حازم حسين

من طوفان يحيى لحوار موسى.. مفترق طرق بين صراع الأيديولوجيا والضمير فى غزة

الأربعاء، 26 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا أسف أكبر من أن تُطرح الأسئلة فى غير أهلها، ويتسع لها كل مجال إلا مجالها الأصيل. ولعلها صفة راسخة فى التنظيمات الأصولية، أن تحوّط على سردياتها داخليا حتى تتفجر من خارجها، وأن تكون أول من يتهرب من الاستحقاقات الواجبة، وآخر من يتداول فى شؤونها الوجودية، وإن حدث وانفلت المكتوم من قمقمه الضيّق؛ فلا سبيل لديها سوى الإنكار، واستمراء حال الغيبوبة التى تُطوّق وعى صاحبها، بأكثر مِمَّا تُجنّبه ضغوط الواقع وتكاليفه الباهظة.


درج العقل العربى على العيش فى فقاعة مُغلقة، وإذا ما خُلط موروث الثقافة مع طبيعة الحركات الدينية المُصمتة؛ فإن الرواية المفتوحة على الجغرافيا والزمن تصير نصًّا مُقدّسًا، تفتقد صِفة الحياة بما فيها من ديناميكية وجدل، وتتحوّل إلى صنمٍ يتعبّد إليه الواقعون فى أسر الصورة المُتخيّلة، ويخوضون حربًا مفتوحة على الجميع؛ طمعا فى الانتصار لدعائية مهزومة من أعماقها، ولا تجد ما تتساند إليه سوى العاطفة واستماتة المأزوم فى التعالى على الأزمة.


أحدث «طوفان الأقصى» شرخًا عريضًا فى جدار البأس. استحلب الحماسيون نشوة النصر لساعات؛ ثم أفاقوا على شهور من التداعى والانكسارات المتوالدة من بعضها. وإلى اللحظة؛ ما يزالون عاجزين عن الوقوف على المشهد بمعقولية مُقنعة، وبقدر من التجرُّد الذى يخدمهم فى الراهن، ويُجنّبهم المنزلقات نفسها فى مُقبل الأيام. كأن الصدمة تسلّطت عليهم لدرجة المساس باعتقادهم فى الفكرة والتنظيم؛ فصارت فضيلة المُراجعة هاجسًا يتهدَّد صلابتهم البنيوية والإيمانية، ولا يجدون إزاءها إلا أن يواصلوا المُكابرة، ويُصوّبوا على الراغبين فى الرجوع من طريق الأذى.


وأوضح ما تتجلَّى فيه المحنة، موقف «حماس» الأخير من تصريحات أحد قادتها التاريخيين، وخروجه عن النصّ المُعمَّم على الحركة بكاملها فيما يخص الطوفان وتداعياته. بدا أن الشقاق يتجاوز الرؤى الفردية؛ إلى أُصول لا يتلاقى عليها الساسة مع المسلحين، وتُوظّف فائض القوة لديها فى قمع نفسها أوّلا، بدلاً من الاتكاء على التنوع والاختلافات فى تصويب الأخطاء، واستدراك ما فات لأجل النجاة فيما هو آت.


تحدث موسى أبو مرزوق، الوجه الحماسى البارز، وأول رؤساء المكتب السياسى للحركة. قال فى حوار هاتفى مع «نيويورك تايمز» إنه وبقيّة طبقة السياسة لم يتوافروا على علم بخطّة الطوفان؛ لكنهم دعموا استراتيجيته الداعية إلى الاشتباك مع إسرائيل، وإنه لو علم ما ستُفضى إليه من دمار ما كان ارتضاها، كما أنه لا وجه للزعم بالانتصار أمام ما حاق بالقطاع وأهله جرّاء العدوان.


أُجرى الحوار آخر الأسبوع الماضى، على ما أشارت الصحيفة أوّلا وتبعتها الحركة فى بيانها، ونُشر فى وقت مُبكّر من يوم الاثنين، ومرّ الكلام مُغلّفًا بالصمت إلى أن تلقّفته الصحافة العربية، واستطردت فى عرض فحواه؛ فكان أن دخل الحماسيون على الخطّ رفضًا واعتراضا وتصويبًا، وأوردوا على لسان «أبو مرزوق» ما يُناقض قوله للصحيفة الأمريكية، وجدّدوا سرديّة الإنكار والاستكبار، أى النصر بمعنى آخر، ولو من طرفٍ خفىٍّ.


قبل عقدين تقريبًا، اشتعل جنوب لبنان على غير موعدةٍ سابقة. ذهب حسن نصر الله إلى الحرب دون إعداد أو تجهيز، واستدعى الصهاينة برعونة أفضت إلى تدمير بيئته، وقتل وتشريد عشرات الآلاف؛ ثم عاد بعدها ليقول: «لو علمت ما ستؤول إليه الحال ما أقدمت على خطف الجُنديين». والمشهد الراهن كما لو أننا نلفّ فى دائرة لا أوّل لها ولا آخر، ونُكرِّر التجارب نفسها؛ لا عن قدريّة يتعذّر الفكاك منها؛ بل من جهلٍ بقراءة الحوادث واستيعاب الدروس، وعجز عن الاعتراف بالخطايا وتصويب المسارات.


والمُفارقة الأولى ليست فيما قاله ألمع قادة حماس الأحياء، وأحد مرجعياتهم الكُبرى مِمَّن لا يصحّ فيهم الوَصْم أو الرمى بالخفّة والتخاذل، بل فى تغاضى الحركة عن القول وقائله لساعات، ثم التفاتها إليه بعدما تردَّد بكثافة فى الإعلام العربى، فكأنها كانت ترتضى أن تُمرَّر الرسالة للغرب بلُغته، ولا تجد غضاضة فى إثارة بعض القضايا مع الخارج برويّة وتعقُّل، بينما تسدّ كل المنافذ المُمكنة لاستعراض النقاط نفسها فى الداخل، ومع المحيط القريب.


وكأنها لا تُقيّم الأفكار فى ذاتها، بل من مُنطلق المردود والأثر، وتصنّف الجماهير إلى فسطاطين: غريب نتداول معه فى كل شىء بانفتاح، وقريب لا يُقبل منه إلا الإقرار بسرديّتنا والإذعان لها، ويُخشى عليه من النقاش لأنه قاصر العقل؛ أو لأننا لا نحتمل كُلفة البحث الجاد بما ينطوى عليه من مخاطر الخصم من وهج العاطفة.


وإذ يصحّ النظر إلى ما أثاره أبو مرزوق لجهة البراءة وغسل الأيدى، وأنه يستشعر شيئا من وخز الضمير، ويتطهَّر بشخصه أو مع دائرته السياسية؛ ولو كان المُقابل أن يُدين السنوار وقادة القسام ضمنيًّا؛ فإن ما وراء الاحتمالات يكتنز بمعانٍ أكبر. الهامشى هنا أن نقف على منصّة القضاء لنُوزّع الاتهامات، والجوهرى أن ننظر فى المقدمات التى أفضت للنتائج المُنكَرة، ونُقيّمها فى ضوء ما يُلمّح به القول ولا يُصرّح، وينُمّ عن خلل هيكلى عميق وشديد الإزعاج فى بنية الفصيل المُقاوم.


ودلالة ما قِيل باختصار؛ أن أرفع قادة الحركة فى جناحها السياسى لم يكونوا على علم بالعملية أصلاً، لا فى الموعد ولا التفاصيل، وفوجئوا بها كما فوجئ الاحتلال وعموم الإقليم. أى أنها كانت مُقامرة فردية من طرف السنوار، أو بالحدِّ الأقصى مع محمد الضيف ومروان عيسى والحلقة الضيّقة من أباطرة القسّام، ومن أى وجه لا يُمكن الزعم بأن الصيغة المشار إليها تحفل بالطابع المؤسسى، أو تنظر لحماس من الزاوية الصحيحة، باعتبارها كيانًا طبيعيا بجسد كامل، له عضلات، لكنها دون المخ ومأمورة من خلاله كما يقضى المنطق.


ومفاد الفكرة هنا، أن الفصيل المُتشكِّل من مستويات قيادية عِدّة، ليس أعلاها القسام ولا المكتب السياسى داخل غزة، انحازت لوهلة عن الأُطر الناظمة لعملها، وانحازت للجزء على حساب الكل، ولإرادة الفرد على المجموع. وهكذا يبدو الخرق مُركبًّا؛ إذ إن إقليمى الضفة الغربية والخارج استُبعدا من المداولات، ومعهما الرأس العُليا ممثّلة فى إسماعيل هنيّة وقتها.

وإلى ذلك، كان ثمّة تفريع ثانٍ؛ لأن خليل الحيّة الثانى فى الترتيب بالقطاع لم يكن ضمن حلقة القرار. أى أن الكيان اخُتزِل فى جناح من ثلاثة، ثم اختُزل الأخير فى شِقّه المسلح، وجُمِعَت الخيوط كلها فى قبضة السنوار منفردًا.


والخلل لا ينصرف فقط إلى إلغاء المؤسسية، أو الاستبداد بقرار ذى طابع وجودى شديد الخطورة؛ إنما أن «الطوفان» بهذا التصوّر صار هجوما على الجميع؛ حتى حماس نفسها. وإرادة إحداث المفاجئة لدى الصهاينة، انسحبت على شُركاء محور المُمانعة، وعلى الحاضنة القريبة من دول الاعتدال؛ لكن أخطر ما فيها أنها فاجأت الحركة، فعطّلت عقلها السياسى، وخصمت من قُدرات المعنيّين بمهام الدعاية والدبلوماسية، أولا بحرمانهم من بناء استراتيجية استباقية لإدارة التداعيات، وثانيًا والأخطر بإرباكهم واستهلاك وقتٍ طويل قبل أن يفهموا ويستوعبوا ما كان، ومع تسارع الوتيرة فإنهم ظلّوا مُتأخرين خطوةً، يسبقهم نتنياهو، ويُحاصرهم ميدان القتال شديد الاشتعال.


وإذ أضع بين الاحتمالات ألا تكون «نيويورك تايمز» دقيقةً فى نقلها؛ فإن صمت موسى أبو مرزوق عن الردّ يُعزّز موقفها ويُثبِّت ما أوردته. كان الحوار هاتفيا، والمُرجَّح أنه مُسجَّل، ولن تُغامر الصحيفة بالاجتزاء أو التحريف أو نسبة ما لم يُقَل صراحة؛ وإلا تعرّضت للتكذيب وعجزت عن البرهنة لاختلاف المكتوب عن المسموع. وعليه؛ فالراجح لدىّ أن الرجل قال ما وُضِع على لسانه، ويصمت لإيمانٍ حقيقى به أو لعجزٍ موضوعى عن إنكاره، والبديل أن تتصدّى الحركة للمسألة بدلاً عنه، أو تنتزع منه الولاية على عقله وتُؤمِّم القيا

وما يُعزّز صدقية التقرير المنشور؛ أن قائد حماس التاريخى لم يبتعد بالكامل عن سرديّة النصر. قال الرجل إن بقاء الحركة فى ميدان الحرب طوال شهور اشتعالها لا يخلو من معانى الانتصار، إنما على طريقة أن يُفلت مُلاكم مُبتدئ من لكمات مايك تايسون فى حلبة النزال، لكنه بالنظر إلى الخسائر ومردود الاشتباك غير المُتكافئ، فمن غير المقبول الحديث عن نصر حقيقى. فكأنه كان يُغازل التنظيم من طرفٍ؛ لكنه يتوخّى المنطق من الآخر، ويعرف أن دعايات هزيمة العدوّ المسلح حتى الأسنان لا تُقنع طفلاً، ولا شواهد عليها أمام أكوام الركام والأشلاء.


ولعل أكثر ما أثار الضيق من جُملة حديثه، القول إن الحركة مُستعدّة للتداول فى كل الموضوعات حتى السلاح. وإذ تعرف حماس أنه لا مستقبل لها فى إدارة غزة، ولن تعود فى القريب كما كانت منذ الانقلاب استفرادا بحُكم القطاع؛ فإنها لا تُحبّ أن تتردّد فكرة التسليم بالوقائع الداهمة على ألسنة قادتها، وتُناضل لإبقائها ملفًا مفتوحا على طاولة التفاوض، ومجالا للأخذ والرد والمُبادلة؛ طمعًا فى الخروج بأقل التكاليف، أو على الأقل ألا تُقدِّم وثيقة إدانة ذاتية لنفسها، بينما لا يتبقى لديها عمليا، وبعدما انقلب السياق بكامله ضدّها؛ إلا أن تتشبّث بروايتها لاستبقاء أى حظّ من المقبولية والتأييد فى نفوس الأتباع والداعمين.


والمشكلة أنه لم يعد معروفًا بدقّة من يُفكر للحركة، ومَن يتّخذ القرارات فيها. لقد حل «الحيّة» مع وفد قيادى فى القاهرة، وأقرّوا من جُملة أمورٍ بأنهم يقبلون الانصراف من مشهد اليوم التالى، ولا يتمسّكون بالبقاء فى إدارة القطاع أو بين تركيبة إدارته المقبلة، ثم عقّب عليهم أسامة حمدان من الدوحة بحديث مُضادّ، وظل على مزاعم أنهم انتصروا ولن يسددوا تكاليف هزيمة مُتخيّلة، وأخيرا يقف كلام موسى أبو مرزوق فى منزلة بين الموقفين، والثلاثة من العائلة السياسية، بينما القرار ما يزال حبيسًا فى أنفاق القسام، ويملك محمد السنوار أو غيره مِمَّن يحملون البنادق أن يشطبوا على مُقاربات الجميع برصاصة واحدة، لا من قبيل الافتراضات؛ بل لأنها حدثت فى السابق فعلاً مع الطوفان.


صحيح أن الانسداد الراهن يُحمَل بكامله على تل أبيب، وتحديدًا شخص النازى المسعور بنيامين نتنياهو؛ لكن الحدّ الأدنى من المُقاربات العاقلة على الجانب الآخر ليس متوافرا بعد، وأقلّه اللقاء على تصوّر واحد، والسعى إلى أجندة جامعة، والتلاقى داخل حماس أوّلاً؛ ليجوز لنا الرهان على إمكانية أن يلتقوا مع السلطة ومنظمة التحرير لاحقا. إنما فى أجواء مُعبّأة بالشكوك والتناقضات كالتى نراها؛ يصعب أن تخرج الحركة من نزاعات الحيّة وحمدان وأبو مرزوق والسنوار الصغير، إلى وفاقٍ مع أبو مازن وجبريل الرجوب وحسين الشيخ وغيرهم.


وخروجا من جدل لا طائل منه؛ فمن الطبيعى أن تكون النظرة للطوفان محل تنازُع داخل حماس نفسها. الوقائع ثقيلة وتتخطّى خيال أشد الناس تشاؤما، والحركة مجموعة بشرية غير مُحصّنة من اليأس والكَدر، والاستثناء أن يكون تقييمهم للمشهد واحدا، والأصل أن يختلفوا فى تقدير الأمور من أولها إلى مُنتهاها، وأن تضغط المأساة على أعصابهم، وتُزعج ضمائر قليلين منهم أو كثيرين، وكلها مشاعر منطقية ومقبولة؛ بل مُثمرة إن أُحسن توظيفها؛ شريطة ألا تتعامى عن الواقع جريا وراء التوهمات، ولا أن تُقمَع وتتبادل فرض الوصاية على بعضها من الداخل، لحسابات أيديولوجية أو ائتلافية، فوق إنسانية أحيانًا، وفوق وطنية غالبا.


ما تُحدثه مقاربات مثل حوار أبو مرزوق، أنها تفتح مسارًا للحركة أن تنزل إلى الأرض، أو بالأحرى تصعد إليها من بطون الخنادق، ومن أجواء الفنادق الخادعة. تُعينها على الرجوع لبشريّتها القادرة على السقوط والقيام، وعلى التماس العثرات واتخاذها رافعة للتقويم واستنهاض الهمم، والأهم أن تكون شجاعة فى الاعتراف بالخطأ، وأشجع فى احتمال المسؤولية، ومُتأهبّة لاحتمال نصيبها من اللوم، وعدم التهرّب من التزاماتها تجاه القضية والمنكوبين، ولغاية الإنقاذ وانتشال المشروع الوطنى من الوهدة التى ساقوه إليها.


تحتاج الفصائل الغزيّة فى مجموعها، والحماسيون على وجه خاص؛ إلى مُغادرة سجن الأيديولوجيا وتضحياتها المجانية؛ لا سيما عندما تتخذ طابعًا أقرب إلى الانتحار. وحتى مع حقيقة الغطرسة الصهيونية، والجزم بأنها لن تتغير مع أية مبادرة إلى الإقرار بخفّة المُغامرة، والاعتراف بما ترتّب عليها من أثقال؛ فإن الفلسطينيين أحوج من غيرهم إلى بحث المسألة من زاوية إنسانية لا تتعالى على الهشاشة والضعف؛ لأنهما مقدمة التعافى، ومن الوعى بهم تُبنى المناعة المطلوبة لعدم تكرار النكبة من مسار شبيه.


الحاجة للمُراجعة لا تتّصل بالهُدنة القائمة، ولا مُداولات الانتقال من مرحلتها الأولى إلى الثانية، بل لا علاقة مباشرة لها مع مستقبل الإدارة ومشروعات إعادة الإعمار. ما تفرضه اللحظة سيقع على عاتق الحركة شاءت أم أبَت؛ لكن فرز الأوراق واستخلاص العِبَر مطلوب كفاعلية عقلية تؤكّد الحياة، وتُجدّدها، وتُطمئن إلى أن النضال لم ينقلب إلى حالة مازوخية من استعذاب الموت والمآسى المتكررة؛ ما يعنى إمكانية أن يُستنهَض المشروع التحرُّرى ثانيةً على وعى وبصيرة، وأن يمضى على طريقه الطويلة والشاقة بذاكرة آدمية مُتجدّدة، وليس بذواكر الأسماك والفئران، ولوثة اليقين الميتافيزيقى الذى يصلح مُرتكزًا شخصيا لطلب الجنة؛ لكنه لا يُؤسِّس لعملية جادة فى طلب الأوطان.


اعترف موسى أبو مرزوق بما يراه الناس على أرض الواقع، ويعيشه الغزيون يوما بعد آخر، ويُنكر أسامة حمدان وآخرون، وتمضى الحوادث كيفما أُريد لها من جهة العدوّ، وبحسب ما فرضت قوانين القوة ووقاحة الانحياز الغربى. المُراجعة ستكون مجالاً لإبراز الضعف؛ لكنها دليل قوّة بالأساس، إذ لا معنى لإنكار الحقائق إلا العجز عن استيعابها، واستمراء السقوط فى فخاخها مرّة إثر مرّة. القضية قويّة لدرجة أنها لن تُسحَق بهزيمة مهما بدت ثقيلة، وقوّتها فى ضعفها، وتلك مفارقة لا تستوعبها التيارات الأُصولية، وعليها أن تُفسِح مجالا فى وعيها لترى الأمور على غير ما تفرضه أدبيات الاستشهاد العقائدى.


لن يتغيّر نتنياهو وبقيّة العصابة اليمينية؛ بل لن تتغيّر إسرائيل عن كونها كيانًا إلغائيًّا متوحّشًا؛ وليس فى مقدور الفصائل أن تمضى فى المواجهة من نُقطة الثبات. الصلابة هُناك يجب ألا تستدعى صلابة هنا؛ ولو كان واضحًا أن مآلها الكسر. الليونة تخدم المبادئ الراسخة أحيانا بأضعاف ما يخدمها التشدُّد، والقُدرة على التطوّر كانت عنوان القضية الفلسطينية منذ بدايتها، ويتعين ألا يتوقّف نموّها لأن فصيلاً يختزل البلاد والعباد فى رايته، ويعتبر أن انكساره يكسر مسيرة النضال، أو أنه إن غادر المشهد لن يُجدِّد الشعب أدواته ويبتكر وسائله المُناسبة للحظة وشروطها القاسية.


كانت فلسطين، وما زالت، وستظل، قبل حماس وبعدها. الخطأ قابل للإصلاح فى حالة واحدة؛ أن نراه على حقيقته، ونُقرّ به، ونكون جاهزين للاستدراك عليه. ورغم أية شكوك فى نوايا «أبو مرزوق»؛ فإن حديثه مِمَّا يصلح مُرتكزًا للانطلاق على طريق التصويب، وما الغضب منه والتشغيب عليه إلا دليل على الاعتداد بالغطرسة والإنكار، وإصرار على البقاء فى الدوّامة مع سداد كل تكاليفها، ومن دون الاستفادة من حركتها اللاهثة على الأقل فى ترشيق الجسد وتنشيط دورته الدموية.


من طوفان يحيى لحوار موسى تبدو المسألة فردية، بينما تقضى الظروف بالجماعية، والاحتماء بالراية الواحدة بدلاً من الأهواء الشخصية.. يجب أن تتفتّح كل النوافذ على المساءلة والفحص والتقويم والاعتراف الشجاع، وما لم تضطلع الفصائل بالمهمة من داخلها؛ فإن الأسئلة المؤجّلة كلها ستنفجر فى وجوهها قريبا من الجمهور القريب، وفى كل الأحوال لن يعفيها الهروب من دفع الأثمان. الخطايا الوجودية واجبة السداد، وفارق عبورها أو التعثر فيها بمقدار القدرة على الاعتراف بها، وعلى القطيعة مع الأسباب التى قادت إليها، وعلى وضع الغايات فوق الوسائل، والوطن فوق الجماعة دائمًا وأبدا.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة