حازم حسين

صفعة على وجه بيبى.. مصر بالمرصاد لجنون إسرائيل من غزة إلى السعودية

الأحد، 09 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

النية قائمة؛ لكنها تفتقد الغطاء المادى وفق أجندة واضحة. وكل ما يُساق إلى الآن أقرب للتمنيات منه إلى البرنامج العملى القابل للإنفاذ؛ ولعلّها عادتهم فى الانطلاق من فراغ، وتطوير الخطط من واقع التطورات.

وأفضل ما فعلته الدائرةُ العربية، بدفع مباشر من القاهرة، أنها تصدَّت للأفكار فى مهدها، وأدارت محركات التصدِّى للأوهام المطروحة من خارج المنطقة بيقظة وتصلب عاليَيْن، ودون إفساح أى مجال للتداول فى خطة وُلدت ميتة، وتهدد الإقليم واستقراره، بعكس ما تتطلع إليه الإدارة الأمريكية من إثارة مسألة التهجير بمزاعم إنسانية.

بينما تقتضى الاستقامة الضميرية أن يُعوَّض الفلسطينيون عما نزل بهم من وحشية وعمليات إبادة، وعلى أرضهم، وبحيث لا تكون تصفية تركة الحرب الإجرامية على القطاع وسيلة لمكافأة الطرف الظالم، أو تهريبه من تحمل المسؤوليات المادية والمعنوية لقاء ما جناه على مئات آلاف المدنيين العزل.

تقود مصر معركةً دبلوماسيةً شديدة الحيوية والكفاءة، يعود إليها الفضل فى كبح اندفاعة واشنطن بدرجة ما، وإرباك حسابات الدائرة «الصهيو - أمريكية» لدرجة الانقلاب على الذات؛ أكان من جانب الرئيس ترامب وإدارته بالحديث عن أنه لا وجه للاستعجال، وإعادة صياغة المقاربة السابقة بقدر من التصويب الناعم؟ أم من جهة تل أبيب؟ وقد بدأت تفتش عن خيارات مستحيلة عبر موانيها ومطاراتها، أو تتخبط فى المواقف والتصريحات لدرجة التجاوز على مسار الاتفاقات الإبراهيمية، وتقويض خطة الاستعاضة بالاقتصاد عن السياسة، وتنحية القضية الفلسطينية عن رأس الأولويات فيما يخص مساعيها لتفكيك سياق الإجماع العربى على رفض الإزاحة الديموغرافية المقترحة لحساب إسرائيل.

آخر الأسبوع الماضى، أصدرت الخارجية بيانا شديد اللهجة، يرد بشكل مباشر على أطروحة التهجير فى نسختها المحدثة، وقد أُرفقت بمقترح عن السيطرة على القطاع، وتحويله إلى «ريفييرا الشرق» بملكية أمريكية طويلة المدى.

وإذ حافظت الدبلوماسية المصرية على منطقها المعتمد بشأن الاشتباك مع الأفكار لا أصحابها، فإنها لم تكن تتجاهل الإدارة الجمهورية، بقدر ما تبتعد عن شخصنة الأمور، وتؤكد أن مقاربتها نابعة من ثوابت لا تتغير بتغير الوجوه، ولا تنزلق إلى نزاعات طرفية تحرف نظرها عن المشكلات الأساسية.
وقد أوصلت بهذا السلوك رسائل صريحة للغاية؛ بأن الرفض يتأسس على ذخيرة قانونية تاريخية، وحقوق غير قابلة للتصرف، وكل خروج عليهما إنما ينطوى على مخاطر تتصل بأسس السلام فى المنطقة.

ومن طبائع الأمور أن القنوات مفتوحة على آخرها فى الوقت الراهن، وما تحمله البيانات الرسمية لا يجسّدُ وحده خلاصة الموقف الوطنى، بل يتسع المقام إلى مداولات الكواليس والمسارات الخلفية.

وقد نقلت تقارير إعلامية أمريكية كثيرا من التفاصيل بشأن رسائل القاهرة، لن أستطرد فيها لأنها سِيقت من طريق غير مباشرة، ووصلت لصندوق بريدها وحققت أثرها المطلوب.

والمنطق البسيط؛ أن أى تلويح بمسائل تخص الأمن القومى، ينفتح التعاطى معها على كل الخيارات الممكنة وغير الممكنة، وإذا كانت تكتسب صفة التأجيج من ناحية مروِّجيها، فيحقُّ للمعنيين بها انتهاج كل السبل الكفيلة بالدفاع عن مصالحهم، والتصدى للإرباك المراد منه إعادة ترسيم خرائط الإقليم، واللعب فى الأوزان، وتغيير التوازنات الجيوسياسية على ضوء محاولات تحوير ركائز الصراع العربى الإسرائيلى.

قصّ الرئيس ترامب شريط المغامرة الجديدة بالحديث عن التهجير خلال أيامه الأولى بالبيت الأبيض، ثم طوَّره على مدى الأسبوعين وصولا إلى اختزال المسألة فى كونها صفقة عقارية مُغرية، وعلى وقع الاستفاقة الهادرة فى المنطقة والعالم، بدأت وجوه من الإدارة مناورةَ التفاف جزئية، ومحاولةً للاستدراك على ما بدا أنه مستحيل الإنفاذ.

وفى المقابل، وجدت حكومة اليمين الصهيونى فى الطرح فرصة مثالية لإثارة الغبار، وحصانة للائتلاف الحكومى من مخاطر التداعى مع استطالة اتفاق وقف إطلاق النار، أو غياب البدائل المقنعة عن حال الهزيمة النفسية والاستراتيجية فى القطاع، رغم الانتصارات التكتيكية وموفور القتل والتخريب.

وعليه؛ فقد تلقفت الرؤية غير المؤسسة على أى فهم منطقى لتاريخ النزاع، وغير القابلة للتمرير عبر الحاضنة العربية اللصيقة، لتستثمر فى استمراء التصور الأمريكى بينما يقترب صاحبه من التخلى عنه، أو يعيد التموضع على مرمى حجر منه، بما يسمح له بمواصلة استهلاكه دعائيا، ويترك منفذا للتهرب منه وإطالة مداه الزمنى مفتوحا على المجهول.

كانت ملامح نتنياهو خلال المؤتمر الصحفى فى البيت الأبيض أقرب إلى الصدمة، وبدا أنه يتلقى الفكرة للمرة الأولى دون نقاش سابق. المُتواتَر أن أطروحة الاستيلاء على غزة ترددت داخل الدائرة الضيقة، ولم تكن مثار بحث موسع فى أروقة الإدارة، ولا اختُبرت مع الحلفاء من تل أبيب.

وزعيم الليكود ليس فى رفاهية ردِّ الهدية مهما بدت ملغومة، ولا مُناطحة الحليف الأكبر والمُغامرة بإثارة غضبه. ومن هنا، اضطر - على ما يبدو - لامتداح التصوّر على غير رغبة حقيقية، وربما رهانا على أن تكتمل حلقته الأُولى ثم تتعطل بقيّة الحلقات؛ فيفوز بالقطاع تحت لافتة أمريكية، ومن دون حاجة لاحتمال عبء التطهير العرقىِّ للغزيّين.

وما ترشّح لاحقًا، أن واشنطن أعادت ضبط المقادير، وقالت إنها لن تُرسل جنودًا إلى الشريط الساحلى الضيق، كما لن تستثمر فى أية مشروعات عقارية. وبالتأكيد لن تكون «مقاول الإبادة» المعنىّ بإنجاز الإزاحة الديموغرافية، وتفريغ الجغرافيا من سكانيها.

وهكذا؛ آل الحل الخيالى إلى حالة ضبابية كاملة، يتعيّن فيها على الاحتلال أن يُكمل كنس البشر، ثمّ يُسلِّم الراية للحليف الأكبر ليرفع الأنقاض ويتربّح من الفرصة الاستثمارية والتنموية الماثلة فى قطعة الأرض عالية القيمة.

وإذ يقول فريق الرئيس إنه أثار المسألة من منظور تجارى يستهدف صناعة السلام؛ فالمعنى أنه لن ينجرَّ إلى الخيارات الخشنة فى إنفاذ المخطط الجديد، وعلى إسرائيل أن تتولّى المهمة بنفسها، وأن تتحمّل فواتيرها الكاملة إزاء الداخل والخارج.

سارع وزير الدفاع الصهيوني، يسرائيل كاتس، إلى مطالبة الجيش بوضع تصوّر لإخراج الغزيين من أراضيهم، وتلقّى ورقة تنطوى على انتخاب أحد المعابر الخمسة لتمرير عبور الراغبين منهم إلى مطار رامون فى النقب، أو ميناء أسدود على ساحل المتوسط.

لكن المشكلة الكُبرى ما تزال قائمة بشأن الوجهة النهائية، ولا أُفق لأن تكون مصر والأردن كما سِيق فى بادئ الأمر، كما نفت دول أُخرى مِمّن ترددت أسماؤها أن تكون طرفًا فى إجلاء الفلسطينيين، وما يُثار عن «بونتلاند» الصومالية تكتنفه مصاعب جيوسياسية واقتصادية عِدّة، وبهذا تبدو طريق الخروج مقطوعة، كما لا مُستقرّ يُمكن التعويل عليه فى استيعاب الكُتلة السُكّانية الضخمة.

إفراط حكومة اليمين فى التشبث بأهداب الوهم، دفع نتنياهو إلى واحدٍ من أغبى خيارات التصعيد فى الفترة الأخيرة؛ إذ قال فى تصريحات للقناة 14 العبرية؛ إن لدى السعودية مُتسعًا من الأراضى، داعيًا المملكة لإقامة دولة فلسطينية لديها.

والفكرة على وقاحتها؛ إنما تُعبّر عن مأزق إسرائيلى عميق، وأن الائتلاف الحاكم بات أمام مفترق طرق تقود كلها إلى إسقاطه، لأنه قد لا يكون قادرًا على العودة للقتال من النقطة التى أبرم الهدنة عندها، ولا سبيل لديه لتهجير الغزيين بأثر الصلابة المصرية الراسخة، ويستشعر أن الدائرة العربية تتّحد على تصوّر مضاد للمشروع الصهيونى فى انفلاته الجديد.

وبقدر ما يقع عليه من ضغط سياسى وشعبى؛ فإنه يُثير أفكارًا يعرف أنها غير قابلة للإنفاذ من أي وجه، وغاية ما يتطلّع إليه منها أن يُرمم حاضنته اليمينية فى الداخل، وأن يُثير الغبار على امتداد الإقليم، ويخلط الأوراق بما يسمح له بالتربح من أجواء الحرب، ولو كان عصيًّا عليه إشعالها من جديد.

وعلى وجه السرعة، تصدّت الخارجية المصرية لنزوة نتنياهو الجديدة، وأصدرت بيانًا شديد القوّة والحسم بشأن التصريحات المتهورة من رئيس حكومة الاحتلال، يُدين محاولات المساس بسيادة السعودية، ويشدد على أن أمنها جزء أساسى من الأمن القومى لمصر.

وأفاض البيان بأن القاهرة لن تقبل التعريض بالمملكة، ولا ما تنطوى عليه الرسائل من افتئات على السيادة والقانون ومواثيق الأمم المتحدة، داعية المجتمع الدولى إلى شجب التصريحات المُنفلتة وإدانتها بشكل كامل.

ورمزيّة الرسالة الدبلوماسية الأخيرة تتجاوز نصها المنطوق. المواقف المصرية راسخة تاريخيًا بشأن أمن الدول الشقيقة واستقرارها، وقد شدَّد الرئيس السيسى كثيرًا على أن أمن الخليج جزء من أمن مصر.

والعنوان اليومَ - بجانب ما يحمله من إسناد للمملكة - ينطوى على طرحٍ إضافى يخص القضية الفلسطينية نفسها، وخلاصته أن القاهرة لا ترفض التهجير من جانب المساس بأراضيها فحسب، بل ترفضه كُليًّا وعلى الإطلاق، سواء كان المُراد إجلاء الغزيين إلى سيناء أو غيرها.

وعليه؛ يكشف طرح الخارجية عن الموقف المصرى المُركَّب: أولا نرفض الاقتراب من التراب الوطنى، وثانيا نرفض تفريغ فلسطين من أهلها، ولو باتجاه دول أخرى خارج المنطقة.

وما لا يفهمه اليمين المتطرف فى إسرائيل، أن باقة المواقف المصرية مُتعاضدة ومتجاورة فى الآن ذاته، ربما تتدرج بشأن الأولويات، لكنها لا تتخلّى عن أصل واحد من الأصول المرعية فى نظرتها للقضية.

وتثبيت الفلسطينيين على أرضهم ثابت لا يتزعزع لدى القاهرة، ومحور ارتكاز لاستراتيجيتها بشأن الصراع طويل الأمد منذ النكبة الأولى، ولحين الوصول إلى تسوية سياسية تتأسس على الحقوق التاريخية المشروعة.

والدولة المصرية هُنا لا تقبل السير إلى خيار سوى «حل الدولتين»، وبموجب المرجعية القانونية المُترسّخة منذ قرار التقسيم المُنشئ لدولة إسرائيل نفسها، وما تواتر بعده من تفاهمات آخرها اتفاق أوسلو، وإقراره بالصفة التمثيلية لمنظمة التحرير، وشرعية السلطة الوطنية فى تجسيد القضية على أرضها.

الأقوياء فعلا لا يحتاجون للحديث عن قواهم، ولا لاستنفار الخصوم فى أجواء مفتوحة على كل الاحتمالات. وكل ما يتأتَّى عن زعيم الليكود ينُمّ عن ضعف كامن تحت جلده الغليظ، وعن استشعارٍ لعُمق المأزق الذى يسير إليه بخفّة منذ السابع من أكتوبر حتى الآن. وبقدر الملاحظات على «طوفان الأقصى» وغباء القيادة الحماسية بشأنه؛ فيبدو أنه فَرضَ على نتنياهو سياقًا لا يستطيع الفكاك منه، وكُلّما سعى لمُغادرته تورّط فيه بدرجة أكبر.

والحال؛ أنه لا أجهز على حماس حتى النخاع وأعماق الأنفاق، ولا استعاد أسره بالقبضة العارية، ويسير مُجبرًا على ما يبدو صوب المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، ولو بدا أنه مُطوّق برعاية أمريكية تُقرّ له بوجوب إخراج الحركة من المشهد، وضمان ألا تعود جزءًا فى سياق الإدارة المستقبلية للداخل الفلسطينى.
وانطلاقًا من أن للقضية قوامها المعروف لثمانية عقود على الأقل، وهو ما لا يغيب عن وعى الإدارة الأمريكية مهما أوحت بالقفز على الثوابت، ولا عن تل أبيب نفسها؛ فإن كل فكرة غير اعتيادية ومُفارقة للعقل والمنطق، قد تكون مُستدعاة لغايات تفاوضية لا أكثر.

صحيح أننا مُطالبون بافتراض الأسوأ، والتصدّى له بكل الوسائل؛ إلا أن الرهان على امتلاك الاحتلال لتصور مُتكامل عن الجولة الراهنة وما بعدها، وجاهزيته لتداعيات السعى إلى نقل الصراع للخارج، قد لا يكون دقيقًا تمامًا.

كان «الطوفان» فى أحد تفسيراته قفزة من فوق رأس الاتفاقات الإبراهيمية، ومحاولة لتعطيل مسار التطبيع بين الرياض وتل أبيب، ولا يعنى انفلات نتنياهو فى تصريحاته الأخيرة سوى أنه يتيَقّن من تجميد خطوط الاتصال مع المملكة، ويُغامر بإثارة ضيق الإدارة السعودية لدرجةٍ لا يُحتمَل معها تبريد الأجواء قريبًا، فكأنه يلعب الآن فى فريق السنوار من حيث لا يدرى.

وإزاء الجنون الصهيونى، ومعركة الأعصاب الساخنة من جانب المحيط العربى؛ فإن على الفصائل ألا تُخرج نفسها من مُعادلة المواجهة الشمولية المُتكاملة، ولا أن تضع العصىَّ فى الدواليب. ومن المستغرب أن يصر الحماسيون على استعراض القوّة فى سياق لا يحتمل الدعايات الشعبوية، وأن يواصلوا رفد الحكومة الصهيونية بمزيدٍ من الذرائع والإشارات ذات الأثر العكسى.

فى أحدث دفعات تبادل المحتجزين، صبيحة الثلاثاء، أعدّت الحركة منصّة فى دير البلح، وطوّقتها بالمقاتلين المُلثمين كالعادة، وعلى رؤوس الجميع وضعت لافتة تقول «نحن الطوفان.. نحن اليوم التالى»، والمعنى ليس أنهم يُكابرون فى الاعتراف بما جنوه على القطاع فحسب؛ بل أنهم يتمسّكون بأن يكون مسمار جحا الذى يُطارده مخبول تل أبيب، هروبًا من التزامات الاتفاق وفق تتابع مراحله، أو من أُفق المُستقبل ما بعد استكمال المقايضات البشرية بين الطرفين.

تطويق المخطط من جانب مصر أولًا، ثم مساعيها لبناء جبهة عربية صلبة إزاء أفكار الترحيل والإجلاء، ينبغى أن يتواكب مع إعادة هيكلة الساحة الفلسطينية، وإخفاء الأوراق المُثيرة لانزعاج العالم، وتقديم الوجوه الصالحة للدخول فى مباراة سياسية صافية، لا يسهل تلويثها بالسلاح، ولا يتيسّر على تل أبيب إزاءها أن تدّعى غياب الشريك، أو تصوير البيئة الغزيّة على أنها سائلة وتفتقد للرأس والأطراف.

والحال، أن القاهرة إذ تواصل جهودها لإحباط أطروحة التهجير من جهة الإزاحة إلى دول الجوار، والتصدّى لها بوجهٍ عام ولو طُرِحت ملاجئ بديلة؛ فليس من الحصافة أن تتمسَّك «حماس» بالرقص على تلال الركام؛ كأنها تضع نفسها قبل القضية، وتتمسّك بمنافعها الظرفية ولو قادت إلى التضحية بالوطن.

يُبنى الإجماع على امتداد الإقليم، والعالم غير بعيدٍ من بناء مواقف أخلاقية وقانونية رافضة للإبادة والتطهير العرقى. والمسألة فى النطاق الراهن صارت تتجاوز إمكانية الفصائل على التعبير عن الحضور، أو إخراج ألسنتها بمراهقة فجّة فى مشاهد استعراضية لا مكاسب من ورائها؛ إذ لا معنى للتلويح ببنادق لا رصاص فيها، إلا التواطؤ مع العدوّ على الذات، وإحباط السياسة دون مقدرة على تفعيل القوّة.

والواجب الذى لا تتقدّم عليه غاية أخرى، أن تشتغل القوى الفلسطينية فى مجموعها على إنجاز مُقاربة وطنية تتلاقى مع الورشة التى تقودها مصر؛ لتنسج تصوّرًا شاملا عن اليوم التالى، ومسارًا مستقبليًّا صالحًا للإجراء، وقادرًا على نسف الأطروحات المضادة للحقوق التاريخية الثابتة، ليس من باب الاستعلاء على ضغوط اللحظة؛ إنما بقدرٍ من الليونة القابلة لتمرير العاصفة، واحترام جهود الأشقاء الكبار فى المنطقة، وليس التشغيب عليها لأغراض بات مطعونًا فى نزاهتها من كل وجهٍ مُمكن.

أُغلق الباب من جهة مصر والأردن، ووقاحة نتنياهو تتكفل الآن بإغلاقه من جهة الخليج. وعمَّا قريب قد تتَّخذ الردود طابعًا جماعيًّا من خلال قمّة عربية طارئة. وإزاء التطويق من الجوار، وصلابة الغزّيين فى الثبات على أرضهم؛ فحتى مساعى تل أبيب لفتح معابرها وموانيها للخروج الطوعى لن تُثمر شيئًا.
يتبقّى ألا تستمرئ القضية نزق التشظى والانقسام على الذات، ولا أن يتمسّك الحماسيون بالخيارات التى أوردتهم موارد الهلاك، وتُهدِّد بإرباك المنطقة لأنهم أضعف من الاعتراف بالخطأ، وأقل شجاعة من المراجعة والتصويب.

لا قلق على فلسطين من خارجها؛ إذ أن القضية فى رعاية مصر، وإدارتها السياسية قادرة على اختبار كل الأدوات، والتبديل بينها، وعلى إعادة بناء الحاضنة العربية وتحفيزها، ولعب دور قيادى يذود عن غزّة بالأصالة، وعن كل بلدٍ شقيق يتردد اسمه على أجندة الصهاينة. القلق ربما يكون من الداخل، وعليهم أن يقطعوا الطريق على استدراجهم لمساراتٍ سبق أن جرّبوها، وأن يتمرّدوا على أيّة أوهام قد تجعلهم خناجر فى خواصر بعضهم، أو فى قلب الوطن المُضيَّع.
أثبتت الأيام ما كان يُنكره الواهمون والرومانسيون. القاهرة منذ اللحظة الأولى للطوفان أثارت موضوع التهجير، وأعادت «حل الدولتين» للواجهة، ونشطت على كل المسارات الضامنة بتثبيت الفلسطينيين فى أرضهم. والدول الشقيقة اكتشفت بالتجربة والخطأ، أو بالتصويب عليها من العدو المشترك، وعمَّا قريب ستتضح الصورة للباقين.

القضية أكبر من غزّة، والصراع يتجاوز النطاق ما بين النهر والبحر، والمسؤولية عامة وتضامنية بين دول المنطقة. مصر على رأس الميدان، سدّدت وتُسدّد حصّتها وحصص غيرها من الفواتير؛ إنما لا يُمكن أن تمضى الأمور على هذا المنوال، ولا أن يكتفى البعض بمواقع المتفرجين.

حتى الآن تُمثّل القاهرة حجر العثرة أمام المُخطّط، وإن تدَاعَى الأشقاء فالكل أقوى من الفرد دون جدال. على الفصائل أن تلوم نفسها عمّا فات، وتسدّ الشقوق منعًا لتكراره، وعلى العواصم أن تستشعر ثِقَل اللحظة، وتستجب للنداء المصرى.

إنها معركة إقليم كامل، وامتحان وجودى لا هامش فيه للخطأ أو التفريط. وإذا كان معتوه تل أبيب يُخطئ، بالقصد أو الاستخفاف، ليكشف جانبًا من نوايا الاحتلال؛ فإنها الرصاصة المُعَدَّة لكل بلد فى المنطقة؛ ما لم تُردَع إسرائيل بالقانون أو القوّة، وتُحبَس فى حدودها المسروقة، أو تختبر الوطأة الثقيلة لمحاولات الخروج عليها. الحُواة إن لم يكتووا بالنار؛ فلن يتوقفوا غالبًَا عن اللعب بها. وصحيح أن آخر العلاج الكىّ؛ إنما يتوجّب أن تكون السكاكين كلها ساخنة من الآن، ودون رخاوة أو تأخير.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة