تمر، اليوم، ذكرى رحيل الأديب والمفكر الكبير الراحل عباس محمود العقاد، الذى رحل عن عالمنا فى مثل هذا اليوم 12 مارس عام 1964، تاركًا خلفه إرثًا ثقافيًا كبيرًا لصاحب العبقريات الشهيرة، وفى ضوء ذلك نستعرض لكم ما قاله عملاق الأدب عباس العقاد عن استشهاد الحسين وعن حياة الإمام محمد عبده.
يقول عباس محمود العقاد فى كتابه "الإمام محمد عبده.. عبقرى الإصلاح والتعليم": رأيت الشيخ محمد عبده مرات معدودة، ورأيته مرات لا تُحصَى فى صوره الشمسية التى لا تلتبس إحداها ملامح صورة أخرى، فكانت النظرة الأولى كالنظرة الأخيرة إلى تلك الملامح فيما تنمُّ عليه وتشير إليه.
قوة وطيبة متفقتان لا يبين لك أنهما تنازعتا يومًا أو تتنازعان، فهو قوى لا ينازع طيبته نية من نياتها، وهو طيب لا ينازع قوته دافعًا من دوافعها، وهو أقرب الناس سمة بما يرتسم فى أخلادنا من سمات النبوة، وهى فى طلعتها الإنسانية بشر مثلنا، وإن لم نكن نحن بشرًا مثلها فيما تتلقاه من وحى الله.
قال عنه تلميذه وصديقه وأقرب الناس إليه فى عامة أمره وخاصته، صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا تغمدهما الله برضوانه: "إنه سليم الفطرة، قدسى الروح، كبير النفس، وصادف تربية صوفية نقية زهدته فى الشهوات والجاه الدنيوى وأعَدَّتْه لوراثة هداية النبوة، فكان زيته فى زجاجة نفسه صافيًا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار".
وافتتح ترجمته بعد وفاته بنحو عشرين سنة بقوله عنه: "إن هذا الرجل أكمل مَنْ عرفت من البشر دينًا وأدبًا ونفسًا وعقلًا وخلقًا وعملًا وصدقًا وإخلاصًا، وإن من مناقبه ما ليس له فيه ند ولا ضريب، وإنه لهو السرى الأحوذى العبقري".
استشهاد الإمام الحسين
يقول العقاد في كتاب "أبو الشهداء الحسين بن علي" وفي موضوع تحت عنوان "نموت معك": أقبل الفتى الصغير على بن الحسين على أبيه، وقد علم أنهم مخيَّرون بين الموت والتسليم فسأله: ألسنا على الحق؟
قال الوالد المنجب النجيب: بلى، والذى يرجع إليه العباد.
فقال الفتى: يا أبه! فإذن لا نبالي!
وهكذا كانوا جميعًا لا يبالون ما يلقون، ما علموا أنهم قائمون بالحق وعليه يموتون.
وأراد الحسين — وقد علم أن التسليم لا يكون — أن يبقى للموت وحده، وألا يعرض له أحد من صحبه، فجمعهم مرة بعد مرة، وهو يقول لهم فى كل مرة: "لقد برَرْتم وعاونتم والقوم لا يريدون غيري، ولو قتلونى لم يبتغوا غيرى أحدًا، فإذا جنَّكم الليل فتفرقوا فى سواده وانجوا بأنفسكم".
فكأنما كان قد أراد لهم الهلاك ولم يرد النجاة، وفزعوا من رجائهم إياه كما يفزع غيرهم من مطالبتهم بالثبات والبقاء، وقالوا له كأنهم يتكلمون بلسان واحد: "معاذ الله والشهر الحرام، ماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم؟ أنقول لهم: إنا تركنا سيدنا وابن سيدنا وعمادنا، تركناه غرضًا للنبل ودريئة للرماح وجزرًا للسباع، وفررنا عنه رغبة فى الحياة؟ معاذ الله، بل نحيا بحياتك ونموت معك".
قالوا له: نموت معك ولك رأيك. ولم يخطر لأحد منهم أن يزين له العدول عن رأيه إيثارًا لنجاتهم ونجاته، ولو خادعوا أنفسهم قليلًا؛ لزيَّنوا له التسليم، وسمَّوْه نصيحة مخلصين يريدون له الحياة، ولكنهم لم يخادعوا أنفسهم ولم يخادعوه، ورأوا أصدق النصيحة له أن يجنبوه التسليم ولا يجنبوه الموت، وهم جميعًا على ذلك.
ولم يكونوا جميعًا من ذوى عمومته وقرباه، بل كان منهم غرباء نصحوا له ولأنفسهم هذه النصيحة التى ترهب العار ولا ترهب الموت، فقال له زهير بن القين: "واللهِ لودِدت أنى قُتِلْتُ ثم نُشِرْتُ ثم قُتِلْتُ حتى أقتل هكذا ألف مرة، ويدفع الله بذلك الفشل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك".
وقال مسلم بن عوسجة كأنه يعتب لما اختار له من السلامة: "أنحن نخلى عنك؟ وبِمَ نعتذر إلى الله فى أداء حقك؟ لا والله حتى أطعن فى صدورهم برمحى وأضربهم بسيفى ما ثبت قائمه فى يدى، ولو لم يكن معى سلاح أقاتلهم به؛ لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أنَّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك. وأما والله لو علمتُ أننى أُقتَل ثم أحيا ثم أُحرَق ثم أحيا ثم أُحرَق ثم أذرى ويُفعل بى ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حِمامى دونك".
وجيء إلى رجل من أصحابه الغرباء بنبأ عن ابنه فى فتنة الديلم، فعلم أن الديلم أسروه، ولا يفكون إساره بغير فداء، فأذن له الحسين أن ينصرف وهو فى حِلٍّ من بيعته ويعطيه فداء ابنه، فأبى الرجل إباء شديدًا، وقال: "عند الله أحتسبه ونفسي"، ثم قال للحسين: "هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك، لا يكن والله هذا أبدًا".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة