين.
لم أرَ الأوَّلَ ونائبَه قَويَّيْن كما توهَّما، ولم أتعاطف مع الأخير أيضًا. أوكرانيا تُسدِّد فواتير قديمة؛ لكنَّ حصّةً غير ضئيلةٍ منها تتعلَّق فى رقبة زيلينسكى، وهو لا يستحقُّ الشفقةَ من أىِّ وجه؛ ولو أضافَتْ له الإدارةُ الأمريكية رصيدًا معنويًّا ضخمًا، على الأقل لدى داعميه وقطاعاتٍ من مواطِنى دولته، وأدخلت الخديعةَ على بعض المُتابعين؛ فرأوه بطلاً يُدافع عن نفسِه وبلده، ويتجرّأ ليُهاجم الغُولَ فى عُقر داره.
وعلى خِفّة الحَدَث وخسائره لكلِّ أطرافه؛ فالرابحُ الوحيد منه لم يَكُن معهم داخل المكتب، ولا واشنطن، ولا كامل الولايات المتحدة.
إنه العاهل الأردنى، وقد التقى ترامب وجلسَ إليه فى المكان ذاته قبل نحو أسبوعين، وتعرَّض لواحدة من أبشع عمليات الاختلاق والتزييف والاستهداف الدعائى، ومن منصَّاتٍ عربية مشبوهة. وقد ثبَتَ أنه كان أكثر وَعيًا بطبيعة المُضِيف من غيره، وامتصَّ هياجَه وحِدّةَ لُغته ومواقفه، وخرج من دون صداماتٍ أو شروخ عميقة فى العلاقة، ودون أن يُغيِّر مواقفَه أو يُفرِّط فى أُصوله وثوابت الموقف العربىّ.
انتفضت أوروبا تعبيرًا عن دعمها، ووقّع 14 من إجمالى ثلاثة وعشرين حاكما ديمقراطيا لولايات أمريكية بيانًا لجانب زيلينسكى. كسب الأخير على ما يبدو من الإهانة التى تلقاها، وتغاضى له الناس عن أنه بعدما طُرِد من البيت الأبيض، خرج على شاشة «فوكس نيوز» فى لُغةٍ أقرب إلى الاستعطاف.
لا ينسى ترامب له أنه رفض مُطالبته بتحريك دعوى ضدّ هانتر بايدن للخصم من حظوظ والده فى سباق الرئاسة، وكان سببًا فى تحرّك الكونجرس لمحاولة عزله. ربما يُصفِّى حسابات قديمة، أو ينطلق من الاعتبارات المُستجدّة وحدها؛ لكنه يُبرهِن عَمليًّا على أنه لا يعرف سوى منطق القوّة، ولا يحترم إلا الأقوياء.
ربما يُساند إسرائيل ضد أبرياء غزّة لمحبّة أو التزاماتٍ عقائدية أكبر منه؛ لكنه على الجانب الآخر لا يُحبّ بوتين؛ إنما يخشاه، مثلما يخشى الصين، ولو ادّعى البأس أو صاغ الحقائق بلُغةٍ مُراوغة.
موقف المكتب البيضاوى كوميديا سوداء خالصة؛ لأنه يفتقد اللياقة، ويتجاوز أدبيات السياسة والعلاقات الدولية، والأهم أنه يُوجّه رسائل خاطئة فى كل الاتجاهات، ويضىء المصابيح الحمراء لدى الحلفاء قبل الأعداء. لن يُرحّب أحد بالوجود فى البيت الأبيض؛ وإن اضطرّ فسيستعد بجهدٍ مضاعَف، وسيكون مُتحفّزًا ومُستنفَرًا، ومُتحسّبًا للسلوك العدائى وضرورات الردّ عليه.
سيعود زيلينسكى؛ لأنه لا بديل لديه أوّلا، ولأنه صاحب اقتراح الثروات والنظر فى تقليم الجُغرافيا، ولا يرى فيهما غضاضة. يحتاج فقط لِمَا يستر به نفسه إزاء قاعدته الشعبية، يُسمّيه ضمانات، ويعتبره ترامب بديهيات؛ إذ ينطلق من رغبة فى إطفاء مُحرّك الحرب، ما يعنى أنه لن يسمح بتشغيله مرّة ثانية، وهو المُفرط فى سرديّة أنها لم تكن لتندلع أصلاً لو كان موجودًا.
خسر الجميع من اللقاء، الجميع بمعنى الجميع: ترامب وزيلينسكى وبوتين وأوروبا وبقيّة العالم، لأنه كان لقاءً من خارج قواميس السياسة والعلاقات الدولية، وبدا كأنه يُطيَّر رصيد قرون من الخبرة والدبلوماسية والتمدّن وانقطاع الإنسان عن بداوته.
سقط الحائط الرابع، ورأى الملايين وجهًا من وجوه السياسة على حقيقته، مخلوطًا بالبزنس والتشخيص، والفوضى الوافدة من خارج دولاب الدولة، والراغبة فى تطويعه وابتلاعه.
يؤسس ترامب لتيّار يحمل اسمه، وقد بشّرت إطلالة نائبه «جى دى فانس» بأن سلوك الأوَّل ليس بيضة الديك، ولن يكون خروجًا نادرًا عن النص.
يبدو أن العالم غادر ماضيه بلا عودة، ومعه نظريات أرسطو فى فنون الأداء، وأدبيات أجيال هادرة فى علوم الإدارة، ويسير باتجاه مرحلة تتداخل فيها المعايير والتصنيفات، لا ضحك خالصًا ولا دموع نقيّة، كلاهما معًا، والمسرح لم يعُد يتّسع إلا للكوميديا السوداء فحسب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة