تجدَّدت الذكرى. بالتاريخ اكتملتْ ثلاثُ سنوات من الحرب الأوراسيَّة، وبحساب الأيام بدأت الرابعة، ولا جديد سوى أنَّ الغربَ يتعثَّر فى الغُرَف المُغلقة، بعدما كان مُتعثِّرًا فى الميدان.
لا ربحَتْ روسيا ولا هُزِمَتْ أوكرانيا صراحةً، لكنَّ أوروبا تبدو الآن فى صورة الخاسر الوحيد. أوَّلاً لأنها أوقدَتْ الشرارةَ التى أفضت لحريقٍ هائج، وثانيًّا لعجزها عن كَبح النار، وأخيرًا لأنها ستُضطرّ إلى سداد الأثمان التى تهرَّبتْ منها سابقًا، وعلى إيقاعٍ غير ما أرادت تعميمَه وفرضَه على موسكو.
ما حُسِمَت المُواجهة لأحد الفريقين بالضربة القاضية، لكنَّ العجوز المُجرِّب فلاديمير بوتين يقترب من حسمِها بفارق النقاط.
يعودُ الخلاف إلى عقودٍ مضَتْ، وتحديدًا منذ انتهاء الحرب الباردة عَمليًّا بتفكُّك الاتحاد السوفيتى، وافتراض الدائرة الغربية أنها أزاحت امبراطوريَّةَ الدِّبَبة مرَّةً وإلى الأبد.
لم يقرأ القادةُ رسائل خبرائهم فى السياسة والاستراتيجية، عن استحالة أن تتبخَّر دولة بهذا الحجم الطاغى فى الهواء. نهضَتْ روسيا من تحت الرماد، لترثَ التركةَ المُتداعية، وتُجدِّدَ عافيتَها عن وعىٍ عميق بالتاريخ والحاضر، وعبر إدارةٍ تحسَّست مواضعَ أقدامها بدقَّةٍ وأناة، يقودُها شابٌّ آتٍ من دولاب الاستخبارات، وقد اختبر أوروبا من قُربٍ لسنوات، ولم يقتنع بأنَّ زمنَ القُطبيَّة الواحدة قضاءٌ مُبرم لا رادَّ له، ولا بأنَّ قرونَ المجد الغابرة انقضت فاعليَّتها، وصارت عاجزةً عن تجديد السردية، وابتعاثها من سياق الهشاشة والانطفاء العابر.
وإذ يصعُب الانطلاق من تبرير القوَّة فى السياسة الدولية، أو تسويغ أيَّة مُغامرة حربيَّة وراء الحدود المَحميَّة بالقانون، فلا سبيلَ بالدرجة نفسها للتغاضى عَمَّا أحدثه الأطلسيون فى المجال الحيوىِّ الروسى، وما سعوا لانتزاعه بصيغة الإذعان من بلدٍ كان كبيرًا، ولم يَصغُر حتى بعد الهزيمة الناعمة فى سباقات الاقتصاد والسلاح.
وبينما يصحُّ لَوم روسيا عن الحرب، فالملامةُ كلُّها على الجانب الآخر فى المُقدِّمات، وهى لم تبدأ فى العام 2022 حسبما يُرَاد اختزال الحكاية فى أحد فصولها، بل كانت سابقةً على هذا بعقدين أو يزيد، وتحديدًا منذ طَوَّح «الناتو» ناظريه شرقًا، وأخذ يتوسَّعُ على مقربةٍ من الغريم القديم، ويزحَمُ فضاءه القريب بكلِّ ما يُوجِب الرَّيبةَ والحذر.
كان الحِلفُ فى ذاته خروجًا على مُقتضيات الشراكة خلال الحرب العالمية الثانية، وما ترتَّب عليها من تفاهُماتٍ لاحقة بشأن ترتيب الساحة الأوروبية، وتعويض ضحايا المُغامرة النازية من أُصول المُغامر المهزوم.
وبالتغاضى عن النقطة السالفة، فإنَّ الأمور سارت فى سياقٍ مُنضبط إلى حدٍّ ما حتى تَفكُّك اتحاد السوفييت، بحيث لم يَزِد العددُ على ستّ عشرة دولة بانضمام إسبانيا فى العام 1982، ومن بعدها أخذ يُزحزحُ الحدودَ، ابتداء بالتشيك وبولندا والمجر فى أواخر التسعينيات، ثمَّ إضافة سبعة أعضاء فى 2004 منها دول بحر البلطيق، وصولا للرقم 30 قبل سنتين تقريبًا من حرب أوكرانيا، وبعدها عَزَّز العضوية بالسويد وفنلندا، ما يعنى أنه تضاعَفَ فى أقلِّ من أربعة عقود، وكان النصيب الأكبر من الزيادة للحزام اللصيق مع روسيا، أو النطاقات الماسّة بأمنها القومىِّ من دون موارَبة.
التفلُّت الناعم من قيود الاحترام المُتبادَل أوقظَ المارد النائم، وأخرجَه من قُمقم تعميم النموذج الغربى على ثقافةٍ تتأبَّى بالسليقة أن تكون تابعًا، ولديها من المخزون الحضارى ما يسمحُ لها باستنهاض تجربتها الخاصة.
والحال، أنَّ «بوتين» وظَّفَ أجواء الانفتاح فى ترميم شُقوقه القديمة، وإنعاش الاقتصاد سعيًا للخروج من عِلَل الماضى القريب، ثمَّ أظهرَ قوَّتَه الكامنةَ عندما حانت الفرصة.
كانت رسالته المُبكِّرة فى جورجيا، ولم يقرأها الغربُ المزهوّ بوحدته الخادعة، ثمَّ السيطرة على شبه جزيرة القرم، وبالتزامن تضخَّمت نزاعات الدونباس مع حاضنةٍ روسيَّة قوية فى بين لحم أوكرانيا وعظامها، وطموحات لم تكُن خَفيَّةً فى كييف لجهة القفز غربًا، أو بالأحرى استدعاء الغرب ذاتِه إلى خطوط التَّمَاس.
أكثر من عشر سنواتٍ مضَتْ على اتِّضاح الأزمة الحقيقية، وما فعل الأوروبيِّون شيئًا لامتصاص لهيبها، بل عملوا باستخفافٍ أو غطرسة على النَّفخ فى الرماد، وإخراج جمره المطمور إلى تُربة مُشبّعة أصلاً بالنفط والبارود.
منذ تدخَّلت فرنسا وألمانيا فى الدائرة الرباعية على «صيغة نورماندى»، وما تلاها من بروتوكول مينسك والاتفاقيتين المُوقَّعَتَين فى إطارٍ ثلاثىٍّ مع منظمة الأمن والتعاون بأوروبا، بدت التحرُّكات أقربَ إلى محاولةٍ لتطبيع حال الشِّقاق، وإبقاء الشواغل العالقة على حالها، طمعًا فى سرقة الوقت وتعبيد المسار نحو القدر المحتوم.
باختصار، لم تُؤخَذ هواجسُ موسكو على محمل الجدّ، وكان مُضمَرًا فى نقطةٍ عميقة من وعى القارَّة العجوز أنَّ اجتذابَ جارتها الغربية فى عِداد المُمكن المُؤجَّل، وأنَّ المظلَّةَ الأمريكية كافيةٌ للاطمئنان إزاء أيَّة مخاوف أو ارتدادات غير محسوبة.
والنقطةُ الغائبة عن نظر «الناتو» هنا، أنَّ أوكرانيا ليست مثل دول البلطيق، ولا ينطبقُ عليها ما كان مع أىِّ بلدٍ آخر جذبته الدوَّامةُ الأطلسيَّة.
روابط الجغرافيا والتاريخ أعمقُ من المُقاربات الرعناء من السطح، ومخيالُ العالم الروسىِّ لا يتجاوز أنَّ الانطلاقة كانت من كييف، وفيها أُرسِيَت ركائزُ الامبراطورية قبل نحو عشرة قرون، وحتى فى الزمن السوفيتى لم تكُن طرفًا بين أطراف، بل تُشبه القلب خارج الجسد، وقد أتى منها بعضُ زعماء الاتحاد وقادته، وكانت تُفَّاحةَ المشروع الشيوعى وأحدَ معاقله الحصينة، ونزل لها خروشوف عن القرم ارتضاءً، بعد قرابة قرنين فى عصمة الروس، منذ سيطرتْ عليها كاثرين العظيمة فى القرن الثامن عشر.
ارتضى ورثةُ الامبراطورية أنْ يتفكَّك البناءُ الهائل، وتجرَّعوا كأسَ السّمِّ على شرط ألَّا يكونَ الجناحُ الغربىُّ خنجرًا فى خاصرة الدولة الأُمّ. ولا يسقُطُ من الذاكرة أصلاً أنها طُوِّعَتْ بالحديد والنار، وبعد حربِ استقلالٍ امتدَّت لأربع سنوات بعد الثورة البلشفية.
والمعنى، أنَّ أوكرانيا حُمِلَتْ كرهًا ووُلِدَتْ قسرًا، وكانت ولا تزال جرحًا تاريخيًّا لم يتوقَّف نزيفُه، ويُدْمِى وعىَ الرُّوس لا بمجدهم التليد فحسب، بل بدولتهم الحديثة التى تضيقُ بها الجغرافيا الشاسعة، ويتضخُّم فى هيكلها الدَّولتىِّ الضيق معنويًّا شعورٌ بالعظمة، ونفثةٌ من أرواح الأباطرة القُدَامى.
وعليه، فالاقتراب منها لا يصحُّ النظر إليه كأىِّ تسرُّبٍ آخر من البرِّ أو البحر، ولا افتراض أنَّ الكرملين سيكون سعيدًا بلصيقٍ أوروبىٍّ يُفكِّر بعقل الخصوم، أو يستدعيه إلى ترابٍ ينتمى للروسيّة بالأصل والثقافة، ولا فارق هنا أن يكون «بوتين» أو سواه على العرش.
والحرب التى تحبو اليومَ إلى نهايتها، ربما حدَّد الرئيسُ الروسىُّ لها ساعةَ الصفر، لكنَّ الهيئةَ الغربية بكاملها تكفَّلت بتهيئة المجال لاندلاعها، وحدَّدت نطاقَها ومدى استعارها، بل والسياق الذى يُمكن أن تخبو فيه أيضًا.
وبعيدا من أيَّة مُبالغاتٍ لفظيَّة تترى على لسان ترامب، فالنقطة الوحيدة الصادقة أنه لو كان موجودًا ما تأجَّج الميدانُ أصلا، وليس لقوَّةٍ فى شخصه أو ارتعابٍ يتسلَّط على الرُّوس إزاء فوارنه الهادر، إنما لأنه لم يكن ليدخُلَ فى مُقامرةِ انتزاع أوكرانيا من أجواء السلام البارد مع جارتها، وإسالة لُعاب السلطة فى كييف بأحلام الدخول فى الدائرة الأطلسيَّة، دون مَقدرةٍ حقيقية على كَسْر التوازنات الحَرِجَة، أو القفز على مُحدِّداتٍ نهائية لن تتعاطى معها موسكو بأيَّة درجة من الحياد، ولا باستهجانٍ ناعمٍ كما كان فى بحر البلطيق وأطراف القارة فيما وراء خريطة التاريخ.
كانت المُؤشِّرات كلُّها تنصرف إلى التحضير لعمليَّةٍ عسكرية وراء الحدود الروسيَّة. تقاريرُ الاستخبارات أكَّدت أنها وشيكة، والأقمارُ الاصطناعية رصدت الحشودَ على وضع الاستعداد، بينما ظلَّ «بايدن» على رخاوته فى التعاطى مع المشهد المُلتهب، ربما عجزًا عن ترشيد الاندفاعة الأوروبية، أو طمعًا فى أن يكون موقف «بوتين» مُجرَّدَ تهديدٍ عابر.
والمَخرجُ الوحيد وقتَها كان يتمثَّلُ فى مُبادرةٍ من الإدارة الأمريكية، لا تُطمئِنُ الروس كلامًا فحسب، بل تقطعُ آمالَ زيلينسكى فى أن يحوزَ المقعد الثالث والثلاثين على طاولة الناتو، ويُعيد المُداولات مُجدَّدًا بشأن اتفاقات مينسك، والتزاماتها التى صِيْغَت بمعونةِ أوروبا، وانتُهِكَت بالاحتيال منها أيضًا.
ولا منطق وراءَ السير فى مُغامرةٍ محفوفة بالمخاطر، إلَّا أنهم أرادوا اختبارَ حدود الرفض الروسى لآخرها، وربما استنزاف البلد الذى يتوهّمون تضَعضُعَه، على أن تتكفَّل حصيلةُ الميدان بإنجاز الترتيبات المقصودة فى فضائه، ولو كان على حساب تفسُّخ الطُّعم المُلقى له وانحلال أجزائه عن بعضها. أىْ أنهم قامَروا بأوكرانيا، وضَحَّوا بالكُلِّ فيها اكتفاءً بالجزء، ومن باب العشَم الساذج لا الثقة المُطمئنّة.
والمعنى، أنهم ربما أدركوا صعوبةَ انتزاع أوكرانيا كاملةً من مخالب الدبِّ الغاضب، فأرخَوا الحبلَ له أن يفترس ما يطالُه منها، وكانوا يتقصَّدون أن تُنهِكَه الوجبةُ الدسمة، فيفوزون بما يتبقَّى منه على المائدة.
وافتراض أىِّ شىءٍ خلافَ هذا، إنما يَنُمُّ عن قصورٍ فى النظر، أو رعونةٍ صوَّرَتْ لهم إمكانيَّةَ أن تخوض الولاياتُ المُتَّحدة حربَ إفناءٍ مع القوَّة النووية المُضارعة لها عالميًّا، أو أن تنوبَ عنهم فى استكمال لُعبة المناورة وتقطيع الوقت المفتوحةِ منذ عقدٍ كامل، وقد انصرف عنها أوباما جُزئيًّا فى ولايته الثانية، ولم يلتفِت إليها ترامب أصلاً إبَّان زيارته الأُولى للبيت الأبيض.
أمَّا الهاجس اليومَ، فإنه يبدأُ من الرئيس الأمريكى وينتهى إليه. لقد وعدَ خلال حملته الانتخابية بإنهاء الحرب فى غضون أربعٍ وعشرين ساعةً، وقبل حتى أن يُنَصَّبَ أو يجلس إلى مكتبِه البيضاوىِّ.
صحيحٌ أنَّ أربعة أشهرٍ تقريبًا مرَّت على فوزه فى السباق، ونحو خمسة أسابيع منذ ارتقاء مسند الرئاسة مُجدَّدًا، لكنه يبدو قريبًا من المهمَّة الموعودة.
تحادَثَ لأكثر من 90 دقيقة مع بوتين، وأرسل مبعوثَه الأثير ستيف ويتكوف للقائه، ثمَّ التأم وفدان رفيعا المستوى من البلدين على اجتماعِ استكشافٍ وتقريبٍ للرُّؤى فى الرياض، يُحتَمَلُ أن تتبعَه قِمَّةٌ رئاسية فى وقتٍ غير بعيد.
تقفُ أوروبا على أطرافِ أصابعها، لأنَّ مشروع الاستنزاف المفتوح لروسيا على الجبهة الأوكرانية يُوشِكُ أن يضعَ حسابَه الختامى، وبقدر ما تضرَّر الدبُّ من الحرب اقتصاديًّا وعسكريًّا، نزف الوَعلُ الأوروبى مالاً وعتادًا ومصالح، وفى الموثوقيّة والرمزية الأخلاقية أوَّلاً وأخيرًا.
انقلبَتْ اللعنةُ على صانعيها، ومن حيث سَعوا لتوظيف القتال أداةً إنهاك للغريم، أنهكَتْهم الجبهةُ السائلة بكلِّ ما فيها من شُقوقٍ وتصدُّعات. استُنزِفُوا بدل أنْ يَستنزِفوا، ويلتَمِعُ على زجاج عيونهم استعدادٌ أمريكىٌّ للقَفز عن البارجة الحربية، وليس بتسويةٍ عادلةٍ لكلِّ الأطراف، حتى لو كانت مرفوضة، بل بحلٍّ فردىٍّ يُجَنِّبُ فيه الحُلفاء التاريخيِّين، ويُفرِضُ عليهم أنْ يتحمَّلوا أعباءهم الصافية، دون انتظار مَعونةٍ أو إعالةٍ مجَّانية من الأخِّ الأكبر.
من المُفارقات، أنَّ فبراير لا يُجدِّدُ ذكرى الحرب وحدها، بل يُذَكِّرُ بما كان بعد هزيمة دُوَل المحور وانتصار الحلفاء. قبل ثمانين سنةٍ بالضبط انعقد مُؤتمر يالطا، ومُفارقةٌ أيضًا أنه كان فى شبه جزيرة القرم، جلس روزفلت قبالة ستالين، ووضعوا مقعدًا للشريك التاريخىِّ وينستون تشرشل، ليَّتفِقَ الثلاثةُ على القِسمة المُرضية لكعكة هتلر، وحدود ألمانيا الجديدة، ومُستقبل ترسيم الفضاء الأُوروبى وأُطُر العلاقات فيه.
وإذ يتكرَّر السياقُ بنكهةٍ شبيهة، فإنَّ يالطا الثانية ستكون غالبًا بمقعدين فحسب، ولا مكان للمهزوم.
والمعنى، أنَّ واشنطن تحسبُ الحليفَ الأُوروبىَّ على أوكرانيا لا عليها، وتُخرِجُ نفسَها والناتو عَمليًّا من أيّة حساباتٍ تُمليها الشراكةُ القديمة، أو يتصوَّرُ الأُوروبيِّون أنها من ثوابت الصِّلَة بين ضِفَّتَى الأطلسى.
كانت الإدارةُ الأمريكية قاسيةً للغاية مع شُركائها التاريخيِّين. تحدَّث وزيرُ الدفاع بيت هيجسيث صراحةً عن أنه لا سبيلَ لعودة أوكرانيا إلى حدودها القديمة، ولا أن تنخرِطَ فى عائلة الناتو، ولن تكون المسألة مطروحةً أصلاً لسنواتٍ مُقبلة.
نائبُ الرئيس زادَ الكَيل باتِّهام قارة التحضُّر والضمير بأنها أكبرُ تهديدٍ لنفسِها، وأنّ الخطر عليها من الداخل لا الخارج، لأنها ترتدُّ عن قِيَم الديمقراطيَّة بحصارها لليمين المتطرف، لدرجةِ أنْ يصعد رئيسُ مُؤتمر ميونيخ للأمن بعدَه باكيًا، لأن «القِيَم المُشتركة لم تَعُد مشتركة».
وحتى الرئيس ترامب نفسُه لم يُوفّرهم من اللوم الخَشِن، فقال إنَّ ماكرون وشولتس لم يفعلا شيئًا إزاء الحرب، ولا معنى لحضورهما مُداولات الخروج منها، بل لا قيمةَ لإشراك زيلينسكى نفسِه وقد صار ديكتاتورًا غير مُنتَخَب، وضيَّعَ بلدَه الذى قد لا يجده مُستقبلاً. وإلى ذلك، عليه أنْ يُسَدِّد فواتير المساعدات السابقة، ولا ينتظر دفعاتٍ إضافية.
يسعى الرجلُ لاقتناص اتِّفاقٍ يمنحُه السيطرةَ على ثروات البلد المكروب، ورغم عناد الإدارة الأوكرانية، فلن تجد مَفرًّا من التسليم قريبًا. ربما تتعدَّل الشروطُ قليلاً أو تظلّ على حالها، لكنَّ المعنى أنَّ ما كان مجَّانيًّا فى السابق لم يَعُد، وليس مسموحًا به فى اللاحق، ولو قُدِّمَتْ الأثمانُ المطلوبة فيه.
يريدُ البيت الأبيض أن يُصَفِّى تركةَ بايدن تمامًا، وآخر ما يَبقَى منها، حسب تصوُّر السيد ترامب، تدورُ فصولُه الأخيرةُ فى أوراسيا، مع اختناقاتٍ لن يطول مداها فى الشرق الأوسط، وكلاهما ينبعُ من قاعدةٍ واحدةٍ للأسف، إذ يتأسَّسُ طَرحُه لتهجير الغزِّيين واغتصاب القطاع، على مُقاربته مع موسكو بشروطٍ يراها الأُوروبيِّون خاصمةً من مصالحهم، وتصبُّ حصرًا فى حصّالة بوتين.
والاحتمال مفتوحٌ أيضًا على أنه يُبرِّر لنفسِه استباقيًّا ما يطرحُه على العالم بلُغَةٍ صادمة. فالتسويةُ المائلة لروسيا على حساب أوكرانيا فيها شىءٌ من احترام الأوزان النسبيَّة، والارتداع بمُعادلات القوَّة، لكنها تقودُ لفلسفةٍ دوليَّة مُستجَدَّة عَمَّا كان مُستقِرًّا وفقَ النظام القائم على القواعد، وفيها ما يُجيز للقادر أن يفرضَ رُؤاه على الجغرافيا، ويُسَيِّلَ الخرائط كيفما يَعِنُّ له ويتلاقى مع مصالحه.
وبالمنطق ذاته، يحقُّ له أن يطمعَ فى جزيرة جرينلاند الأطلسية من جهة الدنمارك، وأن يُغازِلَ كندا العضو فى الناتو بالأصالة لتكونَ الولايةَ الحادية والخمسين، ويتطلَّع لمشروعٍ عقارىٍّ فى غزَّة يُضيف لاستثمارات العائلة بعد رحيله عن السلطة.
الرجلُ المُغرَم بسيرة الرئيس الأمريكى الخامس والعشرين، ويليام ماكينلى، ربما لا يرى منه إلَّا حروبَه التوسُّعيّة، ويتغاضى عن مصالح الآخرين لغريمٍ لا يقدرُ عليه، استشرافًا لأنْ يُقِرّ الآخرون لاحقًا بمصالحه عندما يأخذُها غَصبًا، أو يضع القوَّةَ العاريَّةَ فى موضع السياسة والقانون.
وأوروبا إذ تخشى من جرأة روسيا بعد الخروج فائزةً من الحرب، فإنَّ مَكمَنَ الخطورة يبدو بوضوحٍ فى زاوية أخرى. الصراعات على آخرها فى منطقة الاندوباسيفيك، والصين لم تُزِلْ تايوان من قائمة ثوابتها الراسخة.
وتسويغُ الذهاب إلى ترسيم جيوسياسيّة العالم بمنطقٍ بدائى ما قبل ويستفالى، إنما يفتحُ الباب قريبًا لتسييح الدُّوَل الوطنية أمام انفلات القوى الكبرى، ومُستقبلاً لتغذية النزاعات البَينيَّة فى كوكبٍ يمور بالصراعات والهُويَّات الصاخبة، وكثير من حدوده مُرَسَّمَة بالقلم الرصاص، أو مُستقرّة بحَرَجٍ على ألواحٍ تكتونيَّة رقّاصة، ولا يمنعُها من التزَحزُح سوى صريرِ الهواء فى صَدر المنظومة الدوليَّة القائمة، وعلى المدى البعيد قد لا يكونُ فى مصلحة واشنطن نفسِها أن تُطلِقَ عليها رصاصةَ الرحمة.
لا ينشغلُ ترامب بما وراء الأُفق، يبدو أقربَ لصيَّادٍ فى مركبٍ على الشاطئ، لا رُبّان فى باخرةٍ تجوب أعلى البحار. يرى الموجةَ فى لحظةِ الانكسار لا التَّشَكُّل، ولا يعنيه أثرُ الفراشة على الجانب البعيد من المحيط، طالما أنه لن يكون موجودًا عندما تهبُّ العاصفة.
والرجلُ إذ يَصدُق فيه اتّهام النظر تحت قدميه، فليس فى الإمكان إنكار أنه ورث عُقدةً مُستعصِيَةً فى أوراسيا، ولا سبيلَ لفَكِّها إلَّا بالرجوع إلى القواعد الحاكمة لها منذ بدايتها، ومحورُها العريض أنه لا بديلَ عن ترضية روسيا، طالما أنها تستحيلُ على الكَسْر، والنتيجة الطبيعية أن تتحمَّل أوكرانيا كُلفةَ النَّزَق والمُغامرات غير المحسوبة، ولا اعتبارَ هُنا لكَونها بادرت إلى الفخِّ أم دُفِعَتْ إليه.
يخسرُ المُلاكم فى الحَلَبَة، ولو كانت العِلَّة فى توجيهات المُدرِّب. وبينما يعود الأخير بقَدرٍ من الحسرة العابرة، تبقى مع الأَوَّل مرارةُ الهزيمة وآلام أنفِه النازف.
عمّا قريبٍ سينقشعُ الغُبار، ويَنجَلى ميدانُ القتال عن اتِّفاقٍ قد لا يكون عادلاً، لكنه يُصَوِّب مسارًا لم يكن عقلانيًّا منذ البداية. ضغوطُ واشنطن ستُجبِرُ أوروبا على اختبار الطريق بمُفردها، لكنها بعد أنْ تتلمَّس مسارَ الاستقلال، وتبنى تحالُفًا أمنيًّا ذاتيًّا يعفيها من الارتهان للإرادة الأمريكية، ستكتشفُ أنها عاجزةٌ عن الخروج من مدار واشنطن، وأنَّ كلَّ ما فعلَتْه يصبُّ فقط فى اتجاه دعوة ترامب لها أن تُنفِقَ على الناتو، وأن تتحمَّل بالأصالة اليومَ ما أُلقِىَ على عاتق الولايات المُتَّحدة بالوكالة لعُقودٍ طويلة.
يربحُ «بوتين» رغم خسائره الظاهرة، لأنه حَصَّن مجالَه الحيوىَّ من الاختراق المُعَجَّل أو المُؤجَّل، وأغلق الباب لمدىً بعيد فى وجه الجِيرة الأطلسية اللصيقة من خاصرته الهَشَّة، ويربحُ «ترامب» بتضميد الجراح ووَصْل المُنقطع مع موسكو، وبالمنفعة الاقتصادية من الحُلفاء قبل الخصوم، ويخسر الأوكرانيِّون والأُوروبيِّون لأنهم دخلوا لُعبةً تفوقُ أحجامَهم وقدراتهم، وتوهَّموا أنَّ للتابع إرادةً يُمكن أنْ يُمليها على المَتبوع، أو أنَّ الأخير قد يشترى خاطرَهم بصِدامٍ يُضنيه ولا يُعزِّز مكاسبَه.
خطأ عابر قد يُكلِّفك دورانًا حول الذات لسنوات أو عقود، وعدم قراءة اللحظة فى وقتها قد تُخرِجك من الزمن، وتردُّك إلى ماضٍ تخيَّلت عَرَضًا أنه تلاشى من قائمة الاحتمالات.. إنها الحقيقةُ الأزليّةُ مُجدَّدًا، ففى صراع الأفيال أو رقصة صداقتهم، دائمًا دائمًا ما يَنسَحِقُ العُشب الأخضر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة