حازم حسين

مناطحة نرجسية لتاجر ومقامر.. لهذا قد تتبدّل الصفقة ويكون نتنياهو أول ضحايا ترامب

الأربعاء، 05 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

إن كان فى وسع أحد أن يلجم نتنياهو فهو دونالد ترامب فقط؛ لكن السؤال عمَّن يكبح عربة الأخير المُندفعة بوزنها الثقيل ومُحرّكاتها الجبّارة على منحدر الجنون! ولعلّه لم يحدث منذ زرع إسرائيل فى المنطقة، واعتراف الولايات المتحدة بها بعد دقائق من الإعلان، أن كان الجالسان أمام المقود فى العاصمتين على هذا القدر من الانفلات العاصف.

يرى الرئيس الأمريكى العائد بدراما قديمة ومُكرَّرة لدرجة الملل، أن الدولة العبرية كيان صغير فى محيط من الأعداء. يُشبِّهها فى الشرق الأوسط بسنّ القلم الموضوع على مكتبه، ويستبق استقبال حليفه اللدود بالقول إنه «لا ضمانة لصمود اتفاق غزّة»؛ فكأنه يُصرِّح له بالتمادى فى نزواته الحارقة صوبَ إفساد الصفقة، والتلويح بقفّازات الحرب من جديد.

لن تبخل الذاكرة علينا بالعرائض والمطوّلات؛ حال أردنا استهجان مواقف واشنطن، وإسنادها البربرى للوحشية الصهيونية فى كل الامتحانات السابقة. إنما فى المقابل لم يخلُ الأمر من ضابطٍ يتروّى حينًا، ويستبقى قدرًا من المعقوليّة أحيانًا.

هكذا كان أيزنهاور فى زمن العدوان الثلاثى، ونيكسون وفورد خلال حرب أكتوبر وما بعدها من تفاهمات، ثم كارتر فى اتفاقية السلام مع مصر، وكلينتون فى اتفاقيتى أوسلو و«وادى عربة» وصولا لكامب ديفيد الثانية، وحتى الصقر الجهول بوش الابن مع تجربة مؤتمر أنابوليس.

توقف البيت الأبيض عن مُقارباته منذ قرابة العقدين، وبعد اتضاح صورة الانقلاب الحماسى على السلطة الوطنية فى غزة؛ إلا أنه لم يُجاهر فى ولايتى أوباما بما يُضاد الثوابت الراسخة لدى الإدارات الأمريكية، ولا بنسف القضية الفلسطينية من جذورها.

وبالنظر لسنوات بايدن الأخيرة، بدت ولاية ترامب الأولى فاصلاً يُمكن شطبه من المشهد، والرجوع إلى ما كان عليه الوضع لجهة البحث عن تسوية سياسية؛ ولو بدت أشبه باستقطار الحليب «من بين فرث ودم».

والنسخة الثانية، الجديدة القديمة، من الرئيس الجمهورى العائد من شبه موتٍ، كما لو أنها تختلق حالة ثأرية لا سقف لها، وليست تجاه الداخل الذى أسقطه سابقًا، وانتظر الدعوة إلى حفل شواء على جسده السياسى فحسب؛ إنما تجاه العالم بكامله، ربما على سبيل الانتقام من إنكار دعواه الرساليّة فى افتتاحيتها، واعتبار أن غياب الطواعية من الخارج كان سببًا وراء إطاحته السهلة أمام «جو الناعس» كما كان يُسمّيه.

والثارات المُعلّقة لا تستثنى أحدا، حتى زعيم الليكود؛ وقد بادر إلى تهنئة غريمه على الانتخابات التى ما زال مؤمنا بسرقتها منه، وبكونها مؤامرة اقتسمها الملوّنون من موسكو وبكين، مع الملوّنين، عِرقًا وأديولوجيا، من واشنطن وديلاوير والدولة العميقة.

وعليه؛ فإن اقترابه الحثيث من نتنياهو اليوم لا يُعبّر فى الحقيقة عن موثوقية قافزة على الشكوك المُتقيّحة، ولا عن تحالفٍ راسخ بين الرجلين؛ بقدر ما يُجسِّد واحدة من صور الانتهازية والاحتيال لدى سيّد البيت الأبيض، وقُدرته على جَبر التناقضات مرحليًّا، وفق ما تقتضى المصلحة، ثمّ ليكن لكل حادث حديث.

والقصد؛ أنه قد يكون مشغولاً فعلا بالمصالح الإسرائيلية، أو يتطلَّع إلى ما وراءها من تثبيت لمشروعه الساعى إلى إعادة هندسة الكوكب، وانطباعه ببصمته المُخلّطة من السياسة والقوّة والاقتصاد؛ لكنه فى كل الأحوال لا ينظر لشخص سوى ترامب نفسه، ولا يُقدِّم بشرا ولا جغرافيا على ذاته، وما يتصوّره عن الخرائط المثالية لعالم تتسيّده أمريكا الترامبية.

يعرف بالضرورة أن الجيب اليهودى فى إقليم العرب أصل استراتيجى للولايات المتحدة، وأنه مسألة تتجاوز مناكفات الساسة وصراعات الأحزاب؛ لكنه لا يتطابق مع الدولة العميقة فى تصوّراتها عن الأمن والامبراطورية، وقد كانت تأخذ باللين ما لا يُؤخذ بالشدّة، وتُنفق على مَن تُجنّده الجزرةُ ولا تُرهبه العصا، وبالمنطق فقد يكون التصوّر الأصولى للحبل السرىّ الواصل بين واشنطن وتل أبيب من نقاط الخلاف أيضًا؛ لا على معنى الرغبة فى قطعه أو تضييقه، وإنما أن يكون سيَّارًا فى الاتجاهين، ومُحقِّقًا للتغذية الراجعة.

وانطلاقًا من عقلية «البيزنس مان»؛ فلن يظل على المُعتقد المتوارَث فى أروقة السلطة الأمريكية بشأن إسرائيل، أو على الأقل سيسعى لنقله العلاقة إلى حيِّز المُرابحَة المُتبادَلة، وليس الأمومة الغيرية والمُنكرة للذات بالكُليّة.

سيرعى ويحمى ويُموّل ويفتح خزائن السلاح والسياسة عن آخرها؛ لكنه سينتظر المقابل، أو فى الحد الأدنى لن يقبل الخروج عن خطوطه المرسومة للصراع، ولا إنفاذ إرادة سوى إرادته وإملاءاته الفردية الخالصة.

والحقيقة السابقة لا تعنى على الإطلاق أنه قد يكون بصدد إفناء الصيغة التعاقدية القائمة، ولا إعادة تحريرها على وجهٍ لا يرتضيه الحلفاء الصهاينة؛ لكنه لن يُبقى على العلاقة الإذعانية التى كانت مقلوبة من دون مُبرِّر، وفيها الاسم لواشنطن والفعل لتل أبيب، أو بالأحرى كان يُنظر فيها إلى الولايات المتحدة على أنها شريك أصيل فى أفعال إسرائيل، بينما تُملِى الأخيرة عليها ما يعنّ لها، وعلى العكس من تصوّرات الناظرين لغُرفة العمليات المشتركة من خارج زجاجها السميك.

وما فات، يفتح الباب لاحتمالية أن يظل منتوج التحالف بين البلدين مُنحرفًا وظالمًا كما كان فى كل العقود السابقة، أو أن يتبدَّل؛ لأنَّ رجلاً وحيدًا أراد له التبدُّل، أو رأى فيه منفعة أكبر مِمَّا تُحقِّقه الديمومة والاستقرار المُمل.

وإن كان من الصعب أن يُفضى هذا لإضعاف توازنات الاحتلال مع الخارج؛ فإنه قادر على الأقل أن يُعيد تركيب المشهد فى الداخل، وأن يُرتِّب أوضاع الشارع العِبرىّ بما يختلف فى قليل أو كثير عن إفراطه اليمينىِّ الراهن، ويُوفِّر فرصةً للمعنيِّين الإقليميين بالصراع، لأنْ يستثمروا فى الديناميكية الجديدة، أخذًا وردًّا وتحفيزًا، ودفعًا للتفاعلات من جهة الاقتصاد والدبلوماسية، وربما السلاح أيضًا؛ لو فرضته الوقائع والأحوال.

وبينما تنفتح الساحة على كل الاحتمالات، وبعضها شديد الإزعاج للدائرة العربية فى مجموعها، وللفلسطينيين بوجهٍ أخصّ؛ فمن بين الاستقراءات المطروحة على الطاولة بشأن المستقبل، أن يكون نتنياهو واحدًا من ضحايا ترامب، وربما بين أوائلهم؛ لا لأنه يحمل فى صدره شيئًا من تهنئته لبايدن، أو يستنكر عليه مُقارعتَه فى الصخب والتطرُّف والوصول لحدود التصعيد القصوى، ولكن لأنَّ تطويع الحليفة الصغيرة يقتضى نزع مخالبها، ولا يسمحُ مُطلقًا ببقاء ذَكَرَيْن فى القطيع.

والحال؛ أنَّ زعيم الليكود، وقبل أن يصير زعيمًا أصلاً، أسَّس مشروعه على مُناطحة اليسار وخيار التسوية السلمية، وإذ يقف اليومَ على ركام «طوفان السنوار»، الذى أخرجه بيديه من زنزانته الصهيونية؛ فلا يبدو أنه قدَّم بديلاً كفؤا على صعيد الأيديولوجيا، ولا مشروعًا ناجحًا لترويض الفلسطينيين وتطهير الأرض منهم؛ وحتى فى الأخيرة يُنافسُه سيّدُ البيت الأبيض بصخبٍ أكبر، ومقدرةٍ أوفر على إنفاذ المُخطَّط؛ ومن ثمّ تنتفى الحاجة للضبع الصغير فى وجود الغول الأكبر.

يعرف العاملون مع ترامب أنه مفتون بذاته إلى درجة الهيام، وحينما يكون الرجل فى الغرفة مع آخرين فلا بطل سواه. نتنياهو ذكىٌّ قطعًا، ولن ينفش ريشَه مُستعرضًا صورته المُتوهَّمَة عن نفسه باعتباره «ملك اليهود»؛ لكنَّ سلوكه يمضى فى اتجاه غير ما سيُسمِعُه للرئيس فى مكتبه، أو ينقله إليه عبر مبعوثيه. ومن تلك التركيبة المُتضادّة تماما؛ فقد لا تنضبط العلاقة بينهما، أو يتأخّر الصدام المحتوم.

صحيح أنَّ دِيكَ الكوكب يدعو إلى التهجير، ويتأسَّى على صِغَر إسرائيل، ولديه رغبة مكتومة أو مُعلنة فى إفناء الأُصوليَّة الإسلامية بالمنطقة، من حماس الغَزيّة إلى الملالى فى أعماق فارس؛ لكنه فى النهاية هو من أمَر بإبرام الصفقة المُضَيَّعة شهورًا؛ لوقف إطلاق النار وتبادُل الأسرى مع فصائل القطاع، وليس من صالحه أن تتجدَّد الحربُ سريعًا، وإن حدث فليس شرطًا أن يكون برضا كامل من جانبه. باختصار؛ يُمكن أن يُمرِّر «بيبى» بعض أهوائه من قناة السيد دونالد؛ لكنه سيكون كمن يُطوّق عُنقَه بلجامٍ خانق.

بارعٌ حقًّا فى إظهارِه لخلافِ ما يُبطِن، والدليل أنه ما يزال يتحدّث بمودّةٍ مُلفتة عن نظيره الروسى، ويتذكّر لقاءاته الثلاثة مع كيم جونج أون، على وجه أقرب لتذكارات العُشَّاق ومَنْ تقطّعت بهم سُبلُ الغرام.

وبالمنطق؛ فإن النزعة القطبية تحت جلد بوتين لا تتّفق مع شعارات العظمة الأمريكية، ولا انفلات ديكتاتور كوريا الشمالية يتواءم مع تصوُّراته عن عالم تحكمُه واشنطن بالإيماءة قبل الكلام، وكذلك استقباله لرئيس الحكومة الإسرائيلية فى أوَّل سطر الزيارات الخارجية؛ يصحُّ النظر إليه من زاوية أنه يمنحُه «مُكافأةَ نهاية الخدمة».

وإزاء شخصيّة شديدة التقلب مثل ترامب؛ فليس بالإمكان الجَزم بما يدور فى رأسه، ولا استشراف ما قد تقوده إليه الارتجالية المُتسلّطة على أدائه بمَيلٍ استعراضى واضح. والمعنى؛ أن كل ما يُرجح الانزعاج من سنواته الأربع المُقبلة، تُقابله إشارات تحمل العكس أو أقلّ قليلاً، والعِبرة ليست بالنبرة التى يبدأ حديثه منها؛ إنما بالفاصلة التى ينكسر الصوت بعدها، ويبدأ رحلته المُتدحرجة نحو الخفوت.

ابتدأ أسبوعه الأوّل بتصعيدٍ كاسح تجاه كولومبيا، على خلفية الاختلاف فيما يخص إعادة اللاجئين فى طائرات عسكرية وشكل غير آدمى، فرض رسومًا وردّ الطرف الآخر، وانتهت المسألة بتسوية تنازلا فيها معًا. كذلك فى بنما، عاد منها وزير خارجيته ماركو روبيو بسقف أقل كثيرًا من الاحتلال الكامل، ثم الضرائب الإضافية على الواردات من كندا والمكسيك، وقد عُلِّقت لشهرٍ قبل أن يجفّ حبرُ القرار.

يُطلق الرئيس صاروخًا عابرًا للقارات؛ لأنه يتطلع لاصطياد دجاجة محبوسة فى قفصها أصلا. تلك طريقته التى جرّبها سابقًا وما يزال مُصرًّا عليها، ويتعيّن الوعى بها قبل الجلوس إليه أو تحدّيه فى مُصارعة الأذرع ولعبة «عض الأصابع». ولا أتوخى هنا أن أصرف الذهن عن تصريحه بشأن التهجير مثلاً، ولا أنه لم يكن يقصد ما تفوّه به؛ إنما المُراد أنه بداية العطاء، وأن رجل العقارات يُدير صفقة أقرب للبناء من البيع؛ ما يعنى أنه يدعو الآخرين إلى مُناقصةٍ لا مُزايدة.
وإذا كان تكتيكه فى الفصال مكشوفًا للغاية؛ فإنه يُحصّنه بالغموض، وباستمراء سرديّة «الرجل المجنون» المُستدعاة من دولاب سلفه البعيد ريتشارد نيكسون، واثقًا فى أن الآخرين سيتقلّبون على جمر الحيرة والقلق؛ لأنهم لا يعرفون الحدّ الفاصل لديه بين الجد والهزل، ولا النقطة التى يُمكن أن ينقلب فيها من مُشترٍ إلى بائع، ومن تاجر إلى قاطع طريق.

والحلّ مع سلوكٍ كهذا يبدأ من خارج السوق، لا فى حماوة البيع والشراء وإبرام الصفقات. إذ ينبغى أن يتّفق المعنيّون فى كل ساحة يُصوّب عليها، على حدود المواءمة والتصلُّب، وقائمة البدائل المُتاحة، والسعر الذى لن يُنزَل عنه أو يُدفَع دولار إضافىٌّ عليه. فاعليّة طريقته تتأسُّس على التفتيت؛ ونجاعة التصدِّى لها لا تتمّ إلا بالوفاق والتجميع.

ليس من صالح اللاعبين أن تكون المباراة فردية، ولا أن يُخلَى له الطريق للانفراد بكل هدفٍ على حِدَة. وينبغى أن يعرف أن الصفقات مُشتبكة ومترابطة، وما يُنجزه هُنا قد يمسّ مصالحه فى جانب آخر، وما يُحصّله بالاقتصاد لا قيمة له ما لم يُعقِّب عليه بالسياسة. وباختصار؛ فإن ثبات الغزّيين على أرضهم، لا ينفصل عن صلابة الموقف فى القاهرة وعَمَّان، ولا عن طموحات الاتفاقات الابراهيمية وصفقات الاستثمار مع دول المنطقة.

وإذا كان بمقدور إسرائيل أن تتعايش فى سياق حربٍ دائمة مع الفصائل الغزّية، أو مع البيئة الفلسطينية بكاملها؛ فإن تطويقها بالإنكار وقطع الطرق على تطبيع وجودها فى الإقليم أنجع من التطويق بالنار، وقوّة المال أهم وأمضى من صخب الأيديولوجيا، ومن بنادق الشيعية المُسلَّحة. وكما لا يستقيم الوضع بتناطحهما؛ فإنه لا يستقيم بغيابهما المُتزامن أيضًا، ويتعيَّن التعويض عن الأُصوليّة بمقاربة أكثر جدّية وتفاعُلاً من جانب محور الاعتدال بكامله، بعيدًا من الحسابات الخاصة والمباريات الجانبية.

يُمكن لترامب أن يُهدِّد العالم كله؛ لكنه لا يستطيع محاربة الجميع مهما كان قويًّا ومتربّعًا على عرش الامبراطورية الأعتى زمنًا ومكانًا. وما ينطبق على القياس الواسع، يصح اختزاله فى مشهد الشرق الأوسط، وليس من زاوية أنه يحتاج للمعتدلين فى مواجهة المتطرفين فحسب؛ إنما أنه لا يُمكنه أن يزيح جناحًا من عواصم التعقُّل ويلعب مع آخر؛ إذ الجغرافيا مُتّصلة بأكثر مِمَّا يعى هو أو اللاعبون معه، والديموغرافيا أيضًا، وإذا أُصيب بلد كبير أو صغير من حزام إسرائيل وما حولها بالزكام، سيعطسُ الإقليم، وربما تُشاطره بقية الأقاليم السهرَ والحُمَّى.

عند نقطة غير بعيدة، وبشرط أن يتَّحد الفاعلون الإقليميون على رؤية جامعة؛ سيكتشف ترامب أن نتنياهو صار عبئًا عليه، بل والتيَّار الذى ينوب عنه كاملا. وربما تتحسَّب إدارته منذ الآن، وتستكشف البدائل المُمكنة. لقد كان دفع جانتس وآيزنكوت للخروج من كابينت الحرب إشارةً إلى القلق، ثم إقالة وزير الدفاع يوآف جالانت، وقد تكون قنوات الاتصال مفتوحة معهم أو مع غيرهم، مثل لابيد ونفتالى بينت وآخرين.

لا يُقدِّم رئيس الحكومة بديلاً صالحًا للإجراء. يطلب ما تبقّى من أنفاس حماس؛ ولو كان قادرًا عليها لأفناها فى خمسة عشر شهرا. الحرب الدائمة لا سبيل إليها، والتهجير غالبا لن يتجاوز الحناجر، وعليه فإن ما يسعى الرئيس إليه بالغطرسة ومن جهة الحلول غير العملية، سيتعقَّد بأكثر مِمَّا هو عليه، وسيكون أمام خيار المواصلة مع مزيدٍ من الإرباك، أو الرجوع على جُثّة الحكومة الحالية فى تل أبيب.

ومع اختلاف التكاليف فى الحالين؛ فإن نتيجة استدامة الاتفاق على وقف إطلاق النار قد لا تختلف عن إعادة تأجيج الميدان. إن كان عسيرًا إجبار حماس على رفع الراية البيضاء، ولا سبيل للإزاحة الديموغرافية المُبتغاة، والقاهرة راسخة فى موقفها مع ما لا يُؤمَن من غضبِها بحسب التطوّرات؛ فإن هروب الائتلاف من السياسة إلى القتال سيُوصله للنقطة نفسها. انسداد كامل، ونزيفٌ لا يتوقَّف، وحسابٌ يزداد تضخّمه ولو تأجّلت مواسم المُساءلة.

وما يخشاه الناس من ترامب، هو نفسه نقطة ضعفه. إنها الانفعالية والقرارات اللحظية وسرعة التقلُّب، وإذ يُقرّ فيها ما يعبر على خاطره دون تفكير، فإنه يحتاج وقتا وجهدًا مُضاعفين لضبطه أو تحويره، ناهيك عن الانقلاب عليه. وبين غمضة عين وانتباهتها قد يتحوّل عن حديث التهجير إلى بديلٍ آخر، أكان حل الدولتين أو إبقاء الوضع على ما هو عليه، ما لن يُعجب التوراتيين بالتأكيد، ولن يكون سهلاً إثارة مسألة كنس الكُتلة البشرية الفلسطينية من أرضها مجددا.

حال ترامب أشبه بدرّاج ماهر، لكنه ينزل بالدراجة إلى الماء بينما لا يُجيد السباحة. إنه يُوظِّف الأدوات فى غير مجالها، ويستعين بمهارة التاجر فيما يحتاج للاستراتيجى وصانع السياسة. صحيح أنه يُفجَّر فيضًا من المشاعر المُختلطة فى نفوس الآخرين؛ لكنه يُرهق نفسَه قبلهم، ويُبدِّد طاقته، ولا أُفق أمامه فى النهاية إلا أن يعود للنقطة التى بدأ منها. بالضبط كما تتمنّى حماس اليوم لو أنها ما سبحت فى الطوفان، ولا تجاوزت السادس من أكتوبر إلى ما بعده.

لا أُهوّن من خطورة الرجل على بلده والعالم، كما لا أُهوّل أيضًا. ثمّة قضيّة تجاوزات عواصف لا حدود لها منذ ما بين الحربين العالميتين، وصراعات الغرب والشرق، والأحلاف والانقسامات الأيديولوجية والحرب الباردة، وصدّام والأسد وشارون والشرق الأوسط الجديد وفوضاه الخلّاقة، ولن يُفرَض عليها فى أربع سنوات ما عزّ فى عشرين ضِعفها. نحتاج لليقظة والتحفظ والارتياب قطعًا؛ إنما لا يتوجّب أن يشُمَّ القرش الجائع من فريسته رائحةَ الخوف.

قادرون على البقاء فى مواقعنا؛ لأننا مغروسون فيها ونابتون منها أصلاً. وما بيننا من تناقضاتٍ أقلّ مما فى الداخل الأمريكى، أو بين الصهاينة وبعضهم. قدرٍ بسيط من التعقّل والوفاق، وحياء الأصولية مِمَّا جنته على القضية وعلى نفسها، وتضامن كبار الإقليم دون مناورات أو ألاعيب جانبية؛ وسنكتشف أن العبور على صعوبته لم يكن مُستحيلاً، وأن القضايا الوجودية تُربَح بالنقاط وطُول النَّفَس، والنجاة مضمونة ما لم تختل الدفة فى يد الملاح، أو تُخرَق السفينة من أسفلها بمُراهقةٍ من حالمٍ بالقيادة، أو بسذاجة طامعٍ فى الارتواء من ماء البحر.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة