حازم حسين

حرب الصورة وكَرب الميدان.. عن ضرورة أن تتقدَّم الغاية على الدعاية فى قطاع غزة

الخميس، 27 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ما كان مشكوكًا فيه قد تحقَّق، وانتظم إلى قُرب مداه المُحدَّد رغم المراوغة واختلاق العثرات، ومحاولاتٍ لا تنقطع من جانب الاحتلال لتوظيف السياسة فى تحصيل ما تعذَّر على الحرب، ومن جانب الفصائل فى تلفيق سرديَّةِ انتصارٍ موهومة؛ ولو أفضت إلى مزيدٍ من الهزائم المعجونة بدماء الأبرياء.

عبرَتْ الهدنةُ امتحاناتٍ عدّة، وما يزال اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة صامدًا، وينفتح مساره على كل الاحتمالات تقريبًا، باستثناء أن يفرض أحدُ الطرفين إرادته على الآخر، أو أن يتراقصا معًا على جثة القضية وثوابتها الوجودية غير القابلة للشطب.

وفق الروزنامة المُتّفق عليها فى يناير الماضى، تنتهى المرحلةُ الأُولى السبت المقبل، بالتزامن مع بدء موسم الصيام لدى أهل غزة وعموم المسلمين. كان يُفتَرضُ أن تبدأ مُداولاتُ الثانية فى اليوم السادس عشر من إنفاذ الاتفاق، أى بحلول الثالث من فبراير الجارى، على أن تستمر التهدئة بعد انقضاء أسابيعها الستّة طالما كانت المُفاوضات دائرةً، ولحين التوصُّل إلى تفاهماتٍ بشأن شروط وترتيبات الانتقال.

الحادثُ عَمليًّا أنّ الكلام لم يبدأ بعد. شاغبَ نتنياهو عن قصدٍ قبل الموعد المُحدَّد، وزاد بإعادة هيكلة وفدِه المُفاوِض لصالح تسييس العملية بدلاً من أَمنَنَتها، فكان أنْ استبدلَ بقيادة رئيس الموساد حليفَه وأقرب رجاله فى الحكومة، وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، الخبير بالعقلية الأمريكية ومالك مفاتيح الوصول إلى وعى طبقة الحُكم الجديدة فى إدارة ترامب، فضلاً على أنه امتنع عن إرسالهم لغُرَف الحوار أصلاً حتى الساعة.

وبعدما كان مُرتَقبًا أن يحلَّ المبعوثُ الأمريكى للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، على تل أبيب أمس، للنظر فى ملامح العبور بين مرحلتى الصفقة التى لم تسقُط بعد، أعلن أنه أرجأ الزيارة إلى وقتٍ لاحق، مُتعلّلاً بارتباطاتٍ على خطِّ الصراع الأوراسى، وما يدور من محاورات بين واشنطن وموسكو بشأن التوصل إلى آليات لتصفية الحرب الأوكرانية.

وبعيدًا من أنَّ الرئيس أدخلَه على طريق بوتين أخيرًا، واستعان به فى إبرام اتفاق لتبادل المسجونين، فإنَّ الحجّة تبدو غير مُقنعةٍ ظاهرًا، وأقرب إلى استشعار الانسداد فى أُفق غزة، والاستثمار فى أجواء الريبة والغموض.

ليس من مصلحة البيت الأبيض أن يُطرَقَ بابُ القطاع بالقنابل والصواريخ مُجدّدًا، لا سيما فى ظلّ وعورة الحالة الإنسانية لمليونين وأكثر من المنكوبين، وطبيعة المناسبة التى تهلّ فى غضون يومين بما وراءها من أبعادٍ روحية وإيمانية، ثمّ الحاجة للوفاء بالتزاماتِ تصفية الصراعات المتأججة شرقًا وغربًا، كما أعلن ترامب فى حملته الانتخابية، وأثر المُغامرات غير المحسوبة على العلاقات الاستراتيجية فى الإقليم، ومصالح الولايات المتحدة مع دائرة الحلفاء العرب. وبهذا؛ فإنهم لن يُقرّوا الارتدادَ إلى ميدان القتال، ولو تردَّد على ألسنتهم خلاف ذلك.

المُشكلة أنَّ الرئيس العائد بذاتٍ مُتضخّمة، قد وقَّع لحليفه الليكودى على بياضٍ تقريبًا. وإذ يُحاول أن يلجُم شهوتَه للبقاء فى السلطة من بوّابة استبقاء الأمور مُعلّقةً، أو زحزحتها رجوعًا إلى الاشتعال مرّةً ثانية، فإنه لا يُريد أن يُمارس ضغوطًا ظاهرةً على الحكومة اليمينية الفائرة بالتناقُضات فى تل أبيب، ولا أن يُفهَمَ من سلوكه أنه قد يُطوّعُ مشروعَها الإلغائىَّ لحساباتٍ أمريكية تتجاوز ما تعدُّه إسرائيل فى صُلب مصالحها الحيوية، وبطبيعة الحال ليس فى إمكانه أن ينقلب على الذات سريعًا، وأن يأتى من الأفعال نقيضَ ما تطوّع وأهداه للصهاينة بالأقوال.

ترقصُ الإدارة الأمريكية على إيقاعَيْن مُتضارِبَيْن فى السرعة والدلالة النفسية. فمن جانبٍ تسعى للبقاء تحت سقف الوساطة عند الحدِّ الأدنى المطلوب من الحياد، وتريد من الآخر أن تُعبِّر عن موقفٍ واضح لصالح أحد الطرفين، وأن تستبقى مشروعَها التصفوىَّ قائمًا من وراء ستار الانشغال الإنسانى والصفقة العقارية المُغرية فى القطاع. والاصطدام المُبكّر بصلابة القاهرة وعمّان فى مواجهة أطروحة التهجير، لا يترك له مُتّسعًا للمناورة سوى التلميح إلى الانصراف عن الفكرة، وانتظار ما ستسفر عنه القمة العربية الطارئة بعد أقل من أسبوع.

وعلى الرغم من الإفراط فى إيحاءات القوّة والهيمنة من جهة الاحتلال؛ فإنه يبدو مأزومًا للغاية، ويفتقدُ البدائلَ الصالحة للحفاظ على تماسُك ائتلاف الحُكم داخليًّا، من دون إغاظة مُحيطٍ يتميّز من الغضب بما فيه الكفاية.

إنه بين خيارين لا ثالث لهما: أن يعود للجبهة بكلِّ فورانها الحربى والدعائى، ومن دون فائدةٍ تُذكَر سوى مُضاعفة الفواتير، أو يسير باتجاه التسوية الوقتية المُلزِمَة حُكمًا بالانتقال إلى «اليوم التالى» تحت مظلّةٍ فلسطينية برعايةٍ عربية، وفى كليهما تُغريه المُساندةُ الأمريكية، ويكبحه الشكُّ فى استمرارها دون التواءاتٍ حادّة أو تعديلات طارئة؛ حالما يكتشف ترامب ما وراء المُغامرة من ظلالٍ حارقة، أو تلتمع أمام ناظريه صفقةٌ أجدى وأكثر إغراء.

كانت زيارة نتنياهو لواشنطن مُثمرةً شكلاً، وفاشلةً تمامًا فى المضمون. طُرِحَت فكرة التهجير مشفوعةً بأسباب إخفاقها، وتأكَّد من زيارة العاهل الأردنى فى الأسبوع التالى أنَّ الرفض واحدٌ ولو تغيَّر المسرح، وأنه إزاء مخاطر أن ينزلق لدور «مقاول الإبادة والتطهير».

وعليه؛ لم تعُد القنواتُ معه مفتوحةً على إطلاقها كما كانت فى كلِّ الجولات السابقة. علَّقت القيادةُ المصرية زيارتها طالما بقى التهجير على جدول الأعمال، وتكثّفت التحرُّكات لبناء موقفٍ إقليمىٍّ مُوحَّد، وبدا أنَّ مواصلة القصف المُركّز لن تثقُبَ جدار الرفض؛ بقدر ما تستثير المشاعر وصولاً إلى حال التحدِّى الخاصمة من صورة القطب الأكبر عالميًّا، بينما يُهدِّد الجنون الصهيونىُّ بإلقاء ما تبقَّى من الأُصول الإقليمية المَحميّة فى المحرقة.

وعلى ما فات، يتسلَّط الحَرَجُ على عقل الجماعة الترامبيّة؛ رغم ما يُشاعُ عن الرئيس ورجاله من انكشاف الوجه وتجاوز الاعتدال وفق حساباتِ السياسة التقليدية. فالظرف الراهن يقطع بأنه لا سبيلَ لتمرير خطّة السيطرة على القطاع، ولا لإزاحة كُتلته الديموغرافية الهادرة إلى دول الجوار أو غيرها، والرجوع الواضح اعترافٌ بالفشل فى مُستهَلِّ ولايةٍ لم تُحرز أيَّة نجاحاتٍ حتى الآن.

إرخاءُ الحَبْل لنتنياهو يُهَدِّد بأزمةٍ أكبر من الطوفان وتداعياته، وتلجيمُه بغِلظةٍ قد لا يُؤثِّر داخل فلسطين، بالنظر لانكشاف حماس وضعف مركزها؛ لكنه يُصلِّب موقفَ الجمهورية الإسلامية، ويرفع منسوب العناد والمُكابرة لدى بقايا المُمانَعة؛ بعدما صارت عاصمةُ المحور طرفًا مباشرًا فى المُواجهة، أو رقمًا صعبًا فى حسبة النصر الأخيرة.

وهكذا تنتقلُ اللعبة من شهوة الحَسْم بالضربة القاضية، إلى نطاق تقطيع الوقت والرهان على التدرُّج صعودًا بفارق النقاط. أى أنْ تظلَّ الهُدنة الغزّية قائمةً؛ إنما من دون انتقالٍ حقيقى إلى ما بعد السطر الأوَّل فى الاتفاق، وأن تُنتَزّع التنازُلاتُ من حماس لحين تصفيّر عدَّاد قوتها، وسَلب ما تبقَّى لديها من أوراق.

وعلى هذا المعنى؛ ويصير التهديد المُتكرِّر بفَتح «أبواب الجحيم» وسيلةً للترويض وتحريف المسارات جُزئيًّا، وليس تعبيرًا عن رغبةٍ حقيقة فى الرجوع إلى الميدان، أو حتى إزاحة حماس عَمليًّا، بقدر ما أن تظلَّ حجَّةً صالحةً للاستهلاك، وعقبةً على طريق إنهاء يوم الحرب، وعبوره إلى اليوم التالى.

لا تعرفُ الحركةُ كيف تتصرّف فى سياقٍ مُعقَّد سياسيًّا. أخطأت منذ البداية حينما سيَّدت جناحَها المُسلَّحَ على غيره من الأجنحة، واحتكمَتْ للبنادق حصرًا دون إبقاء مسربٍ مفتوح على القتال بوسائل مُغايرة.

رحل السنوار عن المشهد ولم يَزَل مُتحكّمًا فى تفاصيله؛ أكان من جهة شقيقه ودائرة رجاله الباقين فى الأنفاق، أم من سطوته المعنويّة وما يُمثّله من ضغطٍ نفسىٍّ على المُفاوضين، بحيث لا يُظهِرون رخاوةً عَمَّا كان عليه القائدُ الراحل، أو يُعطون الدَنيّة فى دينهم وثوابتهم الفكرية والحركية.

باختصار؛ إنها سُلطةُ النموذج التى تقدَّمت من آخر الصفوف لتحتكر الواجهة، وتقمع الواقفين فوق رُكام المأساة عن اختبار بدائل الانتحارات المجانية المفتوحة، أو الْتِمَاس سكِّةٍ صالحة للنجاة بالنَّفْس والقطاع والقضية الوطنية كلِّها.

وليس أدَلَّ على الارتباك مِمَّا يعتمِلُ فى أحشاء التنظيم، ويطفحُ على السطح بين وقت وآخر فى صورةِ تناقضاتٍ ظاهرة، واختلافاتٍ غير هَيِّنة فى الرُّؤى والمضامين، بين ما يُطرَح فى غُرف التفاوض، وما يُقدَّم للحاضنة اللصيقة، أو ما يُساق للخارج عبر الإعلام الحماسى أو من نوافذ إقليمية ودولية.

يقولُ «الحيّة» للوسطاء إنهم جاهزون للخروج من مشهد الحُكم، وينفى أسامة حمدان، ويقلب موسى أبو مرزوق الطاولة على كتائب القسَّام، وتفرضُ الأخيرة منطقَها على الجميع فى استعراضاتِ تبادُل الأسرى، عَزلاً لنَفسِها عن المجال العام للنزاع، كما لو أنها تخوضُ جولتَها الخاصة بانقطاعٍ كاملٍ عن كل الاعتبارات والتيَّارات، ولو كانت قيادة الحركة.

تعلَّل نتنياهو بالدعائية المُحرِجَة على منصّات تسليم الرهائن داخل غزّة، وما كان من مشاهد غير مسبوقةٍ، مثل استعراض التوابيت على خلفية تصوّره فى هيئة «مصَّاص دماء»، أو تقبيل أحد جنودِه لرَأسَىْ اثنين من مُقاتلى حماس، أو إظهار أسيرين يُطّلان من سيارة على زملائهم المُحرَّرين، ويستحثّان الحكومة أن تتخلَّى عن المُكابرة وتُنجز الاتفاق لآخره.

حربُ الصورة وفّرت له ذريعةً كافية لتعليق الإفراج عن مسجونى الدفعة السابعة، بنحو 600 تقريبًا أغلبهم مِمَّن كانوا فى صفقة شاليط بالعام 2011 أو اعتُقِلوا بعد الطوفان، بينما لم تُحقِّق للفصائل مَكسبًا ميدانيًّا أو معنويًّا؛ بل أرهقت صورتَها الأخلاقية بمزيدٍ من إشارات الوُصْم والإدانة والتشويه؛ لا سيما إزاء اتّخاذ الجثامين مادَّةً فى معركة الدعاية.

والحال؛ أنَّ الطرفين يرتكبان الخطيئةَ نفسَها؛ وإن بصُوَرٍ مُتباينة. لقد كانت الصورةُ وسيلةَ حماس فى هجمة الغُلاف لإعلان نصرِها المُبكِّر، وتثبيت هشاشة الاحتلال وتداعى بِنيَتِه الأمنيّة.

وبالمثل؛ لعب الصهاينةُ لعبة استعراض القوّة على أبدان البشر طوال خمسة عشر شهرًا من العدوان الغاشم، وفى مرحلةٍ تالية من الرسائل الرمزية فى صفقات التبادُل، وقد ألبسَتْ الأسرى ملابسَ مطبوعةً بنجمة داود ونصوصٍ توراتية، بجانب التنكيل المادىِّ والمعنوى، وإجبارهم على الركوع لسجّانيهم.

وأعلى ما لدى الحركة ينتهى إلى استخدام ما فى حوزتها من رهائن على المنصّات؛ بينما يملك الاحتلالُ سُجونًا مملوءةً لآخرها، وساحةً وسيعة فى الضفَّة والقطاع، يتيسّر فيها حَفرُ الرسائل الغائرة على أجساد خمسة ملايين أو يزيد، وأخيرًا احتمال الذهاب إلى المدى الأقصى من رسائل اللحم البشرى عبر أطروحة التهجير، ومحاولات المضىّ إلى إنفاذها قسرًا أو طوعًا.

وليس القصد أن تُسلِّم المُقاومةُ بالهزيمة والانسحاق إزاء العدوّ؛ بل أن تعى كُلفةَ التمادى فى مُنازلةٍ غير مُتكافئة، ولا فرصةَ لأنْ تحوز فيها اليدَ العُليا على المُنافس الوحشىّ، المدعوم بسرديّة غربية مُنحازة وغير عادلة.

والفارق بينهما أنَّ حماس تقتصُّ نفسيًّا من آحادٍ، بينما يُسَوِّق الاحتلالُ مُمارساته من زاوية ردّ الفعل، وعلى مجاميع هادرةٍ، تزدادُ يومًا بعد آخر لتشمل شعبًا بأكمله.

وفى جَردة الحساب؛ لن تجد سوى لحظاتٍ عابرة من النشوة والفخر والساذج، والأغانى المُدغدِغة للعواطف، مشمولةً بهتافاتٍ صاخبة فى زمن الحدث، أو صامتة على المنصَّات الرقمية، ثمَّ تتبعها جولة مُضاعَفة من الجرائم الصهيونية التى لا تنطفئ بانقضاء الحالة؛ بل تتّسع وتتضخَّم وتتناسَلُ من بعضها؛ لتُنتِجَ مستوياتٍ أعلى وأقسى من العُنف والتنكيل.

وإذ نمدُّ الخطَّ على استقامته؛ فقد كان «طوفان السنوار» مُمارسةً مُبرَّرةً أخلاقيًّا وقانونيًّا فى سياق النضال التحرُّرى؛ لكنها أفضَتْ إلى تمكين الغاصِب بأضعاف ما كان عليه، وإلى توريث المنكوب نكبةً تفوقُ احتمالَه، وتعلو على وعيه القديم بالمأساة الوطنية فى عُمرها الطويل.

كان إفشالُ الهُدَن المُتتالى بعد تجربة نوفمبر قبل الماضى تمسُّكًا منطقيًّا من جانب حماس بالشروط العادلة؛ لكنها اضطرّت لاحقًا للتنازُل عَمَّا تشدَّدت فيه، وارتضَتْ بأقلِّ مِمَّا كان مطروحًا، وبشروطٍ أعلى.

والمُكابرةُ اليومَ لا تصحُّ تخطيئها بالنَّظَر لنازيّة نتنياهو وعصابته؛ إنما يُحتَمَلُ أن تقودَ لأوضاعٍ أسوأ من الوَضْع الراهن، ولإجبار الحركة على التراجُع، بعدما لا يكون فى إمكانها تحديد مواضع أقدامها، ولا ترتيب البيت بالتوافُق مع الشركاء، وبما يُحقِّق لفلسطين منفعتَها الصافية.

نجحَتْ الوساطةُ المصرية مُؤخَّرًا فى القفز على أحدث حلقات الانسداد. وبمُوجَب التفاهُمات الجديدة ستردُّ الفصائل أربعةَ جثامين اليوم، لتُفرِجَ إسرائيلُ عن العدد المُقابل لهم، بجانب الدُّفعة المُعَلَّقة منذ بداية الأسبوع.

وبينما يُرَدِّد الإعلامُ العِبرىُّ أنَّ حكومتَه ستَمنَح مُهلةً لمدَّة أسبوعٍ بعد نهاية المرحلة الأُولى، يعقبها التمديدُ حالَ مُواصلة الإفراج عن الرهائن، أو الرُّجوع للحرب بمُجرَّد تعطُّل مسار التبادُل؛ فسيجد الحماسيّون أنفسَهم أمام خياراتٍ قاسية، إذ لن يكون سهلاً الامتناع عن شراء مزيدٍ من التهدئة فى الأجواء الرمضانية ببعض الأسرى، ومن الصَّعب أيضًا أن تُغامِرَ باستنزاف آخر الأوراق على مدار الشهر، لتقف فى النهاية عاريةً من كل ما يُمكن التفاوض عليه أصلاً. وكلا الاختيارَين سيخصمُ منها داخل الحاضنة الوطنية، ومع حليف قريبٍ أو بعيد.

الاحتلالُ يُلقِى أوراقَه على الطاولة من دون مُوارَبة، ويستندُ إلى أنَّ الحركة ستظلُّ محبوسةً بإرادتها فى إطار الثنائية المُغلقة، ولن تُشرّع الأبواب والنوافذ على حلولٍ بديلة من داخل الفضاء الوطنى.

والمعنى؛ أنها ترتاحُ لاختزال القضية فى الأيديولوجيا، والنضال فى التنظيم، ولا تقتنع بأن المجال يتطلّب توسيع حدقة العين لترى أبعدَ مِمَّا تحت قدميها، وتستعين بعناصر القوّة الوطنية المُتاحة، وبما يُواكبُ المُقاربةَ العربية الساعية لاستنهاض مشروع فلسطينىٍّ خالص للتعافى المُبكِّر وإعادة الإعمار، وإحباط أُطروحات التصفية والإلغاء، بإجراءاتٍ عَمليّةٍ تتعزَّز بالرفض الإقليمى، وتُعزِّزه فى مُواجهة الضغوط القائمة والمُحتمَلة.

لقد سارعت تلُّ أبيب إلى تلقُّف خطَّة ترامب رغم سذاجتها الظاهرة، وأعلن وزيرُ دفاعها يسرائيل كاتس تشكيلَ لجنةٍ موسَّعة من عدّة جهاتٍ للعمل على مشروع الهجرة الطوعية، وفتح الموانى والمطارات للراغبين فى الخروج من القطاع.

والمُعارضة الإسرائيلية على عداوتها اللدود مع الليكود وشُركائه التوراتيين، ينحازُ بعضُها للفكرة، ويقفزُ آخرون إلى مُقترحاتٍ لا تقلُّ عنها فى الأثر والجنون، وأحدثها ما ساقَه زعيمُها يائير لابيد عن إلقاء عبء إدارة القطاع على كاهل مصر لثمانى سنوات، تُمَدَّد لخمس عشرة سنة، مع علمه الكامل برفض القاهرة لأيَّة أفكار من هذا النوع، وأنه لا أُفقَ لتمريرها من فوق رؤوس الغزّيِّين، بغضِّ النظر عن مواقف حماس وفتح ومُنظَّمة التحرير وبقيَّة الفصائل والفعاليات المُهَيكَلة.

وفى المُقابل؛ اكتفى الحماسيّون بالخطابة فى مُواجهة البيت الأبيض، ولم يُقدّموا تصوّرًا مُضادًّا من داخلهم، ولا أبدوا انفتاحًا، يفرضُه الظرف الضاغط، باتّجاه الجِسْم الشرعىِّ الوحيد فى فلسطين التاريخية، والقادر باعتباراتِ الخبرة والقانون على التصدّى للسرديّات الأمريكية والصهيونية، أقلّه من زاوية أنه لا وجهَ لوَصْمها، ولا لمُحاربتها بالوسائل المُعتمدة فى مُواجهة وضع «حماس» المُلتبِس إقليميًّا ودوليًّا.

وفى النهاية؛ من المُؤكَّد أنَّ شخصًا عاقلاً على الأقل داخل الحركة يعرفُ أنه لا مستقبلَ لهم فى إدارة القطاع، ولا فى بقاء السلاح بالصورة التى كان عليها، وأنَّ السياقات السائلة والرجراجة قد لا تسمحُ بإنفاذ مُخطَّط التهجير؛ لكنَّ خُلاصة سيولتها واحتدامها لن تسمح أيضًا ببقاء مفاعيل الانقلاب القائمة فى غزة منذ العام 2007.

كلُّ شىءٍ يُغفَرُ إلَّا الخلل فى ترتيب الأولويات؛ لا سيما لو كانت واضحةً ولا تحتملُ الجَدَل والتأويل. والغموضُ الذى تستّرت وراءه الفصائلُ الغَزّية فى الطوفان قبل عامٍ وعدّة أشهر، أو أخفَتْ به حدودَ اتّصالها بالجمهورية الإسلامية وأجندة الشيعية المُسلّحة فى الإقليم، لم يعُد قائمًا أو قادرًا على سَتر العورات.

تراجعَتْ طهران عن دعاياتها، ودخل حزبُ الله مُرغمًا تحت سقف الدولة اللبنانية، وفرضَتْ الهزائمُ الصارخة قوانينَها عَمليًّا بالرغم من مزاعم النصر. حماس مَدعوّةٌ إلى الاقتداء بالحُلفاء فى السياسة كما اقتدَتْ بهم فى الأيديولوجيا وميادين القتال، ومعرفة ما ينفعُ مِمَّا يضرّ، والفَصْل بين الشخصى والعام؛ طالما أنَّ تكاليف الخيارات الفصائليَّة تُسدَّدُ فى النهاية من رصيد القضية.

لا فائدةَ من استعراضات تسليم الرهائن، ولا من الإيحاء لأحدهم بتقبيل رأسٍ أو التلويح باليَد. كلُّ الهزائم يُمكن تعويضها؛ إلَّا أن يُهزَم الغزّيِّون معنويًّا، وأن تُوضَع فلسطين على المذبح لإنقاذ أيديولوجيا أو إشباع نفسيّة فصيل.

المُبادرةُ اليومَ إلى إعلان النزول عن أيَّة سُلطةٍ حقيقية أو رمزية فى القطاع مطلوبةٌ بأكثر مِمَّا كانت فى أىِّ وقتٍ سابق، ودعوة منظّمة التحرير وحكومتها إلى الإمساك بمقاليد الإدارة والتفاوض مخرجٌ لا بديل عنه، ويُواكب الخطّة العربية القادرة على مُوازنة المَوقف الأمريكى، وبما يُبرهن عَمليًّا على كفاءة مشروع التعافى واكتماله، وصلاحيته للإنفاذ فورًا، وبمقبوليّة عريضة وغير مُعرّضة للاعتراض أو التشغيب. مع تسجيل المُلاحظات الموضوعيّة على تركيبتها وأدائها، ودعوتها إلى الإصلاح من الداخل، وإلى إعادة هيكلة المشروع التحرُّرى ومرافقه السياسية والتنفيذية بالتبعية.

إنه اختيارٌ بين الغاية والوسيلة، مع العِلم بأنَّ العدوَّ حقَّقَ أكبر مكاسبه مع الأخيرة، ويجبُ ألَّا يُعَان، بالخفّة والاستخفاف والذوات المُتضخّمة دون مُبرِّرٍ مُقنع، على ابتلاع الأُولى، والأَولى والأهمّ دائمًا وأبدًا.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة