حازم حسين

قنبلة معلقة بخيط على رأس الإقليم.. حال غزة بين احتيال نتنياهو وانتحال أدوات كيسنجر

الثلاثاء، 04 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

سارت إسرائيلُ الرسميّة فى طريق الهُدنة على أمل الرجوع منها. لا رغبةَ لدى اليمين فى تبريد الأجواء، لكنه كان مُضطرًّا لتقديم «عربون مَحبَّة» للإدارة الأمريكية الجديدة، والقوَّة التى دفعته لهذا المسار، ربما تكون مُحفِّزَه الأكبر على مواصلة الجنون. أو هكذا يُمَنِّى نتنياهو نفسَه.

والأُمنية إنما تنبعُ من الانقلاب الحاد فى واشنطن، والموجة الصاخبة التى آلَ إليها البيت الأبيض فى مُستهلّ ولاية ترامب الثانية. إذ فى مُقابل الإشارات الحاسمة عن وجوب خَلع القُفَّازات وإسكات البنادق، لا تتوقَّفُ الرسائل المُغرِية بالعودة إلى الميدان، أو اللعب فى إعدادات المُفاوضات، بما يَحرِفُها عن الوجهةِ المُقرَّرة لها سَلفًا.

قبضةُ ترامب المُتصلِّبة سرّعَتْ الوصولَ إلى اتِّفاقٍ بعد مُراوغةٍ وتعطيل طَويلَين، لكنها انفرجَتْ سريعًا لتُوقِّع أوامرَ تنفيذيَّة تصبُّ فى صالح تل أبيب، أهمّها إلغاء عقوبات المُستوطنين ورفع الحظر عن صادرات القنابل الثقيلة، ثم بُسِطَتْ تمامًا لتُصافِحَ رئيسَ الحكومة العِبريًّة فى واشنطن، وقد استبقَ صاحبُها اللقاءَ بإثارة فكرته الحارقة عن تهجير الفلسطينيين، والاستطراد فيها لدرجة تكرار الدعاوى أربعَ مرَّاتٍ فى أُسبوعٍ واحد.

يحصلُ «بيبى» على مُكافأةٍ سريعة للغاية، والمسألة ليست أنه أوَّلُ قائدٍ أجنبىٍّ يدخلُ البيتَ الأبيض فى العُهدة الجمهورية فحسب، إنما أنَّ الحليف الأكبرَ يستدرِكُ على ما كان من إدارة بايدن، عندما كسرَتْ العُرفَ الراسخَ فى استقبال رئيس حكومة إسرائيل بمُجرَّد انتخابه.

وكأنَّ الزيارة الحالية تعود بالزمن إلى ما قبل سنتين وعدَّة أشهر، وتشطُبُ على المواقف الأمريكية السابقة كُلِّها، من أوَّل الاعتراض على خطَّة الإصلاح القضائىِّ التى أجَّجت الشارع اليهودى، وإلى تلاعُب زعيم الليكود بالديمقراطيِّين ومُؤسَّسات الولايات المتحدة، وتحميلهم فواتير نَزَقِه السياسىِّ والعسكرى، دون إبداء أىِّ احترامٍ للدولة الأكبر عالميًّا، ولا أىّ امتنانٍ عن كلِّ ما بذلته لصالح وكيلتها الصغيرة فى الشرق الأوسط.

طار نتنياهو إلى واشنطن بعد ظُهر الأحد، وبحسب جدول الزيارة يُفتَرَضُ أنَّه التقى المبعوثَ الجديد للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أمس، ويلتقى الرئيس فى مكتبه البيضاوىِّ اليوم.

والحال، أنها ليست الرحلةَ البروتوكوليَّةَ المُعتادة بين البلدين، ولا من التفاصيل العابرة إطلاقًا أن تأتى بالتزامُن مع فاصلٍ أساسىٍّ فى مسار الصفقة المُبرَمَة بشأن غزّة.

والمعنى، أنها تتَّخذُ طابعًا إشكاليًّا من واقع التطوُّرات الأخيرة فى الإقليم، بحيث يصحُّ اعتبارها ترتيبًا لأوراق الاحتيال السياسى حال النظر من جهة القطاع وسوريا ولبنان الرسميِّين، أو أنها أقربُ إلى «مجلس حرب» إنْ تطلَّعنا إليها من زاوية إيران والحوثيِّين وحزب الله، وغابة الميليشيات المُتشابكة أو المُتقاطعة بين الشام والعراق.
بحسب الخطَّة الزمنيَّة المُبرمَجَة سَلفًا، كان يتوجَّب افتتاح مُداولات المرحلة الثانية من الاتفاق مع حركة حماس أمس، على أن تنتهى فى غضون أربعة أسابيع.
لم تُرسِل تلُّ أبيب وفدَها المُفاوِض إلى الدوحة، والمَعنيِّون بالملفِّ فى قطر قالوا إنه لا إشارات بشأن الجولة، بينما تحدَّثت الإدارتان، فى الولايات المتحدة وإسرائيل، عن بحث الموضوع على هامش زيارة نتنياهو لواشنطن.

وما فات، يَشِى بتغييرٍ فى التعاطى مع بنود الاتفاق ومواعيده التنظيميَّة، ليس شرطًا إلزاميًّا أنه على صِفَة النكوص والارتداد عن سابق التعهُّدات، إنما من مُنطلَق البحث عن صيغةٍ جديدة تُعيد تركيب التوازُنات، وتُبدِّلُ مراكز الفواعل الأساسيِّين فى المُقاربة الأُولى.

كما لو أن إدارة دونالد ترامب تسعى لتأميم الطاولة، والانفراد بدور حلقة الوَصْل بين كلِّ الأطراف، فتتجاوز موقع الوسيط أو الضامن، إلى الراعى المُهيمن على الورشة والمُنخرطين فيها.

جرى اتّصالٌ هاتفىٌّ مساء الأحد بين ويتكوف والوزير بدر عبدالعاطى. وتردَّد أنه بعد لقاء نتنياهو فى واشنطن، قد يطيرُ إلى الدوحة، ويلتقى مسؤولين مصريِّين أيضًا.

وعلى تلك الصورة، فربما نكون إزاء محاولةٍ لإعادة إنتاج دبلوماسية كيسنجر المكّوكية، وجوهرها تجزىء العنوان الكبير إلى عناوين فرعية صغيرة، وأن تكون اللقاءاتُ التفاوضيّة افتراضيَّةً لا ماديّة، وتمرّ جميعًا من قناة الوسيط الأمريكى، ما يسمحُ له بالمُناورة ومُمارسة الضغوط، وربما تبديل الرسائل أو تعديلها قبل أن تسقط فى صناديق المَعنيِّين بها.

والفكرةُ من وراء سلوكٍ كهذا، تبدأُ من ضَبط الاتِّصال على موجةٍ ترامبيَّة خالصة، لكنها تتَّسعُ لتحييد بقيَّة الوسطاء، واحتكار القرار النهائىِّ بشأن الإيقاع أوّلاً، ولُغة الحوار والمُخرجَات فى نهاية المطاف.

اندفعَتْ الرياحُ سريعًا فى الأشرعة، وبعد ما يزيدُ على سنةٍ من المراوغة الصهيونية منذ الهُدنة الأُولى، أُبرِمَتْ الثانيةُ فى غضون أسابيع، بل يُمكن تقليص المُدّة إلى أيام، بواقع الفارق بين تهديد ترامب وتوقيع الاتفاق.

وهُنا، لا يُمكن اعتبار أنَّ الرضوخ المُتعجّل من الجانبين كان يُعبِّر عن قناعةٍ حقيقية بانقضاء زمن الحرب، ولا بأنهم غادروا الميدان دون خوفٍ من العودة إليه مُجدَّدًا.

وأغلبُ الظنِّ أنَّ الصهاينة اختاروا الرقصَ على نغمة الإدارة الأمريكية المُنتشية بعودها المُظفّرة، لحين قدرتهم على تعديل اللحن، بينما كان الحماسيِّون مُضطرّين للنزول عن الشجرة، لأنها احترقت وتكاد أن تسقط بهم.

وعليه، تُركِتْ المسائلُ الإشكاليَّةُ مُعلَّقةً على نقاشات المرحلة الثانية، ولا ضمانة للإفلات من تفخيخ الصفقة إلَّا أن تكتملَ بالآليَّة ذاتِها، وتحت رعايةٍ ثُلاثيَّة كما كانت مَرحلتُها الأُولى، ما يُهدِّد بأنَّ الوصفة الأمريكيّة المُحدَّثة أكبر من كونها مُتغيّرًا شكليًّا، وربما تكون بدايةً لوَضع العصىِّ فى الدواليب.
إفسادُ التهدئة قد لا يتبعُه الاحتكامُ لقوّة السلاح بالوتيرة القديمة، لكنه على الأقل سيُبقى أوضاعَ القطاع سائلةً، ويُربِكُ حسابات اليوم التالى، وربما يُمرِّر لإسرائيل بالميوعة ما لم تتحصَّل عليه بالنار.

وبينما قالت حماس إنها لن تتخلَّى عن سُلطتها التنفيذية قبل الاتِّفاق على سُلطةٍ مُنشَّطَة، فإنَّ الرغبة الصهيونيَّة ستنصرِفُ بالضرورة إلى استدامة أجواء الرَّيبة والغموض، واتّخاذ هيمنة الفصائل مُبرِّرًا للمُطالبة بحلولٍ لا تقبلُها الحركة، وليس فى مقدورِ السُّلطة الوطنية أن تُسوِّق بديلاً عنها.

وأيّة صفقةٍ من هذا المنطلق، لن تقود إلى تسويةٍ طويلة المدى، ولن تستعيدَ حالَ الهدوء حتى لو ظلَّت البنادقُ فى وَضْع الصمت. بينما تلعبُ رسائلُ ترامب عن التهجير دورًا فى تغذية النزعة المُتطرِّفة لدى الفريقين: الاحتلال لن يُشجِّع على تخليق إدارةٍ تُعطِّل طموحاته الإلغائية، والمقاومة ستعتبرُ وجودَها الصارخَ آخر الضمانات لإحباط المُخطَّط، وكلاهما يُغذِّى بسلوكِه طموحَ الرئيس الجمهورىِّ فى مُطاردة السراب والجرى وراء المستحيل.

أوَّل مهمَّة لوزير الخارجية الأمريكى الجديد كانت صوبَ بَنَما فى أمريكا الوسطى. ذهب مَسبوقًا بتهديدات رئيسِه، ومزاعمه بشأن الحقوق التاريخية فى القناة الواصلة بين المحيطين الهادئ والأطلسى، وعاد بتعهُّدٍ من الرئيس خوسيه مولينو بألَّا يُجدِّد اتفاقية طريق الحرير المُوقَّعة مع الصين قبل سِتّ سنوات، أى أنه ينجح بدرجةٍ ما فى استعمار القرار، ولو بدا أنه أخفق فى ابتلاع الجغرافيا.

ومن هُنا، تتأتَّى أوّل إشارةٍ قويّة عن استراتيجية الإدارة الجديدة فى التفاوض، وهى لا تختلفُ عن آليَّة «الضغوط القُصوى» المُعتمَدَة مع إيران فى ولايته السابقة. بغرض إرهاق الخصوم واستنزاف قُدراتهم، وفَتح المجال لإجبارهم على تقديم تنازُلاتٍ تَقِيهم شرورَ التصعيد، وتُحقِّقُ مكاسبَ ظرفيَّة مُرضِية للامبراطوريَّة المُتغطرسة، على أمل الإفلات من خسائر تفوقُ قُدرتَهم على الاحتمال.

وما كان هناك يُحتَمَلُ أن يتكرَّر هُنا، وأن تكون تجربتُه الإقليمية العاجلة فى مُفاوضات الجولة الثانية من اتفاق غزَّة.

التغيُّر الطارئ على مواقف واشنطن، يُلاقيه نتنياهو بإعادة هندسةٍ لوَفدِه المُفاوِض، وخلال الأيَّام الفائتة تحدَّث الإعلامُ العِبرىِّ عن تعديلٍ فى التركيبة، بحيث يتقدَّم وزيرُ الشؤون الاستراتيجية والحليف الأبرز لرئيس الحكومة، رون ديرمر، بديلاً عن رئيس الموساد ديفيد برنياع.

وبجانبِ ما يحملُه ذلك، حالَ كونِه صحيحًا، من دلالةٍ على الانتقال من الأمنىِّ إلى السياسىِّ، فإنه يُعبّر أيضًا عن ديناميكيَّةٍ إسرائيليَّةٍ تتفاعَلُ مع تجربة «ويتكوف» المُستلهَمَة من مَكّوكيَّة كيسنجر، لا سيَّما أنَّ «ديرمر» وثيقُ الصِّلة بالولايات المُتَّحدة، ولديه خبرةٌ عميقة مع العقليَّة الأمريكية.

فى المُقابل، لا يبدو أنَّ الطَّرفَ الفلسطينىَّ يستشعرُ كثافةَ المُجريات وتسارُعَها على الجبهات اللصيقة بالصفقة الآن، أو بالقضية الوطنيَّة بشكلٍ عام.

لا تزال حماس تستهلكُ سَرديَّة النصر، وتُبالِغُ فيها باستعراضات ما تبقَّى من مُقاتلى القسَّام خلال مراسم تسليم الأسرى، وتتحضَّرُ لطاولة التفاوض على ما اختبرته قبل أسابيع، وباطمئنانٍ زائدٍ إلى أنَّ تهديدات ترامب ما تزال فعَّالة، وتجرى على الطَّرَفَيْن بالتساوى.

وعلى العكس من الرومانسية الغالبة، ومبالغات الثقة فى الوسائل القديمة، فإنَّ المُستجَدّات تقتضى إدخالَ شىءٍ من الحيوية على المُقاربة الغزّية خاصة، والفلسطينية بالعموم، لِمَّا يترشَّح عن هامس التبدّل والتحوير فى الترتيبات، لا من ناحية تطوير آليات وتكتيكات التفاوض فحسب، إنما من جهة الحاجة لمُمثِّلين سياسيِّين يمتلكون أدوات اللعبة، ولديهم مشروعيَّة الحضور فى المجال الدولى.

كانت النسخةُ السابقةُ من المُفاوضات تدور داخل بوتقةٍ واحدة، ويتفرّع عنها مساران مع حماس، من جهة القاهرة والدوحة، أمَّا ما يُقتَرَحُ اليومَ، أو يبدو أنَّ المبعوثَ الأمريكىَّ الجديد يسير إليه، فينقلُ الورشةَ من حالتها الجامعة إلى صورةٍ مُتشظّية، ويُوزّعها على عديدٍ من المسارات الطَّرَفِيّة، ويُفتِّتُ الطاولةَ الواحدة إلى فعالياتٍ جانبية، يتعاظَمُ إرهاقُها للجميع، وتتطلَّبُ مزيدًا من الجهد والتنسيق.

يتوجَّبُ بالتبعية أنْ تنفتِحَ قنواتٌ كفؤة ولحظيَّة بين جَناحَىْ الوساطة المصرية القطرية، ومنهما إلى غزَّة ورام الله، مع التحسُّب من أثر النقل والعَنعَنة فى حوارات ويتكوف، وفرز ما يقعُ ضمن الضغوط الناعمة، مِمَّا يُحسَبُ على الاحتيال الصريح، والسياقُ المُرَاد تمريره لا يتطلَّبُ اليقظةَ فحسب، بل يفرضُ تعزيز الديناميكية العربية مع الخارج، وفيما بينهم فى البدء والمُنتَهى.

ومن الخطأ النظر للمُفاوضات على أنها طريقٌ للحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار فقط، أو اجتراح مسارٍ يقودُ لتسوية سياسية بعيدة المدى. إذ يظلُّ الاحتمال عاليًا بشأن توظيفها لتعقيد أُمور الداخل الفلسطينى، والتلاقى مع أُطروحة التهجير فى نقطةٍ مستقبلية، لا يكون سهلا الرجوع منها إلى الوضع المثالى، ولا حتى ما هو فى المُتناوَل اليوم.

والمُؤكَّد أنَّ المواقف الإقليمية واضحةٌ بشأن القضية، ولا تقبلُ التأويل من جهة التمسُّك بالحقوق الفلسطينية المشروعة، وصلابة الحاضنة اللصيقة فى الدفاع عن أمنِها القومىِّ، إنما لا يصحُّ الاطمئنان لهذا العامل وحده، بمعزلٍ عن السياقات الطارئة على المنطقة والعالم، ولا إلزاميَّة البحث عن مخارجَ من حالة الانسداد بين فُرقاء الدولة الضائعة.

لن تتوقَّفَ الإدارةُ الأمريكية عن الاستثمار فى التهييج، وقد تُطفِئُ الحرائقَ من جانب وتُشعِلُها من الآخر. ومَرَدُّ التناقُض أنَّ ترامب يُديرُ سياستَه الخارجية بمنطقٍ انتهازىٍّ خالص، ويُعكِّرُ المياه دون هوادة لإخراج السمك إلى السطح، واصطياد صفقاتٍ سهلة وغير مُكلِّفة.

إبقاءُ البحيرة صافيةً بين أطراف الهَمِّ الفلسطينى قد يُعطِّلُ نُزهتَه البحرية قليلاً، وإشعارُه بثِقَل التكلفة المطلوبة كفيلٌ بأنْ يَصرِفَه مُستقبلاً عن التمادى فى المغامرة، أو يُقنِعَه على الأقلّ بالاكتفاء بالمعروض دون طمعٍ فى المزيد،

وهذا مِمَّا يُوجِبُ ألَّا تشذَّ القُوى المُوسِرة والفاعلة فى المنطقة عن الرَّكْب، ولا أنْ تتورَّط فى اتِّفاقاتٍ صغيرة لحساباتٍ ضيّقة، مُتغافِلَةً عن أنها لا تتَّقِى شهوتَه المُتأجِّجة، بقَدر ما تُستَدرَجُ من دون وَعىٍ لإذكاء شراهته، كالنار كُلَّما أطعمتها فَرعًا تمدَّدت إلى الجذوع.

كان لقاءُ القاهرة السداسىُّ مع الجامعة العربية، بدعوةٍ مُباشرة من مصر، مُقدِّمةً لتجديد حالة الإجماع على نهائيَّة الحلِّ السياسى وفقَ الثوابت القانونية ومُقرّرات الشرعيَّة الدولية، ويَنتظرُ المَوقفُ قُوَّةَ دَفعٍ إضافيَّة فى القمَّة العربية المُقبلة بعد شهرين تقريبًا.

لكن مع أهمية التوافُق فى فضاء العمل الإقليمى، فلا غِنَى عن توظيف القُوى الفردية للعواصم الكُبرى، والنظر لملفَّات العلاقة مع الإدارة الأمريكية على أنها حِزمةٌ واحدة مُتشابكة، لا تنفصلُ فيها غزَّة عن لبنان، ولا القضية الفلسطينية عن تحجيم الشيعيَّة المُسلَّحة، كما لا فاصل بين الاقتصاد والسياسية، أو تبادُل المنافع الجزئيَّة والبحث عن سلامٍ شامل ومُترابط الحلقات.

النجاةُ الفرديَّة غير ميسورةٍ مع إدارةٍ شديدة الأنانية، وتتطلَّعُ لكلِّ الأطراف على أنهم طرائدُ أو مَكامنُ خطر.

وإذا كانت كندا لم تُفلِتْ من أنياب ترامب، رغم الجوار والشراكة والمُطاوَعَة السياسية فى كلِّ الملفات، ولا حالَ تجاوُرُ مقاعد الناتو مع الدنمارك دون الطمع فى جرينلاند، فإنَّ أيّة هدايا مجَّانية تُساق لرَجُلِ البيزنس سيراها مُجرّدَ «إشارةٍ خضراء»، وتصريحًا بأنَّ ما فى المغارة أكبر مِمَّا تُرِك تطوُّعًا على بابها.

لطالما كان البيت الأبيض مُخادِعًا، لكنّه فى الحقبة الحالية يستمرِئُ الغِشَّ ويُفرِطُ فى اللجوء إلى الحِيَل. الاقترابُ منه ضرورة، وأَوْلى منه أنْ تُبْقَى دروبُ العودة مفتوحةً، وعلى المُتّصلِين به أن يَروا الخَفىَّ من الرسائل، وألَّا يَنشغلوا بالعارضِ عن القارّ، ولا بالظاهر عن الباطن.

للسياسة لدى ترامب وظيفةٌ حربيّةٌ لا يخفيها، وللكلام غاياتٌ احتياليّة، وفيما بينهما لا نفعَ لشراء السلامة بالمال، وقد لا يكونُ ضَررُ التحدِّى أكبر كثيرًا من المُهادنة والخنوع.

المجالُ مُشرّع على كلِّ الاحتمالات، وإذا كان عقلُ الإدارة الأمريكيَّة خفيًّا على العالم، أو مشكوكًا فى وجوده من الأساس، فلا يتبقّى سوى الرهان على القُدرات الذاتية، وليس من جهة الاطمئنان الزائد، والتذاكى وإفراط الثقة فى إمكانية تجاوز الفخاخ، إنما بالتضامّ والالتئام مع بقيّة الضحايا المُحتمَلِين، ونقل اللعبة الفرديَّة إلى ملعبٍ جماعىٍّ، بحيث لا يكونُ فى مقدور الغريم أنْ يأكُلَ خصومَه دفعةً واحدة، ولا أن يتسلَّى عليهم واحدًا بعد الآخر.

سَمِعَ السيِّد دونالد رفضًا صريحًا على مُقترحه للتهجير، أتبعَه باتِّصالٍ مع الرئيس السيسى، ثمَّ بدعوةِ الملك عبد الله الثانى إلى البيت الأبيض، بعد أسبوعٍ بالتمام من زيارة نتنياهو.


ومع وافرِ الموثوقيّة فى أنَّ القاهرة وعمَّان لن يتحوَّلا عن مواقفهما المبدئيَّة، ولن يُقايضا القضيَّةَ ومصالحَهما الوطنيَّةَ العُليا بالمُغريات أو اتّقاء الضغوط، فإنَّ واجب الشُركاء على امتداد المنطقة أن يكونوا ظهيرًا وسندًا، وألَّا يتفاجأ المُقاتلون على جبهة الذَّوْد والإنقاذ، بما يُخلخِلُ الصفوفَ أو يُسدِّدُ لهم طعناتٍ مجّانية من الخلف.
مثلما وُلِدت هُدنةُ غزَّة فى واشنطن، كانت الصفقةُ اللبنانية مُتّصلةً بالأجواء الأمريكية أيضًا. حضر فريق ترامب فى صورة المفاوضات، وأشرف على مُخرجاتها مع آموس هوكشتين، مبعوث بايدن لشؤون الطاقة وتقاطعات بيروت مع تل أبيب. وقبل أن يُنهِى الرجلُ أسبوعَه الأوّل فى الحُكم، انقلَبَ على بنود الاتفاق، وأقرّ لنتنياهو بالبقاء فى الجنوب بعد مُهلة الانسحاب المُقرّرة بستِّين يومًا لا أكثر.

وما كان شمالاً، يُبشِّر بما يُمكِنُ أنْ تؤولَ إليه الأوضاع فى الجنوب. لن تتوقَّف الحكومةُ العِبريَّة عن اختراع الحجج والأباطيل، ولن يملّ سيد البيت الأبيض من مُلاقاتها على مواعيدها المُحبَّبة. وقَطْعُ الطريق على نواياهما المُضمَرة ربما يستوجِبُ قدرًا من البراجماتية، وعدم التشدُّد من جانب حماس، اتّصالاً بسابق التجربة عن أنها تعودُ لاحقًا لِمَا كانت ترفضُه، وبشروطٍ أسوأ غالبًا.

الحربُ هدفٌ لدى اليمين التوراتىِّ والقومىِّ فى تلّ أبيب، ويبدو أنَّ زعيم الليكود مَرَّر المرحلةَ الأُولى من الصفقة، بوعدِ العودة إلى الميدان بعدها. وإذ يُبقِى الأُمورَ عالقةً جنوبىَّ الليطانى، ويُكثِّفُ ضَخَّ الوقود فى مُحرِّكات التصعيد مع إيران، فإنه لن يُفرِّطَ فى جبهة غزّة إلَّا بتوافر البديل، ولن يبصُمَ على مُقاربةٍ تَهدَوِيّة شاملة، لأنها تعنى نقضَ الائتلاف وسقوط حكومته بالضرورة.

المنطقةُ مُقبلةٌ على تصعيدٍ فى كلِّ الأحوال، إنما الغايةُ ألّا يكون فى فلسطين، سواء بتجديد الاشتعال فى القطاع، أو باستدراج الفصائل لنقلِه إلى الضفَّة الغربية.
لبنان سينجو فى كلِّ الأحوال لأنّه دولةٌ قائمة، ولها حاضنةٌ إقليميَّة ودولية، وصِفَة شرعيّة لم يطمسها الحزب. والجمهورية الإسلامية لديها من الوسائل والتحالُفات ما يُعينها على إنجاز صفقةٍ مع ترامب، أو امتصاص ضربةٍ عقابيّة تهزُّ ركائزها الإقليمية ولا تُسقِطُ النظامَ، إنما لا دعامة لغزّة إلَّا نفسها، والجوار اللصيق، وليس عليها أن تُغامِرَ بالذهاب إلى حافّة البُركان، وتتعشّم فى مُصادفةٍ تَقيها السقوط.

يحتاجُ الفلسطينيون إلى مُبادرةٍ شجاعة، اليومَ قبل الغد، تبدأُ من إعلان حماس تفكيكَ جهازها الإدارى لصالح السلطة الوطنية، على أن تتحرَّك الأخيرةُ باتّجاه إعادة الهيكلة وتنشيط آليات عملِها. ثباتُ الناس على الأرض حجرُ عثرةٍ أمام التهجير، لكنّ الخطر يظلُّ قائمًا ما لم يندرجوا فى مشروعٍ مُوحَّد، بعيدًا من الانزلاق فى حرب مفتوحة، ولصيقًا باستئناف النضال بكلِّ الصور البديلة.

ويتكوف ليس كيسنجر، والمكّوكيةُ الآن لن تُشبِه ما كانت عليه قبل خمسة عقود، إذ تعقَّدت السياقات وتبدّلت التوازُنات. كان مفهومُ الداهية الراحل مُؤخّرًا ينبعُ من الحاجة لجَبر التناقضات، وتقليص حلقات الجدل وصولاً إلى المُختصر المُفيد، أمَّا مع ترامب فستؤول التقنيةُ نفسُها إلى حالةٍ من الخديعة والتلاعُب، وتجزئة الفريق الواحد للاستفراد بكلِّ عضوٍ منه على حِدَة.

إنها لحظةٌ وجوديّة شديدةُ الثِقَل والكآبة، وعلى أطرافها جميعًا أن يكونوا على قدرِ الامتحان، وألّا تأخذهم شهوةُ البطولات المجّانية، ولا أطماع المصالح الخاصّة. كأنها قُنبلةٌ مُعلّقةٌ بخيطٍ رفيع فوق رأس الإقليم، وإن وقعت، فلن تُفرِّق بين غنّى وفقير، ولا طامعٍ أو قانع.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة