عندما ذهب نظامُ الإخوان إلى اتفاقية السلام الشامل فى نيفاشا مطلع العام 2005، كان يُراهن على أنْ تتكفّل السنواتُ الفاصلة عن موعد الاستفتاء بتصفية الأزمة وإنهاء الانسداد. وقال بعضُ المحسوبين عليه إنه لن يكون هناك وجود للجبهة الشعبية لتحرير السودان أصلاً.
اغتيل رئيسُها جون قرنق بعد ستَّة أشهر فقط، واحتدم الموقفُ وتصلَّبت جبهتُه عَمَّا كانت عليه، لينتهى الأمرُ إلى انفصال الجنوب بأغلبيَّة أصوات أهله فى يناير 2011.. وما بدأ على أمل الاحتيال وكسب الوقت، آل بقصدٍ أو اعتباطٍ إلى تفتيت الدولة الواحدة، لأنَّ «البشير» وعصابته لم يكونوا على قَدر المسؤولية الوطنية.
وإذ يُستَخدَم اسمُ حزبه «المُؤتمر الوطنى» اليومَ للتصويب على ما تبقَّى من الكيانيَّة السودانية، فإنَّ صِلَةً أوثق تجمعُه بالطرف المُناوئ فى النزاع الدائر منذ قرابة السنتين. وكان الرئيسُ السابق قد اعتمد أدواتٍ غير مُؤسَّسية فى الاشتباك مع مسألة دارفور، فأسَّس ميليشيا الجنجويد، أو رعاها، لتكون رديفًا لإدارته الهَشَّة، ومدخلاً لتفكيك البيئة الاجتماعية للإقليم وإشعاله من داخله.
وما كان عصابةً من خارج القانون مُنِحَ صِفَةً رسميَّة بعدها، وأُلحِقَ بأعلى مستوياتِ القيادة التابعة للقصر مُباشرةً، وصار اسمها «قوَّات الدعم السريع»، لصاحبها ووجهها غير النظيف محمد حمدان دقلو «حميدتى»، الذى مرَّت عليه السنون وما زال يلعبُ دورَه المشبوه دون تغيير.
لا يُمكن النظر إلى «الدعم السريع» من أيَّة زاويةٍ سوى أنها ميليشيا. قلبُها الصُّلب قبائلىٌّ قح، وعناصرها من أشتاتٍ مُخلَّطة عرقيًّا بطابع الارتزاق، وقنواتها مفتوحة على زواريب فوق وطنية.
وإذا كانت ظروف الهَبَّة الشعبية قد فرضَتْ حضورَها على طاولة المرحلة الانتقاليَّة، وأجبرت الجيشَ الوطنىَّ على تقاسُم المسؤولية الظَّرفيّة معها، فإنَّ القوى السياسية أخطأت قَبلاً فى التغاضى عن وضعيتها المُلتبسة، وسيرتها المُلوَّثة، وما تزال تُكرِّرُ أخطاءها من زاويةِ رهان البعض عليها، والتحاقهم بمشروعها، بعدما أسفرَ صراحةً عن وجهه القبيح.
وأيًّا كانت المآخذُ على الفترة المُتقلِّبة بين إطاحة الإخوان ربيع العام 2019، وارتباك مسار الانتقال فى خريف 2021، بأثر الاشتباك بين المُؤسَّسة العسكرية وحكومة عبد الله حمدوك، فالواقع أنَّ الميليشيا كانت فى القلب من أجواء الانتكاسة الطارئة، ولعِبَتْ دورَ المُحرِّك المُباشر فيها، انطلاقًا من خلافها الشخصىِّ على برنامج التوحيد المُؤسَّسى وخطَّة انخراطها فى الجيش النظامى، ومن طُموحٍ بدا أنه يتضخَّم لدى «دقلو»، طمعًا فى أدوارٍ مُستقبليَّة تتجاوزُ حدودَ ما تسمحُ به التوازُنات، أو سعيًا لحراسة مكاسبه المُتحقِّقة من الأنشطة المشبوهة وتعدين الذهب بطريقةٍ غير شرعيَّة، وربما مدفوعًا بإملاءاتٍ من جهات خارجية، طمعَتْ فى مَوطئ قدمٍ ضمن المشهد الجديد، أو تركيب السلطة على وجهٍ لا يسمحُ للسودان بمُغادرة ماضيه البائس، والحال، أنَّ المواجهة التى اندلعت منتصف أبريل قبل الماضى، بدَتْ مُفاجِئةً للشعب السودانى والمُراقبين من الخارج، لكنها كانت مُرتَّبةً فى الغالب وفقَ رؤيةٍ سابقة التجهيز.
زعمَتْ الميليشيا أنَّ الجيش الوطنى ابتدأ بالرصاصة الأُولى، بينما الحقيقة أنها كانت على أهبة الاستعداد، وتحرَّكت بوتيرةٍ محسوبة ومُتصاعدة، لتُسيطِرَ فى غضون ساعاتٍ على قلب العاصمة وعددٍ من مرافقها الحيويَّة، مع خطَّة انتشارٍ شاملٍ فى عديد الأرجاء، بما لا ينسجمُ إطلاقًا مع أيَّة مزاعم بشأن نوايا المُؤسَّسة العسكرية أو تحضيراتها العَمليَّة، إذ لو استبَقَتْ ما تيسَّر للآخرين الغدر بها، وإحراز مكاسبهم المُبكِّرة بسهولةٍ مُلفتةٍ، ومُلغزة أيضًا.
والمَدخَلُ الذى لا نقاشَ فيه، أنَّ أيّة مُنازعة بين الدولة والميليشيا، يجبُ أن تكونَ محسومةً سَلفًا وبشكلٍ لا لَبْس فيه لصالح الشرعيَّة والمُؤسَّسات. ما يجعلُ كلَّ مُداولةٍ سياسيَّة بشأن الأوضاع الراهنة سفسطةً غرضها التضليل وخَلط الأوراق، وخروجًا غير حميدٍ من مجال البناء إلى الهدم. إذ لا تصحُّ المُقارنة أصلاً بين جيشٍ نظامىٍّ وعصاباتٍ من الهُمّل وشُذَّاذ الآفاق، ناهيك عَمَّا تكشَّفَ طوالَ الشهور الماضية بشأن تجاوزاتها المُنكَرَة، وجرائمها الفادحة بحقِّ الوطن والمواطنين.
والمعنى، أنها حالةٌ أمنيَّةٌ تستدعى التصفيةَ على مُرتكزاتٍ وطنيَّةٍ واضحة، ولا منطقَ لتسييسها أو سحبها لنطاق الاختلاف على الإدارة وتركيبة السُّلطة التنفيذية، لأنَّ سُلوكًا كهذا يُغطِّى حقيقةَ الأزمة بغلالةٍ رماديَّة مُضلِّلة، ويُحَرِّفُ الحقائق عن مَواضعِها، كما يُلوِّث السَّاسةَ بالدم الذى يُريقه القَتَلةُ والمُجرمون.
بالتأسيس الموضوعىِّ، كان إشهار «حميدتى» وعصابته للسلاح امتدادًا لمُمارسات الميليشيا المعروفة منذ مرحلة دارفور، الفائضة بالتقتيل والانتهاكات، وفى أبسط التصوُّرات يُعَدُّ انفصالاً لجناحٍ ذى صِفَةٍ عسكرية عن المُؤسَّسة الأم، وخروجًا على الشرعية بانقلابٍ مُسلَّحٍ ضدَّ المرافق الدَّولَتِيّة النظامية.
ومن أىِّ وجهٍ فى الوَجهَين، لا يُقبَلُ من الدَّاعِين للمَدنيَّة واستنهاض الدولة من كَبوتها أن ينحازوا للخارج على القانون، وقد يُمَرَّر حيادُهم على مَضَضٍ رغم ما فيه من انتهازيَّةٍ ومُدَارَاة، لكنَّ القَفز من جانب النظام المُعتلّ، إلى جِهَة العصابة الإجراميّة كُلّيًّا، لا يُضفِى على الأخيرة أيَّةَ مشروعيَّةٍ تُغيِّر من وَضعِها فى المجال العام، بقَدر ما يسحبُ عليهم سوءات أعمالها، ويجعلُهم شُركاء فى مشروعها الفوضوىِّ التفكيكى، وحواملَ سياسيَّةً لأجندةٍ من خارج السياسة تمامًا. كأنّه تصويبٌ على الذات برصاص العدوِّ الجوهرى، لإغاظة الغريم الظاهرىِّ المُؤقَّت، أو أنّه انتحارٌ مجَّانىٌّ لا يخلو من خِفَّةٍ ومُراهقة.
قد لا تكون إدارة مجلس السيادة للمرحلة الانتقاليَّة مِثاليَّةً، أو عند الحدِّ الأدنى المطلوب، وربّما لدى البعض مُلاحظات على شىءٍ من مُمارسات مُكوِّنِه العسكرىِّ فى مرحلةٍ سابقة. إنما ليس البديل عن هشاشة القُوى الثوريَّة أن تنقلِبَ على ثورتها، أو تنظُرَ بحساباتٍ نَفعيَّةٍ إلى الطَّرَف الأضعف بنيويًّا ونِظاميًّا فى صراع القوَّة، فتنحاز إليه على أمل أنْ تُوظِّف بنادقَه لصالح مشروعها، أو تمنحُه الجِسمَ السياسىَّ الذى يفتقدُه، فى مُقايضةٍ عشوائيَّةٍ من عِدَّة وجوه.
والوجه الأوَّل أنها تُزحزحُها من مَوضعها المدنىِّ إلى فضاءٍ ميليشياتىٍّ لا تعرفُه ولا يألفُها، وليست بينهما لغةٌ مُشتركة، ثمَّ إنها تتورَّطُ فى مهمَّةٍ وظيفيَّةٍ تبدأُ بالاستنساب وتنتهى إلى الاستتباع، وثالثًا وأخيرًا لأنها إذ تتقصَّدُ تحطيمَ ما تبقَّى من جدران الدولة، فكأنها تُغامر بالخروج بمشروعِها إلى العراء دون مُحدِّداتٍ واضحة أو معايير مُلزِمة، وتُفكِّكُ الفريقَ الواحدَ إلى فِرَقٍ شَتّى، بما لا يحصرُ المخاطرَ فى إطالة مَدَى الانتقال المأمول، بل يُهدِّدُ بالتشرذُم والانقسام على الذات، بأسرع وأقسى مِمَّا يَرِدُ على الخاطر أو يدورُ فى الأذهان.
الكلامُ هُنا عن تلفيقةِ الائتلاف السياسىِّ الميليشياتىِّ الأخيرة، بين بعض القُوى المَدنيَّة وميليشيا الدعم السريع.. وُقِّعَ الاتّفاقُ فى نيروبى، وناب عبد الرحيم دقلو فيه عن شقيقِه وعصابته العائليَّة، وحضرت بحسب الأخبار المتواترة نحو عشرين حركةٍ سياسيَّةٍ ومُسلَّحة.
والفكرةُ الكُبرى تنطلقُ من إرساء حكومةٍ ثانيةٍ فى المناطق الواقعة خارج سيطرة الجيش السودانىِّ، ووضع وثيقةٍ دستوريَّة تُحدِّدُ ملامحَ المرحلة المُقبلة، وتنصُّ على أمورٍ عِدَّة منها علمانيَّةُ الدولة، لكنها تشتملُ فى الوقت ذاته على فخاخٍ وألغام، فى البِنية والصياغة على السواء، وبمُقدِّماتٍ لا مِراءَ فيها بشأن استهداف ما هو أبعد من مُنازعة الحُكم القائم، وتأهيل المجال الوطنى المأزوم لمُقترحاتٍ من خارج فضاء الدولة، ولا تبتعدُ كثيرًا عَمَّا كان فى زمن نيفاشا للأسف.
وبعيدًا من المُراوغة والألاعيب اللغوية، وكلّ ما يُمكن أن يُسَاق من الميليشيا وحُلفائها عن الإيمان بسودانٍ واحد، والاستمساك ببناء نظامٍ دستورىٍّ مَدنىٍّ يحترمُ التعدُّدَ ولا يُوظِّفُه خصيمًا لنفسه، فإنَّ الورقةَ النهائية، وبحسب المنشور عنها، تنصُّ على حَقِّ تقرير المصير حال الخلاف على صيغة العلمانية، وتتحدَّثُ عن المجتمع بصيغة «الشعوب السودانية»، لا الشعب الواحد كما يجبُ أن يتجلَّى المفهومُ وَعيًا وقولاً ومُمارسة.
ومَكمَنُ الخطورة، أنَّ الميليشيا تبحثُ عن ستارٍ سياسىٍّ مَدنىٍّ تتوَارى خلفه، وتُؤسِّسُ من خلاله لنظامٍ بديل عن النظام، بحيث لا يعودُ الصِّراع على تصوُّرَيْن لإدارة الانتقال وعلاقة المُؤسَّسات ببعضها، بل على صُورَتَيْن مُتخاصِمَتَيْن ومُتضادّتَيْن للدولة نفسها.
وانطلاقًا من أنَّ الدُّوَل ترتكزُ لأضلاعٍ ثلاثة، إقليمٍ وشعبٍ وسُلطةٍ حاكمة، فإنَّ تقسيمَ الجغرافيا إلى اثنتين يحتملُ مزيدًا من التفريع والتفكيك لاحقًا، والشعوبُ المُشَار إليها حالما تستقرُّ على أرضٍ مُسوَّرة عِرقيًّا أو تنظيميًّا، وتنتدبُ دُولابًا إداريًّا مُستقلًّا عن غيرها، ستكتملُ لديها ملامحُ الدولة، ولو غابت شرعيَّةُ الاعتراف كما فى حال حكومة الدعم السريع اليوم.
وعليه، فإنها دعوةٌ لتقطيع أوصال السودان دون أىِّ تأويلٍ آخر، وفى الحدِّ الأدنى تُمَهِّدُ لمشروعٍ يتسلَّطُ عليه «حميدتى» وعائلته وداعموه، وحتى لو طُرِدَ غدًا أو بعدَ غَدٍ من بقيَّة مناطق سيطرته فى الأقاليم المشمولة بالحرب، سيعودُ سريعًا للاحتماء بما لديه فى دارفور، واتِّخاذه قاعدةً لتجربة تقسيمٍ جديدة.
أُثِيْرَت المسألةُ قبل أسابيع قليلة. وتداولَتْ فيها تنسيقيَّةُ القُوى المَدنيَّة الديمقراطية «تقدُّم» التى يقودُها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، وقد أفضَتْ النقاشاتُ إلى خلافاتٍ عميقةٍ، فكَّكَتْ الائتلافَ الواسع، فبَقِى رئيسُه وبعضُ التيَّارات على الحياد، وذهبت طائفةٌ منهم إلى طاولة ميليشيا الدعم السريع.
والمعنى الذى لا يُغادرُ الذِّهنَ هُنا، أنَّ الأُطروحةَ كانت بمثابة الفِتنة منذ بدايتها، وإذ تسبَّبَتْ فى تقسيم جبهةٍ سياسيَّةٍ تجمَّعَتْ على مُشتركاتٍ وطنيَّة وفِكريَّة واضحة، فالخَطرُ أعلى فى أنْ يتكرَّر أثرُها بين المُختلفين ومَنْ لا رابطَ بينهم إلَّا الانتهازية، أو المصلحة الوقتية العابرة.
اختلفَتْ الأحزابُ والمجموعات المُؤَدْلَجة رغم لُغَتِها المُشتركة، والاختلاف مُرجَّحٌ للغاية بعدما يُمزَجُ الرأىُ بالسلاح، ولا يكون فى مقدور أهلِ الكلام والنظريَّات أنْ يتَصدَّوا لغشومة الميليشيا ووصايتها عليهم، فينقسمون على ذواتِهم بالضرورة، إذ لا سبيلَ وقتَها للرجوع إلى ما كان سابقًا، ولا للاعتراف الشُّجاع بالخطأ، والاعتذار الأمين عنه، بإدانة النفس والحليف، وإسناد قلب الدولة الصُّلب، أو مُغادرة المشهد دون مُكابرةٍ أو بحثٍ عن بطولاتٍ وَهميَّةٍ وأدوارٍ مُمتدَّة الصلاحية، رغم تَوَالى النكبات.
وهُنا، ثمَّة احتمالٌ لا تصحُّ إزاحته من الصورة بالكُلّية. ألا وهو أنَّ الانقسامَ الحادثَ فى أروقة «تقدُّم» مُجرَّد مُناورةٍ مَقصودة، وسلوك مُتَّفق عليه فى سياقِ لُعبةِ تَوزيع الأدوار. والغرض بين مسارين: الاحتفاظ بمَرجعيَّةٍ مَدنيَّةٍ خارج التجاذُبات شَكلاً، بحيث يتيسَّر لها مُستقبلاً أن تتقارَبَ مع السُّلطة الشرعيّة، أو ترِثَ الطَّرَفَيْن المُتصادِمَيْن، وتُقدِّمُ بديلاً عنهما للداخل والخارج.
أمَّا الاحتمال الثانى، فأنْ يُطوِّقَ الخصومُ بورتسودان من زاويتين، بمعنى توفير منصَّةٍ فَرعيَّةٍ للتصويب على الدولة والجيش وحكومتهما القائمة من زاويةٍ مَدنيَّة، فتكونُ لتيَّار الميليشيا بندقيَّتان إزاء الغريم المُتمكِّن، إحداهما فى ميدان القتال ولُعبة التنازُع بين سُلطَتَيْن مَكَانِيَّتَين، والأخرى تعرضُ نفسَها فاصلاً مُحايدًا من مَنظورٍ قِيَمىٍّ عَقلانىٍّ، وبخطابٍ قادرٍ على الوصول إلى المَنظومة الأُمَميَّة، وحكومات العالم الناظرة للصراع من ثُقب الثُّنائيّة المُتطاحِنَة.
وما يُسَوِّغُ الشَّكَّ أنَّ تنسيقيَّة تَقَدُّم لم تَكُن بعيدةً إطلاقًا من الانحياز الواضح، وسَبَقَ أن التقَتْ قادةَ الدَّعم السريع، وكانت فى كثيرٍ من أدائها وبياناتها شديدةَ الرِّفق بالميليشيا، ومُتحامِلَةً على الجيش الوطنىِّ.
وإلى ذلك، فإنَّ قادتها، وعلى رأسهم حمدوك، لم يكونوا بَعيدِين عن تشابُكاتٍ مُثيرةٍ للارتياب فى فضاء المنطقة، وبعضهم وثيقُ الصِّلَة بعواصمَ وأنظمةٍ تحملُ أجنداتٍ غير بريئة تجاه السودان، ولطالما اختصمَتْه فى أمنِه وسلامة إقليمه الجُغرافىِّ، ودعمَتْ عصابات حميدتى سياسيًّا ولوجستيًّا، وترخِى عليها غطاءً من خلال الرابطة المُباشرة، أو بعض الفعاليَّات ذات الطابع التشارُكىِّ. وسبقَ أنْ سجَّلت حكومةُ السودان الشرعيَّة اعتراضاتها على سلوكيات «إيجاد» وبعض الدول، وأدانَتْ مواقفَ وتصريحاتٍ من مسؤولين ومُؤسَّساتٍ فى الجوار غير البعيد.
أمَّا من جِهَة مصر، فالموقفُ المَبدئىُّ لا يتعاطى مع أيَّة مُقاربة تقفز على الاعتبارات الجيوسياسيَّة، أو تتخَّطى الخرائط وتشابكُاتها الأمنية والاستراتيجية. حافظت القاهرةُ على موقفها الحيادىِّ المُعتدل منذ بداية الأزمة، وسَعَتْ لتقريب الرُّؤى، بل استضافت مؤتمر «دول جوار السودان» يوليو 2023، لبلورةِ رُؤيةٍ إقليمية تُعزِّزُ جهودَ التهدئة ولا تصبُّ الزيتَ على النار، استبقَتْه وتواترَتْ من بعده لقاءاتٌ ثنائيَّةٌ وجولاتُ حوارٍ مُوسَّعة، واحتضانٌ مُتكرِّرٌ لكلِّ التيَّارات المَدنيَّة، بجانب ما تضطلع به من أدوارٍ سياسيَّة وإنسانية تجاه البلد الشقيق وأهله.
وما تبدّلت لُغتُها الدبلوماسيَّةُ إلَّا بعدما سَعَتْ ميليشيا الدعم السريع للتشغيب وإثارة الغُبار بين البلدين، وأرادت الهروبَ من أزمتها بتصديرها للخارج، وإلقاء اللوم على دُوَل الجوار، ووقتَها كان التبدُّل فى نطاق الموضوعيَّة الصافية، ووصَفَ فصيلَ «حميدتى» بما فيه فعلاً، وهو أنه ميليشيا.
قبل يومين، التقى الوزير بدر عبد العاطى نظيرَه على يوسف الشريف فى القاهرة. ومن جُملة موضوعات آليَّة المشاورات السياسيَّة كانت تطوُّرات المشهد السودانى، ومساعى تشكيل حكومةٍ مُوازية فى مناطق الدعم السريع.
وكان الموقفُ المصرىُّ واضحًا لجهة الرفض المُطلَق لأيَّة تدخُّلاتٍ فى شؤون السودان الداخليَّة تحت أيّة ذريعة، أو استحداث أُطرٍ بخلاف الإطار القائم، وأنَّ السلامةَ الإقليمية للجارِ الجنوبىِّ بمثابة «خطٍّ أحمر» بالنسبة للقاهرة.
لم تَجِدْ ميليشيا الدعم السريع أنها فى احتياجٍ لذراعٍ سياسيَّة طوالَ الشهور الماضية. كانت تكتفى بذاتها عندما توهَّمَتْ أنها مُتقدِّمةٌ وقاب قوسين أو أدنى من ابتلاع الدولة، والوثوب على الحُكم بالأصالة من دون شَريكٍ أو رديف.
والمُستجَدُّ اليومَ أنَّ الجيش يُحقِّقُ نجاحاتٍ ميدانيَّةً ظاهرةً، ويقتربُ من إحكام سيطرته على مُثلَّث العاصمة كاملاً، بجانب تقدُّمِه فى عديد الولايات وصولاً لدارفور، بل واقتناص «القطينة» فى ولاية النيل الأبيض وفَتح الطريق إلى مدينة الأُبيّض بعد ساعاتٍ من توقيع ميثاق الحكومة المزعومة.
وعلى طريقة التاجر المُفلِس، عاد «حميدتى» ودائرتُه الضيِّقة للتفتيش فى الدفاتر، ووَقَعوا على صفحة الوِفاق المُلفَّق مع بعض القُوى المَدنيَّة، فتفتَّق خيالهم عن الذهابُ إلى الاتفاق، ليكون مَسربًا جانبيا لتعويض خسائر السلاح، وتوسيعًا لجبهة النزاع بما يُهدِّدُ البلدَ فى وجوده، وليس فى استقرار مُؤسَّساته فحسب. وبهذا، تبدو الخطوةُ تعبيرًا عن مأزقٍ حقيقىٍّ، لا إشارةَ قوَّةٍ وفاعليَّة كما يبدو منها، وهى الخيار الأخير، والقَشّةُ التى يتعلَّقُ بها الغريقُ قبل أن يبتلِعَه الماء.
على الأرجح، لن تحوز الحكومةُ المُرَادة اعترافًا دوليًّا واسعًا، هذا لو تيسَّر تشكيلُها من الأساس. أفضلُ التصوُّرات تنحصِرُ فى قَبولِها من سِتّ دُوَلٍ قريبة، أو سَبعٍ على الأكثر، وربما تنأى بعضُها أو الكلُّ حتى عن المُجاهرة بإسناد مشروعٍ تَصفَوىٍّ تقسيمىٍّ كالذى يحملُه الاتفاق المشبوه.
وإزاء هذا، فلن يصيرَ فى إمكانها أن تُخاطِبَ العالمَ، ولا أن تستدرك الميليشيا قبل اكتمال حلقات هزيمتها. وعلى العكس من مَقصودها، فقد تكون عبئًا على الدعم السريع، لأنَّ الاقتراب منها يُهدِّدُ بتشجيع النزعات الانفصالية فى بعض دول الجوار، كما أنَّ تجسيدَها سينقلُ الصراعَ إلى مدىً أشدّ إزعاجًا، والذين كانوا مُحايدين بين الطرفين طوال الشهور الماضية، سيعيدون حساباتهم فى ضوء مخاطر أن تنتصر الميليشيا، أو تظل قادرةً حتى على الذهاب بقطعةٍ من الجغرافيا، مع ما ينطوى عليه ذلك من تعميقٍ لفوضى السلاح والخروج على القانون، وتسييلٍ للخرائط فى منطقةٍ لا تحتملُ مزيدًا من الأُطر الفضفاضة وغير النظاميَّة.
إنها تجربةٌ محكومةٌ بالفشل قبل بدايتها، وسيتعزَّزُ فشلُها بالإفصاح عن المواقف التى ظلَّت مطمورةً تحت العبارات المُنمَّقة. الشارعُ يعرفُ الآن عَدوَّه من صديقه، وفرحة الناس بدخول الجيش إلى المناطق المُحرَّرة من ميليشيا الدعم السريع فيها ما يُغنى عن أىِّ استطراد.
كانت الخصومةُ مع السلاح المُنفَلِت وغير الشرعىِّ، وها قد فرزت التيَّاراتُ السياسيَّة نفسَها، وأكَّدتْ عَمليًّا أنَّ بعضَها لا يتورَّع عن انتهاج مساراتٍ حارقة لأغراضٍ شخصيَّة.
ستتصلَّبُ الجبهةُ الشعبية أكثر، ويتوالى انحسارُ العصابات وأدواتها المَدنيَّة فى الميدان والوعى العام، ولن تنتهى بها الآمالُ لاختطاف الدولة أو تجزيئها كما تتعشَّم.
الشَّرطُ الوحيد أن تكون المُؤسَّسةُ العسكرية أكثرَ جدّيةً وحسمًا واستعجالاً، وألَّا يتوانى مُلاَّكُ البلد الحقيقيِّون من عامَّة السودانيين عن نبذ الطوابير الخامسة بينهم، ثمَّ أن يستوعِبَ المجتمعُ الدولىُّ كُلفةَ المُغامرة مع إقليمٍ شاسعٍ ومُعبَّأ بالمُهدِّدات إلى آخره، وأن يكُفَّ أَيْدى اللاعبين من الخارج، ووقتَها سيكون ميثاقُ الحكومة المُوازية ميلادًا جديدًا للدولة الوطنية، وشهادةَ وفاةٍ للميليشيا، ومَنْ يُسَيِّسون التَّمَلشُنَ ويُمَلشِنون السياسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة