حازم حسين

ألغام الحرب والسياسة فى غزة.. ملاحظات على هامش تصريحات ترامب الأخيرة

الخميس، 06 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لو كان لترامب أن يولد فى مكان آخر؛ لصار حاكما لإسرائيل دون جدال. إنه من العقلية نفسها، يفكر بذات الطريقة، ويعتنق أفكارا لا تختلف عن الصهيونية إلا فى اللغة والتغليف. كأنك إزاء نسخة أخرى من نتنياهو، يفترقان فى العرق والثقافة والاعتقاد، ويتطابقان فى الانفلات وإهدار القانون. لهذا يتبادلان المديح؛ لأنهما من طينة واحدة.

الجنون يُوحِّد معتنقيه، يجبر التناقضات، ويُزيل الفوارق بينهم. لعلّها سُلطة النموذج؛ إذ تعبث فى أرواح الناس فتحوّلهم نسخًا رديئة من جلّاديهم. هكذا صارت إسرائيل مُعادلاً كاملا عن النازية، تتعيّش على دعايات الهولوكوست، بينما لا تتوقف عن إعادة إنتاجه فى صيرورة دائمة.

أما فى حال سيد البيت الأبيض؛ فإنه يمزج اختلال الرؤية باعتلال الصورة الحضارية، ويُعوِّض عن تآكل مركزية الامبراطورية تحت شعار نهاية التاريخ، بالتجديف فى عكس اتجاه الزمن. يتضخم الصخب، وتمتلئ شقوق الهُويّة بالنار، وما كان تبشيرًا بالسيادة الأخلاقية على العالم، ينزلق لما دون ذلك بكثير.

فى خطاب تنصيبه قبل أسبوعين فحسب، قال إنه لن يقيس كفاءة سياسته بالحروب التى يربحها، بل بما يُوقفه منها أو لا يُضطر إلى دخوله أصلاً. يهربُ بالسليقة من المعارك؛ لكنه لا يتوقّف عن ترتيب الميادين لإشعالها. كأنه يرتجل المواقف والشعارات، بينما غياب الوعى سيّد الموقف، ولا فرق بين أن يكون جهلا بالغايات، أم بالوسائل.

ومبدئيا؛ فلسنا إزاء سياسى مُحترف، ولا يُعرف للرجل باع فى الاستراتيجية وعلوم الجغرافيا والتاريخ. مُجرّد تاجر عقارات تضخّمت ذاته إلى أن ملأت مقعد الرئاسة وفاضت عنه، وما من امتداد طبيعى لطموحه إلا أن يتسيَّد العالم. أما ما يخص الولايات المتحدة ومصالحها؛ فإنها تفصيل فى غير مكانه.

السياق مُحرَّف من بدايته. إذ يُفتَرَض أن العملية الانتخابية تُحوِّل الفائز إلى أصلٍ لدى الدولة؛ بينما يُجيِّر ترامب المُعادلة لصالحه على وجه آخر. أمريكا أُضيفت إلى قائمة مُمتلكاته؛ ما يعنى أنه يستطيع أن يتحدث عن نفسه كملياردير بأبراج وعقارات وشركات، إضافة إلى امبراطورية مترامية الأطراف، وأن يقترض بضمانتها، ويُغطى خسائره الشخصية على حسابها المفتوح.

فقدت الديمقراطية وظيفتها؛ من حيث كونها وسيلة لإنتاج السلطة من أسفل، وترفيعها تحت رقابة القاعدة لا فوقها. تطاوس الرئيس إلى أن صار الجميع دونه، بما فيهم مؤسسات البلد وركائزه الصلبة. وعليه؛ فلا سقف لخياله إلا ما يُرتِّب له اليوم وغدا، وليس ما يتّصل بالثابت الوطنى وقضاياه الكُبرى.

يُخلِّق العثرات لواشنطن على أنها فرص ذهبية. والحال؛ أنه يُخرجها من فضاء النظام الذى تعهّدت بناءه بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يُنتج بديلاً عنه، أو يتحاور مع الشركاء بشأن البديل. وفى المقابل، لا تتوقف الورشة الدولية عن العمل، وتتصارع مصارين العالم لاستخلاص صيغة غير ما فُرضت عليه لعقود.

الحرب فى كل الاتجاهات أقرب إلى حركة رأس المال المُخاطر، وتليق بمُضارب على الأسهم لا بسياسى لا يصح إطلاقا أن يحتكر السوق؛ ولو كان قادرًا عليه بالفعل. وبالنظر إلى لوثة البدايات، ومساعيه الزاعقة لإنجاز صفقات سريعة، فقد لا تكون أيامه الأولى فى البيت الأبيض سوى إشارة خافتة عَمَّا يُخبّئه فى باقى الولاية. الربح يُعزّز الطمع، وقد يكون على العالم التكاتف لردعه بشىء من الخسارة.

تطاير الشرر فى كل الاتجاهات، من كندا شمالا إلى المكسيك جنوبًا، والعمق حتى بنما وكولومبيا. تجاه أصدقاء الناتو كالدنمارك، ومع الخصوم فى الصين. والفوز بأية صفقة ستُغريه بما بعدها، وإنجازها جميعًا سيُؤجج شهوته فى المزيد. يُطوّقه العُمر، وتضغطه فكرة الفرصة الأخيرة، ويضع عينيه على دخول التاريخ؛ حتى لو غامر بالخروج من الحاضر.

بدأ هتلر فنانًا تشكيليًّا؛ ولو بموهبة محدودة، ثم انتهى وحشًا لا حدود له ولا يرتوى من الدم. وإذا كان القادة يصنعون الدراما أحيانا؛ فربما تقودهم فى أحايين أُخرى. الثأر الألمانى المُعلّق على هزيمة الحرب الأولى أنتج الرايخ الثالث، والمعارك السهلة أوصلته إلى الهزيمة فى نهاية المطاف. من هنا ينطلق نتنياهو، ولا يختلف عنه آخرون.

الرئيس ترامب يُحبّ رئيس الحكومة الإسرائيلية، ويطابقه فى أفكاره بتحوير طفيف، لا يخلو من القوميّة الصارخة وادعاء السبق والأفضلية، والاستعداد لتحقيق أهدافه بكل السبل الممكنة، وأخيرا والأهم أنه لا اعتراض على الإبادة والتطهير.

استخدم الرجل التعبير بوضوح لا يقبل التأويل فى حديثه عن غزة خلال الأيام الماضية، ثم أضاف إليه مؤخرا مفردة «الاستيلاء» قاصدا نقل القطاع إلى العصمة الأمريكية. يضيق بالمهاجرين لديه؛ لكنه لا يستنكف أن يُلحق مئات آلاف الفلسطينيين على قوائم اللجوء، ويُسلّح الدولار والاقتصاد والدبلوماسية، ولا يقبل من الآخرين المثل، ولا حتى الاعتراض.

ووجه الشبه مع الصهيونية شديد السفور من جانب آخر؛ إذ فى مقابل العقيدة الإسرائيلية عن أن ما يستعصى على القوّة، يتحقق بمزيد من القوّة، يُحوّله الرئيس الأمريكى إلى باب الإفراط فى الجنون، والتجاوز على مُقترحاته السيئة بأسوأ منها، بحيث لا يكون لدى الطرف الآخر سوى القبول أو الترقب القلق، وكأنه فى «روليت روسى» لا يعرف متى تأتيه الرصاصة القاتلة.

استقبل نتنياهو مساء الثلاثاء فى البيت الأبيض، وبعد مداولات طويلة بينهم، كان المُعلن فى المؤتمر الصحفى صادمًا بأكثر من كل ما فات، ومُزعجًا أكثر فيما يخص ما تردّد داخل الغُرف المُغلقة. بديا على موجة واحدة، ومتصادِمَين فى الوقت ذاته. كلاهما يُراهن على ذكائه وجنون الآخر، ويُسرّب نواياه بالقطعة من قناة الشريك.

تدرّج ترامب سريعًا فى غضون أسبوع واحد، من حديث تهجير الفلسطينيين لمصر والأردن ودول أُخرى، إلى السيطرة الأمريكية المباشرة على غزة، وملكيتها طويلة الأمد للقطاع، وطموحه لأن يحوله إلى «ريفييرا الشرق» ومجتمعًا مفتوحًا للبشر من كل البلدان والثقافات. قنبلةٌ بكل المقاييس؛ لكنها ليست مفاجئة على الإطلاق.

«مشكلة العالم أن الأغبياء والمتعصبين واثقون فى أنفسهم دائما؛ بينما العقلاء تملؤهم الشكوك»، على ما يقول الفيلسوف البريطانى برتراند راسل. والامتلاء الذى تُحاكيه المقولة يقود نتنياهو وحكومته، وكانت له ظلال أمريكية سابقة فى مسار الاتفاقات الإبراهيمية، وما يسمّى «صفقة القرن»، أما شكوك المُتعقّلين فقادت البعض لمُجاراته سابقًا، وتُزعج آخرين من التحدى والمُجاهرة بالرفض الآن.

والحقّ؛ أن سلوك القاهرة وعمَّان إزاء دعاوى التهجير لا ينبع من احتراز بشأن الأمن القومى فحسب، بل من مسؤولية تاريخية وأخلاقية تجاه القضية. وإذا كان جانبها الأكبر يقع على البلدين، بحُكم الجوار المباشر؛ فإن قدرًا عظيمًا منها يتوزّع على بقيّة الإقليم، ولا يُمكن النظر إليه بمنطق الحرائق البعيدة، ولا على معنى النافلة وفضلة الجهد.

ودون إنكار لأى قول فى نظرية المؤامرة، ولا رغبة فى غسل سُمعة الولايات المُتّحدة من تواطئها الطويل؛ فإن المُتاح حتى اللحظة لا يشى بسلوك نظامىٍّ تعتنقه الدولة الأمريكية، بقدر ما يُعبِّر عن انفلات شخصى يحكم رئيسها، ويتسلَّط على آلة وعيه بمعزل عن مؤسسية الإدارة والسياسة.

وعندما فجَّر الرجل قنبلته فى المؤتمر سالف الإشارة، ربما صُدِم الإقليم بكامله، والعالم من أدناه إلى أقصاه؛ لكن شخصا واحدًا كان الأكثر صدمةً واندهاشًا واستشعارًا للخطر. إنه نتنياهو الجالس عن يمينه، وقد ارتسمت على ملامحه ابتسامة ذاهلة، وبدا كأنه يتجرّع كأس السُمّ دون مقدرة على ردّها، ولا بديل عن أن يشكر الساقى بامتنانٍ مُصطنَع.

صحيح أن الطرح يحتمل التفسير بمنطق المؤامراة، وربما يُوارى وراءه خلاف الظاهر فى المنطوق؛ لكن رد فعل النازى الصهيونى المباشر يُشير إلى استدعاء للفكرة من خارج الصندوق المشترك، وبعيدًا تمامًا عن مداولات الإدارتين طوال الفترة الماضية، أو عن مُخرجات الاجتماع المُغلق على القائدين فى المكتب البيضاوى.

ولا يتمّ المعنى بغير النظر فى مُقدّماته ولواحقه. وقد استبقه المبعوث الأمريكى للشرق الأوسط ستيف ويتكوف بالقول إن الترويج لإعمار غزة فى غضون خمس سنوات «حديث سخيف»، والمهمة تحتاج ما بين عشر وخمس عشرة سنة. وبعدها قال وزير الخارجية ماركو روبيو إن واشنطن مستعدة لقيادة القطاع وجعله جميلاً مرّة أخرى.

والقصد أن الإدارة الأمريكية تنسف اتفاق وقف إطلاق النار من جذوره، وتُحرّف مسار البحث فى «اليوم التالى» عن كل ما تردَّد منذ الطوفان حتى قبل يومين. لم يعُد الحديث عن حماس وفتح، أو بديل توافقى مُشترك بينهما أو مفترق عنهما؛ ولا حتى عن سُلطة مؤقتة تتشكّل بشراكة بين قوى إقليمية ودولية؛ إنما عن استبدال احتلال باحتلال.

والحال؛ أن إسرائيل غير قادرة على إزاحة الكُتلة البشرية الهادرة فى البؤرة الجنوبية المُلتهبة؛ وإلا كانت فعلتها خلال حربها الطويلة. وبالتبعية فإن ترامب لن يبدأ مشروع الريفييرا قبل أن يكنس الحجر والبشر، وبالتالى ستتقدّم الدبابات على الجرافات وأوناش البناء، وسيتولّى الجيش الأمريكى «الأخلاقى طبعًا» مهمة تطهير القطاع من ساكنيه، وإعانة إسرائيل على المهمّة الإبادية التى أخفقت فيها.

وهكذا لن يكون التهجير مشروعًا صهيونيًّا تتحمّل الدولة العبرية كُلفته المادية والمعنوية، أو تُوصَم به مرّة وإلى الأبد. ما تزال توازنات المنطقة مُختلة، وهى مُرشَّحة لمزيد من الاختلال فى المستقبل. والحليف إذ يُحقِّق لها غاية الخلاص من الفلسطينيِّين؛ فإنه يحمل الصخرة عنها، ويُلصق العار بنفسه بدلا عن إلصاقه بإسرائيل.

وحتى الدعايات الإنسانية لن تعود صالحة للتداول أو إبراء الذمة. فالقول السابق بأن الدعوة لإجلاء الناس من أراضيهم تتأسَّس على نزوع ضميرى، ورغبة فى انتشالهم من الخرب والموت إلى العُمران والحياة، تتنافى تمامًا مع المنفعة الذاتية التى ستتولّد لواشنطن عن اقتطاعها للجغرافيا، ووراثة الديموغرافيا فى أملاكها دون مشروعية أو قرابة، ثم الانتفاع بها اقتصاديا، ولصالح التمركز الاستراتيجى على مَطلٍّ بحرى يُغير الحسابات الجيوسياسية فى المنطقة بالكامل.

وإذا كانت المفاجأة لا تُرجِّح أنه أثار الاقتراح باتفاق مع حليفه فى تل أبيب؛ فالأخير ربما يُراهن على تغيّر الأفق السياسى ما بعد الولاية الرئاسية، وعودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض مؤقتا، أو حتى وصول جمهورى أقل صخبًا من الرئيس الحالى. والسنوات الأربع لا تكفى إلا لرفع الأنقاض فحسب؛ كما قال ويتكوف، ما يعنى أن إسرائيل قد تكون على موعدٍ مُرجأ قليلاً لاستعادة القطاع خاليًا من الدمار والمُنغّصات.

فى كل الأحوال؛ يبدو المشهد أقرب إلى لعب دور مقاول الإبادة لحساب الدولة العبرية، ومن مُنطلق عنصرى قارّ فى العقيدة والسلوك، وليس لمُجرّد الولاء لمشروع اليمين الصهيونى، أو الاعتداد بالتحالف الوثيق بين البلدين. تربح إسرائيل فى البداية بإخلاء الأرض؛ ثم تجلس على الشطّ فى انتظار أن يُقبَر المشروع نفسه، وتتسلَّم تركة الراحلين خالية من أصحابها، وما كانوا يسببونه من إزعاج.

والحديث عن حلول عسكرى؛ إنما ينطوى على إرهاب مُسبق للغزيِّين العُزّل، وعلى تهديد مُضمَر لدول الجوار، وحلقة الأهداف المُختارة لإنفاذ المشروع الإبادى فى ثوبه الجديد. وبدلاً من إنهاء الحروب أو الهروب منها، يُلوّح بها ترامب من وراء ستار، ويُوظِّف القوّة لا فوق الحق والقانون فحسب؛ إنما بالطعن فى خاصرة الإقليم الهشّة، ووضع المصالح الأمريكية نفسها على فوّهة بركان قد يثور فى أية لحظة.

لا أحد بإمكانه أن يمنع الجيش الأقوى من الإنزال على شواطئ غزة؛ لكن القُدرة وحدها لا تمنح المشروعية، ولا تُغيِّر التوصيف القانونى والأخلاقى للعملية. مع أول جندىٍّ يحلّ من دون اتفاق سياسى ستتحوّل المقاربة من وساطة إلى احتلال، وسيقع على عاتق واشنطن بالأصالة، أن تضمن سلامة الغزيِّين فى بيوتهم، وأن تُوفِّر لهم ضروريات الحياة، كما ستكون عُرضة للمقاومة بكل السبل المشروعة.

ومع حال الغطرسة البادية فى الطرح؛ فإنها تتلطّى ولو جزئيًّا وراء سياق الفراغ الماثل فى القطاع، وتباطؤ القوى الفلسطينية عن الوفاق وإنتاج بديل داخلى واسع القبول. صار وجود حماس لعنةً على القضية بكل المقاييس، ولا هامش للنجاة إلا بتنحّيها عن واجهة المشهد، واعترافها بأن ما اعتبرته نصرا تكتيكيا، كان فى الحقيقة هزيمة استراتيجية ثقيلة، ولا سبيل لامتصاص آثارها مع الحركة، أو فى أى سياق تتمثّل فيه ولو من وراء قناع.

وبقدر الملاحظات الكثيفة على سلوك السلطة الوطنية، وما يعتمل فى أروقة منظمة التحرير وداخل حركة فتح؛ فإن التصوّر المُقترح من رام الله خلال اليومين الأخيرين ربما يكون المهرب المثالى، والذى لا بديل عنه اليوم، وفى ضوء التطورات الدراماتيكية الواردة من خارج الحسابات كُلّها، وعلى خلاف ما تداولته الفصائل الغزيّة برومانسية مُفرطة.

أعلنت الحكومة الشرعية عن تكوين لجنة مؤقتة لاستلام إدارة غزّة، تتصّل بالسلطة حصرًا ولا تتمثّل فيها حماس أو غيرها من الفصائل. والقيمة هُنا أنها تُقدِّم بديلاً داخليًّا ينتمى لعالم السياسة لا السلاح، ولديه صفة تمثيلية ثابتة بالإجماع الوطنى والمقبولية الدولية، وحتى إسرائيل نفسها تعترف بها بموجب اتفاق أوسلو.
التعجيل بإنفاذ المقترح ووضعه فى نطاق التنفيذ، ولو تعذّر التفعيل الكامل لمُقتضياته فيما يخص الإدارة التنفيذية ليوميّات القطاع؛ إنما يُحوّل غزّة من بيئة سائلة لا رأس لها، إلى كيانيّة سياسية مُتجسّدة بالإقليم والشعب والإدارة، أى لها طابع الدولة الكاملة وإن بقيت فى عُهدة الاحتلال، وعليه لا يُمكن إثارة اللغط من جهة واشنطن أو تل أبيب بشأن غياب البديل، ولا اختزال الجغرافيا وسُكّانها فى صورة حماس؛ للخروج بحُكم مُعمَّم عليهم جميعًا بالإفناء، قتلاً أو ترحيلاً.

ومع الإقرار الكامل بوقاحة الصهاينة، وانحياز الأمريكيين، وبأن المشكلة تنبع من الاحتلال لا المقاومة؛ إلا أن الواقع صار يفرض شروطه الثقيلة، وتجاوز نطاق التعاريف والاتهامات وتعليق الأجراس فى رقاب أصحابها. لا أولوية تتقدّم على استنقاذ غزة، والقضية بالعموم، والمفاضلة بين السيئ والأسوأ؛ لأنه لا أفق لشىء إيجابى أصلاً فى كل ما أنتجه طوفان السنوار.

على حماس أن تتحلّى بشجاعة الاعتراف بأنها كانت حاضرة فى كابينت الحرب داخل تل أبيب، وفى مؤتمر نتنياهو مع ترامب، وما يزال طيفها يترافق مع كل جنون أو فكرة إبادية. لا لأنها خائنة حاشا لله، ولا لإنكار حقها وغيرها فى المقاومة دفاعا عن الوطن وثوابته؛ إنما لأنها انزلقت بدون وعى إلى الخطأ التراجيدى الذى يتساوى فيه الأبطال والأنذال، وتسقط الشعارات جميعًا أمام رداءة التطورات، ومخاطرها الوجودية الداهمة.

ترامب لا تعنيه التفاصيل، يُركز على صورة أقنوميّة تتجسّد فى مخياله الشعبوىّ، عن رجلٍ يجترح الخيارات الصعبة، ويستدعى التاريخ راضخًا لتسجيل إرثه الذى لن يزول. الاتهامات لا تؤذيه، والانتقادات لن تغيّر موقفه، ولا شىء يضيره أكثر من خصوم ديناميكيين، لديهم مقدرة على التصدّى له من دون ملل، والأهم على مراجعة أنفسهم وتقييم المواقف، والرجوع عنها لو اقتضت الأحوال.

وبما أن لا أحد فينا يقرأ الطالع؛ فليس فى الإمكان الجَزم بما ستؤول إليه الأوضاع. الواضح أنه مُصرٌّ، والثابت أنه أخفق كثيرًا فى ولايته الأولى. رغباته ليست أوامر، وهزيمته فى الإمكان؛ لكن الثبات عند النقطة التى أجّجت لديه الأفكار العدوانية ليس الخيار الصائب، ومُفارقتها إلى المجهول دون أجندة واضحة قد تكون انتحارًا رخيصًا، أو تكرارًا للخطايا نفسها.

مصر والأردن عمودا خيمة القيادة فى ميدان المعركة، وعواصم الإقليم مُلزمَة بالاهتداء بما يتأتّى من القاهرة وعمَّان، وأهل فلسطين إن كانوا أدرى بشعابها؛ فليسوا أقدر على إحباط المُخطط دون حاضنة إقليمية، وفى الداخل أولا. كيف نرفع مظلمتنا إذا كان فريق غبى يُباهى بالنصر المزعوم حتى اللحظة، وكيف نُخاطب العالم لو كُنّا عاجزين عن مخاطبة أنفسنا بشجاعة ومُكاشفة؟! السارق مجنون، ويجب ألا يكون المسروق أيضًا.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة