حازم حسين

عن موعظة بيروت وامتحان غزة.. سياق إقليمى جديد بين جنازة حاضرة وأخرى مؤجلة

الأحد، 23 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تُوشك المرحلة الأُولى من اتفاق غزة أن تنقضى، وما استبانت ملامحُ الثانية بعد. تعاون خصمان لَدودان فى إنهاء السياق القديم، وليس فى مقدور أىٍّ منهما أن يُسَيِّر الجديدَ لصالحه. طرأت مُتغيّرات عِدَّة على المشهد، لم تَعُد تسمح بإعادة إنتاج التوازنات التى كانت قائمةً، ولا بشطبها تمامًا.


تندفعُ عربةُ الإقليم على منحدرٍ وَعِر، إنما ما تزال كوابحُ القوى الوازنة قادرةً على ضبط الإيقاع، وضمان ألَّا يقع الصِّدامُ الذى لا نجاةَ بعده ولا حوار.


والورشةُ الدائرةُ اليومَ تجتهدُ لتبريد الرؤوس الحامية، وإنزال أصحابها من سماوات الخيال إلى أرض الواقع؛ وعلى قسوة الظروف وانفتاح أبواب الاحتمالات لآخرها، فالأجواء تُبشِّر بهبوطٍ قد لا يكون ناعمًا؛ لكنه لن يقلب الصورةَ رأسًا على عقب كما تَوهَّمَ البعض، أو أرادوا بانتهاجهم الحدَّ الأقصى من السخونة والتصعيد.


ومثلما جاء التأجيجُ الأكثر صخبًا على لسان ترامب، كانت التهدئة النسبية من خلاله أيضًا. إذ قال فى حوارٍ أخير مع "فوكس نيوز" إنه لن يفرضَ رُؤيتَه بشأن التهجير واستيلاء الولايات المُتَّحدة على القطاع، وسيكتفى بالتوصية بها فحسب؛ انطلاقا من مُفاجأته برَفض مصر والأردن للفكرة.


صحيح أنه لم يتراجَعْ تمامًا حتى الآن، وظل قابضًا على سَرديَّة أنه يقترحُ الخيارَ الأسلمَ والأكثر قابلية للإنفاذ وإنتاج الحلول؛ لكنَّ مقدارَ التحوير فى لُغة الخطاب وروافعه، يشى على الأقل باعتدالٍ مُتدرَّجٍ فى النظرة، يمكن أن يقود مع الوقت للانصراف تمامًا عن أُطروحة اللعب فى ديموغرافيا المنطقة، لتجنيب إسرائيل التزاماتها الضرورية إزاء التسوية وصناعة السلام.


قبلها، تحدَّث مبعوثُه للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، عن الأمر، قائلاً إنَّ خطَّةَ الرئيس لا تتقصّدُ التهجير، بل الإعمار وخَلْق بدائل إنسانيَّة للغزِّيين بعد الحرب ونكبتها الثقيلة.


والمعنى هُنا؛ أنه ينطلقُ من مُقاربةٍ يتصوَّرُها أخلاقيَّةً بشأن انتشال أهالى القطاع من مُعاناتهم، لا من طَمعٍ فى الأرض وما تشتمل عليه من ثرواتٍ وفُرَص عقارية.


وحال صدقيَّة القول؛ فإنه مُلزَمٌ بالضرورة بأن يحترم خيارات السكان؛ طالما أنهم يتمسَّكون بالوطن فى حالته القائمة، والامتناع عن تصدير الأزمة إلى الجوار أو أيَّة جغرافيا بديلة، ما يقود عَمليًّا إلى بحثِ مسائل التعافى المُبكِّر وتأهيل المجال الاجتماعى الذى يحيون فيه، بدلاً عن إزاحتهم إلى نطاقٍ آخر، بكلِّ ما فيه من جَورٍ على حقوقهم، ومن إبادةٍ وتطهير؛ ولو تلبَّسَا عباءة الإنقاذ والمُداواة.


وما يزالُ احتمالُ المُناورة قائمًا؛ إذ جاءت انعطافة ترامب بالتزامن مع لقاء الرئيس السيسى وملك الأردن بقادة دول مجلس التعاون الخليجى فى الرياض، وقبل نحو عشرة أيام من موعد القمَّة العربية الطارئة فى القاهرة.


وفى سياق استشراف لُغة البيان الختامىِّ، وما يُمكن أن تتضمَّنه من بنودٍ حادّة فى صياغتها؛ فلعلَّه يحاولُ امتصاصَ حال الغضب المُتصاعدة فى فضاء الإقليم، وإزجاء قدرٍ من الطمأنة الاستباقيَّة لاحترام الخطَّة البديلة من جانب دُوَل المنطقة، وجاهزية البيت الأبيض للتداول فيها بعيدًا من الخيارات المُتشدِّدة والافتراضات المُسبَقَة.


ورغم أنها بادرةٌ إيجابيَّة بالفعل؛ إلَّا أنه يتوجَّبُ التعاطى معها وفقَ احتمالية الشدِّ والجذب، وفكرة الترويض الدبلوماسى التى تُضمِر خلفَها أهدافًا مرحليَّةً أو بعيدة المدى.


وعليه؛ يتوجَّبُ أن تكون القمَّةُ حاسمةً فى رُؤاها ومنطوق بيانها، لجهةِ التوصُّل إلى بديلٍ عملىٍّ مُقنعٍ وقابلٍ للتطبيق، دون التخلِّى عن الرفض القاطع لأيَّة مُقترحاتٍ ماسَّة بثوابت القضية الفلسطينية، وأُصولها الراسخة بالواقع والتاريخ ومُقرّرات الشرعيَّة الدولية.


أى أن نفتح مسارًا عقلانيًّا من جهتنا، دون التغافل عن وُجوبيَّة سَدِّ المنافذ المُلفَّقة فى جدار الصراع من ناحية واشنطن وتل أبيب؛ وحتى يكون واضحًا أننا لا نتفاوض فى البديهيات المحسومة فلسطينيًّا وعربيًّا، أو نُقدِّم ورقةً مطروحةً للتعديل بالحذف أو الإضافة؛ بل نُعوّض عن الأفكار غير العمليَّة بمشروعٍ واحدٍ نهائىٍّ، وعلى الإدارة الأمريكية أن تفصل بين مُقتضيات الوساطة النزيهة، وما يتسلَّط على ذهنها من انحيازٍ ظاهر لجانب الاحتلال.


ونقطةُ التوازن هُنا تتحقَّق من خلال ربط المسارات ببعضها، بصياغةٍ جادَّة ذكية، وليس شرطًا أن تكون انفعاليَّةً صاخبة.
باختصارٍ؛ للولايات المتحدة مصالح مع المنطقة، ومن غير الطبيعىِّ أن تنتظرَ تعاطيًا باردًا مع حلولٍ حارقة، أو تضحياتٍ مجَّانيّةً لا يُقابلها احترامٌ للعلاقات البينية، والركائز الضابطة لمنظومة الإقليم أمنيًّا وجيوسياسيًّا. إذ لا يُمكن الحديث عن سلامٍ مع الحرب؛ ولو اتَّخذت صُوَرًا مُخادعةً لا تُجاهر بالنار والبارود، كما لا سبيلَ للتطبيع والتعايش وبناء غلافٍ اقتصادىٍّ هادئ، بينما تمورُ السياسةُ من تحته، أو تتصارع الإراداتُ باختلالٍ واضح.


وحالما تسقطُ الرسالةُ فى صندوق سيد البيت الأبيض؛ سيعرفُ أنَّ ما يذهبُ إليه من باب الإلغاء وشَطْب الحقوق الفلسطينية، يُنذرُ بتخليق مُنازعاتٍ أوسع وأشدّ توتُّرًا، وبوَضْع المنطقة فى مرجلٍ على نار الصدامات الاستراتيجية والهُويَّاتية، وعليه أن يعود بالظَّهْر من الطريق نفسِها، لاستدراك ما يُهدِّدُ مُستقبلاً بأضعاف ما يُزعجه فى الحاضر.
وإذا كانت الأوضاعُ القديمةُ قد اختلَّتْ تمامًا منذ الطوفان؛ فالخللُ الأكبر فى أن يُجارى اليمين الصهيونىَّ فى تصوُّره الجديد عن الشرق الأوسط.


كان نتنياهو رومانسيًّا لدرجة مُفرطة وهو يتحدَّثُ عن ترسيمٍ جديد للخرائط، مُتورِّطًا فى الخطيئة ذاتهِا التى ارتكبها محورُ المُمانَعة منذ الرصاصة الأُولى، وإلى ما تلاها من مُقامرات،ٍ أفضت لحال الانكشاف التى انعكست على الطرفين بذات الدرجة من الحِدَّة.


لقد اختزلا مجالَ الصراع بكاملِه فى ثنائيَّتِهما الأُصوليَّة، واعتبرا أنَّ الرزانة التى تحلَّت بها عواصمُ الاعتدال تعنى إقرارًا منها بالبقاء خارج المعادلة، أو بأنها غير مَعنيَّة من أيَّة زاوية بالمُواجهة الدائرة وتطوُّراتها.


والحال؛ أنَّ الطرف الثالث لم يَكُن صامتًا عن عجزٍ أو عدم انشغال بالتوازنات؛ بل من وعىٍ عميق بأنه لا فائدةَ من الصدامات الأيديولوجية المشحونة دينيًّا وعاطفيًّا، وستكون العودةُ إلى السياسة حتميَّةً فى كلِّ الأحوال؛ إذ لا سبيلَ لتصفية الجولة على حساب ما يُمثّله كلُّ طرفٍ من خيارات، ولو أُزيح هو نفسه من المشهد، وكما أنَّ إسرائيل تُمثِّل ثابتًا لن يتخلَّى عنه الغرب ولو خذلها الميدان؛ فالقضيَّةُ المُستولَى عليها من الشيعيَّة المُسلَّحة لها أصحابٌ أُصلاء، ولن تُهزَم بهزيمةِ مَنْ ادَّعوا تمثيلَها بإرادةٍ فرديَّة.


ولا إنكارَ لحقيقة أنَّ المنطقةَ تتغيَّرُ فعلاً؛ لكنه تغيُّر الرجوع إلى الحدود الطبيعية المُستقرّة، وليس الإزاحة والتحريف وبناء مُعادلاتٍ مُستجدَّة تمامًا. إذ إنَّ هزيمةَ "حماس" وتخريب القطاع لا تعنى انتقالَ المِلكيَّة إلى المُحتلّ وداعميه؛ بينما يقفُ الوَرَثةُ الحقيقيِّون على أطلال غزَّة، مُتمسِّكين بحقوقهم العادلة، وتحرسهم مواكبةٌ يَقِظَة من الحاضنة الإقليمية، ترعى أُصولَهم بضميرٍ حىٍّ، وترعى من خلالهم أمنَها القومىَّ أوّلاً وأخيرًا.


وبالمثل؛ فإنَّ انكسار حزب الله لا يُمكن أن ينصرف إلى تمدُّد إسرائيل فى جنوبى الليطانى وترث مقعده فى الضاحية الجنوبية وحارة حريك؛ بل أن تعودَ الدولةُ اللبنانية من سجن المُصادرة الذى حُبِسَت فيه طويلاً، لتتولَّى شؤونها فى سياق الشرعية والقانون، وتحت عباءة الميثاقية التى عرفتها منذ الاستقلال، وضبطت مقاديرَها فى اتفاق الطائف؛ ولو اغتُصِبَتْ قهرًا بأثر الافتئات على الكيانيَّة، واختزال العام فى الخاص، وإلحاق الأخير على مشروعٍ امبراطورىٍّ انتحَلَ قناعَ العقيدة والمذهب، وسرق القضايا والعناوين الكُبرى من مجالها الطبيعىِّ؛ ليصبغَها بأدوارٍ وظيفيَّةٍ تخدمُه ولا تخدمها.
وإذ يحشِدُ الحزبيِّون اليومَ فى بيروت لتشييع أمينهم العام التاريخىِّ حسن نصر الله، وخليفته هاشم صفىّ الدين، وقد أُلحق به فى الآخرة قبل أن يُمارس أيًّا من صلاحيات الخلافة؛ فإنَّ الجمهرةَ الهادرةَ تحملُ معنىً مُضادًّا تمامًا لما يُرَادُ منها بالأساس.


الرغبة أن يقولوا إنهم حاضرون. وإنهم لو عادوا من الميدان مكسورين؛ فلديهم فائض قوَّة يصلحُ للصَّرف فى البيئة الداخلية؛ لكنَّ الدلالةَ الأعمق أنهم يُشيِّعون مرحلةً كاملةً من عُمر التجربة، أو لعلَّها التجربة بكاملها، ويدفنون مع سماحة السيِّد وابن خالته، ما كان من الوصاية والصَّخَب التعبوىّ، وما تتعذَّر إعادةُ إنتاجه مُجدَّدًا فى ضوء المُستجدّات، وبعدما أفضَتْ الحربُ لإرباك مُعادلة الماضى، وقادت الورشةُ الدولية إلى مسار القطيعة معه، ومُقدّمات الذهاب إلى مُستقبلٍ لا يستأسِدُ فيه الجزءُ على الكلِّ.


وإذ مُنِعَ الحزبُ لنحو خمسة أشهرٍ من تكريم سيّده صاحب البأس والكاريزما؛ فكأنَّ الفاصلَ الطويل كان هامشًا لاستيعاب المُتغيّرات، وإقناع القيادة الوارثة بهشاشة التنظيم بنيويًّا، وعجزه عن الرجوع لسابق عهدِه بعدما تقطَّعت به سُبل الداخل والخارج.


والحال نفسُها تتكرَّر فى غزَّة؛ وإن بمعنىً أشدّ مرارةً وتنكيلاً بمعنويَّات الحماسيين، ولا شىء أقسى عليهم من أنَّ "قائد الطوفان" ما يزالُ مسجىً فى ثلاجة الموتى لدى العدوِّ، ولا أُفقَ لاستعادته وتكريمه بجنازةٍ لائقة.


ومهما بدا أهلُ النضال الأُصولىِّ مُتحرِّرين من سطوة الموت، وغير مشغولين بمآل الأبدان بعد الوفاة؛ فالشرخ النفسىُّ يظلُّ عميقًا لجهة العَجز عن تظهير النصر المزعوم؛ ولو من مسار اللطميَّات واستقبال التعازى، ومعرفة مثوىً يُمكن البكاء أمامه، أو مساءلته عمَّا آلت إليه تداعياتُ المُغامرة غير المحسوبة.


وحساباتُ الهزيمة جنوبًا وشمالا؛ لا تعنى اكتمالَ النصر وسقوطَه تُفَّاحةً ناضجةً فى سَلًّة نتنياهو وحكومته المُتطرّفة. صحيحٌ أنَّ حماس والحزب هُزِمَا بمنطق الحرب؛ لكنَّ القضية التى كانا يُمثِّلانها حَيَّةٌ لم تُهزَم، وانتقلت رايتُها من تيَّار عقائدىٍّ تقودُه الجمهوريةُ الإسلاميَّةُ لغاياتٍ ضَيِّقة، إلى جمهوريَّاتٍ وممالك أكثر عددًا وأمضى قوّة؛ لا بالسلاح وشهوة الذهاب إلى المجهول الغامض، بل بالقُدرة على التصدِّى للأفكار المُلفَّقة، وفَرض بدائل عنها دون إفراطٍ أو تفريط.


والإفادةُ المُوجَزة؛ أنَّ الاحتلال خرجَ من المُواجهة السهلة إلى الأصعب؛ لأنه إزاءَ تيَّارِ اعتدالٍ لم يستثمر فى الفوضى، ولا يسهُل وَصْمُه أو تأليب العالم عليه، كما لا يُمكن المرور من فوق رأسه دون تبعاتٍ صعبة، وارتداداتٍ تتجاوزُ إسرائيلَ نفسَها، إلى القوى الواقفة من خلفها، ومصالحها التكتيكية والاستراتيجية، فى إقليمٍ لا يُمكن ترسيمُه لصالح تل أبيب حصرًا، وعليها أن تختار بين الاشتباك الأبدىِّ مع الأُصوليَّة، وتغذيتها بالجنون الصهيونى المفتوح، أو الاحتكام للعقل والسياسة مع فريقٍ يُقدِّمُهما ضمن باقة الخيارات؛ لكنه قادرٌ على أىِّ بديلٍ آخر.


بدأ الاشتباك ثنائيًّا وصار ثلاثيًّا، والخصومة الآن ليست بين الأُصوليَّتين التوراتيَّة والإسلامية، إنما تنفتح على أُطروحةٍ عربية ثالثة، تُقيمُ الحجّة على الغريمين من زاويتين مُختلفتين: الاحتلال وقد وصل لسكّةٍ مسدودة بعد هياجه الإبادىِّ المسعور، والمقاومة إذ تقفُ على أطلالٍ لا سبيلَ لقيامتها مُجدَّدًا إلَّا بأن تتنحَّى مرحليًّا. وكلُّ تأخيرٍ فى الالتحاق بالمُقاربة الإنقاذية؛ إنما يُعَقِّد الأوضاعَ ويرفعُ التكاليف على الفريقين، قبل أن يعودا لاحقًا إلى الطاولة؛ لأنه لا خيارَ سواها.


وما فات؛ يُوجِبُ على بقايا المُمانَعة أن تتعلّق بأهداب الدولة الوطنية، أكان من جهة العهد الجديد مع الرئيسين جوزيف عون ونوّاف سلام فى لبنان، أمْ بالمُصالحة والتسليم لقيادة السلطة الوطنية، واستيعاب حماس أنها فى وارد ترشيد الخسائر، لا جَنى المكاسب. والأهميَّةُ لا تنبعُ هُنا من وَقف التطاحُن والإنهاك الداخلى فحسب؛ بل من تطويق اندفاعة الحكومة اليمينيَّة فى إسرائيل، وسَدّ الذرائع، وحصرها فى نطاق الاشتباك مع خيار العقل، دون إعانتها على مُواصلة الجنون.


تعمَّقَ الاحتلالُ فى لبنان تحت راية الحزب؛ وفوَّتَ مَوعِدَيْن للرحيل وما يزالُ رابضًا على خمسِ تلالٍ عالية. أدخلَه حسن نصر الله ورجاله، وثبّتوه بالاتفاق الذى أوكلوا إبرامَه لحليفهم و"أخيهم الأكبر" الرئيس برّى، وتستكشفُ الدولةُ الآنَ مسارَ الخروج من ميراث حرب الإسناد والمُشاغَلة، وتداعيات الصفقة التى لم يُستَشَر فيها رئيسُ الجمهورية، إبّان كان قائدًا للجيش. وأىُّ حديثٍ من جهة نعيم قاسم أو مُعاونيه عن تلك النقطة ليس انفصالاً عن الواقع فحسب؛ بل رداءةً كاملة فى إنكار المسؤولية أوّلاً، ثمَّ المُزايدة بها على مَنْ لم يكونوا طرفًا فى صناعتها.


ولو مَدَدْنا الخطَّ؛ فإنَّ الحماسيِّين قَصّوا شريطَ النكبة فى القطاع، ولا يعفيهم من المسؤولية أنهم أردوا طُوفانًا أصغرَ فتضخَّم منهم دون قَصدٍ، ولا أنهم راهنوا على انضباط العدو الذى لم يَعهدوه مُنضبطًا فى أيَّة مُواجهة سابقة. وسواء حسنُت النوايا أو كانت مخلوطةً من أوّلها بأغراضٍ مُلوّنة؛ فالنتيجة أنهم حفروا لأنفسهم حفرةً ابتلعت غزَّة بساكنيها، ويصعُب أن يكونوا رافعةَ الإنقاذ، وعليهم أن يُخلِوا مواقعَهم للشقيق والصديق؛ لأنَّ بقاءهم لن يُضيفَ إلَّا مزيدًا من القتل والدمار، ولا نفعَ لوجودهم بالسلاح والشعارات لو ظلّ الخرابُ عنوانًا، وخطرُ الإفناء يحومُ بلا انقطاعٍ فوق الهامات.


قدَّمَتْ الرئاسةُ الفلسطينية تصوّرًا فى اليومين الماضيين، من المُرتَقَب أن تعرضَه على القمَّة العربية الطارئة فى القاهرة. ينصُّ المُقتَرَح على ستّة بنودٍ أبرزها الإصلاح والإعمار، وأهمّها تهيئة الظروف لإجراء انتخاباتٍ عامّة بعد سنة. ومع كلِّ الملاحظات الظاهرة والخفيّة على السلطة؛ فإنَّ المدى المطلوب أقلّ مِمَّا قضاه القسّاميون فى الحرب، ويستحقُّ أن يُمنَحَ فرصةً يُمكن أن تقود لترتيب البيت، وإعادة بناء مرافق الإدارة والسياسة، وإن أخفقت فأقلّه لن يكون الإخفاقُ مشمولاً بمزيدٍ من الرَّدم والقتلى.


ومع التسليم بأنَّ الطوفان نشأ عن أسبابٍ يُسألُ فيها الاحتلال ويُدان عنها؛ فإنه كان حلقةً فى متواليةٍ أفضَتْ لِمَا تُكابدُه فلسطين اليومَ. الصهاينةُ لصوصٌ وقَتَلة كما عهدناهم؛ لكنَّ المأزق الوجودىَّ الراهنَ لا ينحصر فى أنياب العدوّ ومخالبه؛ بل فى انعدام فُرَص الضحايا فى المقاومة واتّقاء الشرور، ومبعث ذلك إنما يتأتّى من الانفراد بالقضية دون تفويضٍ عامٍ أو آليات تمثيليَّة مُعتبَرة.


والمُراد، أنَّ الانقسام الذى افتتحته حماس قبل نحو عقدين، كان الوقود الذى تدفَّق فى شرايينها مُحفّزًا على اتخاذ قراراتٍ وطنيَّة عامّة لاعتباراتٍ تنظيمية مُغلقة، وبمعزلٍ عن الشركاء جميعًا، وهو نفسه ما يُعطِّل التوصُّلَ إلى تفاهماتٍ مطلوبة على وجه الاستعجال، تزيح مُسبِّبات الاشتعال، وتعيد بناء إدارة مَدنيَّة قادرة على الاضطلاع بمهمّة الحياة والتشافى ونضالات ما بعد الكَرب.


وعليه؛ فالخروج المطلوب حاليًا يتعيّن أن يبدأ من الماضى، وأن تُسلِّمَ فيه الحركة بخطأ ما سارت إليه فى العام 2007، وتُصحِّح خطأها الآن وبأثرٍ رجعى؛ لكيلا تكون فى مرمى نار العدوِّ، وتُعينه فى الوقت ذاتِه على أن يُصوِّب على مُنظمّة التحرير، ويزيحها عن طاولة الحلِّ وترتيباته الوقتية.


وقمّة مارس المُنتظَرة؛ إنما تنطلقُ من عنوانٍ عريضٍ يرفضُ التهجير، ومع الإقرار بحجيّة ثبات الغزّيين على أرضهم، وأثر الصلابة المصرية الأردنية؛ فإنَّ الحاجة للبديل لا تقلّ أهميّة عن رفض المشروع الأمريكى، وإلقاء أجندة نتنياهو وعصابته فى سلّة المهملات.


والبديل المطلوب عنوانه أنَّ فلسطين خسرت جولةً ولم تخسر الحرب، ويُمكنها أن تنفُضَ غبارَ المعارك وتدخل طَورًا ثانيًا من الولادة الفينيقية المُتجدّدة؛ إذ لا "حماس" ولا غيرها أهمّ من الأرض والبشر، والقضية أبقى من كلِّ مَنْ يرفعون لواءها؛ صادقين كانوا أم ذوى مصالح وأغراض خاصة.


يُدفَن السيد حسن نصر الله اليوم مع كثيرٍ من مُفردات الحقبة الماضية، ولن يعود الزمن إلى الوراء ولو تنكّر الحزب للسياق الجديد. سلامة لبنان ومصالحها تبدأ من الإقرار بالوقائع، والبُعد عن مقاومة الوطن لصالح الأيديولوجيا، مثلما يتعيّن على الحماسيِّين أن يستوعبوا درس التشييع؛ ولو كان قائدهم فى ثلاجة الصهاينة ولم يعرفوا له قبرًا إلى الساعة، وقد لا يعرفوه فى أى مستقبل قريب.


أَفُلَتْ مرحلةُ الشيعيّة المُسلّحة، وأقصّى ما يُمكن أن يتبقّى منها شعاراتٌ هُناك وجروح نازفة هنا. وتصفية التركة إنما يستوجبُ من الجبهات الرديفة أن تواصل مسار القطيعة، وأن تستعين بنفسها ومحيطها على العدوّين، القريب والبعيد. استُهلِكَت القضايا العادلة فى مغامرات التديين والتطييف، وفى الاستتباع والتوظيف لحسابات فوق وطنية، والهزيمة على مرارتها لا تخلو من فُرصة للفَهم والتصويب، وهامشٍ للتعافى على بصيرةٍ سليمة؛ لا على كسرٍ وقيح.


سؤال اللحظة تصدّت له القاهرة، ومن حولها دائرة عربية قد لا تكون مُتطابقة الرؤى؛ لكنها مُجمعة على رفض التهجير. المقاومة الدبلوماسية ستُنتج أثرها فى نهاية المطاف؛ لكن العُقدة ليس فى خطر الإزاحة واقتطاع الأرض فحسب؛ بل فى تمكين البيئة الفلسطينية من اجتراح مسار مضادٍّ لكل ما تعثّرت فيه سابقًا، وقادرٍ على انتشالها من دوّامة النزيف المجّانى.


ومن دون إعادة غَزل الخيوط الوطنية فى نسيجٍ واحد، فلا معنى لوَقْف الحرب أو استمرارها؛ لأنَّ المُحصّلة واحدة. الجنازاتُ دُروسٌ وعِبَر، وفى جنازة الأمين العام السابق للحزب مَوعِظَة طاغية على أيّة دعاية أو شعارات، وزاعقة لدرجة أن تخرق أسماع الحماسيين فى أنفاقهم العميقة. وكفى بالموت واعظًا؛ للخائفين من ضمّة القبر، أو الراغبين فى فسحة الحياة.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة