قبل أيام قليلة، نظمت نقابة الصحفيين لقاء حاشدا في تأبين الكاتب الراحل محمد جبريل، حضره زوجته الدكتورة زينب العسال، وابنة الكاتب الراحل وابنه، وتحدث فيه بشكل ضاف كل من المبدع الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد، والمبدع الدكتور عمار على حسن، وأدار اللقاء المبدع الأستاذ محسن عبد العزيز.. كما شارك بالكلمات عدد كبير من المبدعين والمبدعات، من تلاميذ محمد جبريل ومن أصدقائه وصديقاته، ومن الذين رافقوه في رحلته وفي صالونه الأدبي.
وقد قدم كاتب هذه السطور، في كلمته، إشارات لبعض المعالم أو الملامح في مشروع محمد جبريل الإبداعي المتنوع، ورأى أن أعماله الروائية والقصصية قد مضت في وجهات متعددة، وقطعت مسارات متنوعة، وأن هذا واضح بجلاء في رواياته، منذ روايته (الأسوار) التي كتبها أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وحتى رواياته المتأخرة، ومنها (حلق وحيدا)، مرورا برواياته الأخرى الكثيرة، ومن بينها (إمام آخر الزمان) و(قاضي البهار ينزل البحر)، و(قلعة الجبل)، و(اعرافات سيد القرية) و(الحياة الثانية) و(زهرة الصباح) و"رباعية بحري"، و(الجودرية)، و(رجال الظل).. وغيرها.. وأيضا مرورا بمجموعاته القصصية ومن بينها (تلك اللحظة)، و(حكايات وهوامش من حياة المبتلي)، و(سوق العبيد)، و(قارع الأجراس) وغيرها..
ولكن، على تعدد الوجهات وتنوع المسارات في هذه الأعمال، فإن هناك تصاديا وتكاملا فيما بينها، يلوح على مستويات عدة، ويتحقق خلال معالم وملامح كثيرة.
من هذه المعالم والملامح ما يتمثل في الاهتمام بقضايا الحاضر الموصول بالزمن الذي عاش فيه واهتم به وكتب عنه محمد جبريل، وحضور هذه القضايا في أكثر من عمل من الأعمال التي كتبها. تطرح روايته الأولى (الأسوار)، مثلا، قضية الحرية والقمع، وعلاقتهما بالإرادة الفردية والجماعية، وبالقوى التي تلوح كليّة القدرة.. وسوف يتصل ويتنامى اهتمام محمد جبريل بهذه القضية في بعض رواياته التالية، ومنها (رجل القلعة) و(رجال الظل) اللتين صدرتا في تاريخين متباعدين.
ومن هذه الملامح الدالة على هذا التصادي والتكامل في أعمال محمد جبريل، ذلك الإخلاص للجماعة القريبة التي عرفها وخبرها، (التي تمثل قطاعا من المجتمع في الإسكندرية)، والتناول المتعدد لعالم هذه الجماعة في أكثر من عمل له، وخصوصا في رواياته (رباعية بحري) التي جسدت هذه الجماعة بشخصياتها وعلاقاتها وأعرافها ومواضعاتها وهمومها وأحلامها.. وحضور هذه الجماعة يجاوز هذه الرباعية إلى كتابات أخرى لمحمد جبريل.
ومن هذه الملامح والمعالم التي تؤكد هذا التصادي والتكامل في أعمال جبريل، أنه في تناوله لقضايا زمنه، وتأمله لها خلال اتصالها بأزمنة قديمة، قد وصل بين رواياته وبين عوالم تنتمي إلى التراث العربي، وهو في هذا المنحى قد استلهم وتمثّل وجهات عدة من هذا التراث؛ التراث التاريخي، والتراث الأدبي، والتراث الشعبي، والتراث الصوفي.. وتحقق هذا في عدد كبير من رواياته، خلال ما يبدو استراتيجية واضحة وإن تنوعت مسالكها وطرائق تجسيدها.. وفي كل الأعمال الروائية، التي مضت في هذا المنحى، ظل الاهتمام نفسه بتأمل الحاضر في صور الماضي، واستكشاف التجربة فيما يشابهها، وتقصي ما يبقى وما يندثر في مسيرة التاريخ والتراث العربي، وربما التاريخ والتراث الإنساني أيضا.
ومن هذه الملامح والمعالم التي تومئ إلى هذا التصادي والتكامل، في أعمال جبريل، أنه ظل خلال رحلته، من أوّلها إلى آخرها، مشغولا بأسئلة الكتابة نفسها، وعلى رأس هذه الأسئلة ما يرتبط بالبحث عن خصوصية محلية للكتابة الروائية بوجه خاص.. وقد تجنب الانسياق إلى "موضات" التجريب التي تصعد وتنحسر في أساليب الكتابة، والتي تنطلق في بعض الحالات، في هذا الصعود والانحسار، من اقتداء بتجارب أدبية انطلقت من سياقات مغايرة.. ولكن ظل جبريل يستكشف تقنيات مرتبطة بميراث سردي مصري عربي عظيم، بما يجعل أغلب أعماله يفصح عن هوية مكتفية بغناها الخاص، لا تتمسح في منجز فني غربي جاهز، ولا تتباهى بما ليس لها، أو بما هو غريب عنها.. ويمكن تلمّس هذا، بوضوح، في عدد من روايات جبريل ومن قصصه القصيرة أيضا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة