منذ بداية حملة الرئيس ترامب الانتخابية وهو يتبنى خطابا عنتريا فى مواجهة الجميع، فهو مثل الفارس الذى يشهر سيفه فى السوق، ففى خطاباته الشعبوية المتكررة أثناء الحملة الانتخابية استهدف المكسيك وكندا والصين، فضلا عن استهداف فلسطين وحقوقها المشروعة بالسلب كل يوم، ثم بشكل مفاجئ استهدف الحليف التقليدى «الجد العجوز» أوروبا فى صورة الاتحاد الأوروبى، مهددا بفرض رسوم جمركية عليه، هذا بجانب طرح فكرة الاستحواذ على جزيرة جرينلاند التابعة للدنمارك، ثم أضاف ببرود إنجليزى وصفه للحرب فى أوكرانيا بأنها حرب سخيفة!! فى حين أنها تمس الأمن القومى الأوروبى التى تعتبر أوكرانيا خط الدفاع الأول عنه، وتهدد بتماسك حلف شمال الأطلسى من الأساس، كما أنه بتفريط مذل يقر فى الأروقة الداخلية للبيت الأبيض بمطالبات روسيا كاملة، من استمرار احتلال جزء مطمئن من أرض أوكرانيا، بالإضافة إلى طمس آمال أوكرانيا فى الانضمام لحلف شمال الأطلسى.. تهديدات بالجملة تطال الجميع وكأن شعار «أمريكا العظيمة مرة أخرى» لن يتحقق إلا على حساب الآخرين.
«حلفاء وأعداء» معا، فى تناقض مدهش لأدبيات السياسة و العلاقات الدولية وحفظ الولاءات!! وليس ببعيد عن الصورة حلفاء ترامب فى فريقه الرئاسى مارك زوكربيرج وإيلون ماسك، وحربهما التكنولوجية الرقمية فى مواجهة أوروبا والعالم أجمع، إذن فهناك حربان على أوروبا دشنهما ترامب، تجارية ورقمية تكنولوجية فى آن واحد، مثلما فعلت إسرائيل فى حربها ضد حماس وحزب الله وإيران، فقد شاهدنا هجمة البيجر بجانب هجمات الهاون والطائرات.
أقر ترامب فى كل خطاباته بالعجز والخلل فى الميزان التجارى بين أمريكا وأوروبا لصالح أوروبا، ما دفع ترامب لتهديد مظلة السلام التجارى بين أمريكا وأوروبا، ما قد يدفع إلى خسارة أوروبا 1 % من ناتجها المحلى الإجمالى، وتأتى فى قلب المعركة الاقتصادية الأمريكية الأوروبية صناعة السيارات الأوروبية، والتى قد تتعرض لانهيار إذا صمم ترامب على رفع الجمارك عليها إلى 20 % كم يزعم، وأن ترامب ماض للعبث بأوروبا وأمنها الاقتصادى بفرض الرسوم، وأمنها القومى بالتفاوض مع روسيا منفردة لتقرير مصير أوكرانيا، ومن ثم صمام أمان القارة العجوز ووضعها عارية أمام بوتين كل يوم.
وفى عالم افتراضى يتحكم فى العالم الواقعى تشكو أوروبا أيضا من تدخل منصة إكس لإيلون ماسك، ومنصة ميتا لزوكربيرج، ومن ثم الفيس بوك وغيرها من المنصات الأمريكية الصنع من تأثيرها فى الانتخابات الأوروبية جميعا، وإشاعة خطاب التضليل الانتخابى كما تزعم دوائر عديدة فى أوروبا!! ما قد يدفع المفوضية الأوروبية لسن قانون جديد لمواجهة هجوم الشركات الرقمية الأمريكية، وتشجيع التحول لشبكات التواصل الاجتماعى الأوروبية البديلة، وخاصة بعدما تدخل إيلون ماسك لصالح حزب ألمانى متطرف لدعم زعيمة الحزب لمنصب المستشارة الألمانية، ما اعتبرته أوروبا جرحا للكرامة الوطنية واستقلالية الانتخابات من التدخلات الدولية.
كل هذه الجراح الأوروبية تتزامن مع الجراح العربية أيضا، من المساندة الظالمة لترامب لإسرائيل دونما النظر للحقوق التاريخية للشعب الفلسطينى، والدفع للتهجير القسرى لأهالى غزة بصفتها التركيبة الجغرافية «الموحدة الأكبر» داخل الاحتلال الإسرائيلى، كما أنها الكتلة السكانية الأعظم داخل الشعب الفلسطينى التى تقطن أرض بلا جيتوهات وجيوب استيطانية إسرائيلية، فضلا عن نوايا حثيثة أمريكية لمساندة الرغبة الإسرائيلية فى تصفية القضية الفلسطينية، وتغيير خريطة الشرق الأوسط بالكامل سواء بقضم الحدود مثلما حدث فى سوريا، أو بإزاحة جماعات المقاومة للداخل كما حدث مع حزب الله فى لبنان، أو المساعدة عن طريق صفقات «أمريكية روسية تركية» فى تغيير سياسى محفوف بالمخاطر فى سوريا وغير مطمئن، وتهديد الأمن القومى المصرى بالعبث على تخوم الحدود الشرقية فى قطاع غزة وتغيير الواقع الديموغرافى الذى بنيت عليه اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، فضلا عن خلخلة الهلال الشيعى المقاوم عن طريق قصف إيران مباشرة، وقطع خط الإمداد عن حزب الله فى لبنان بإزالة نظام بشار الأسد الذى تحالف مع حزب الله، وكون خط إمداده الحقيقى عن طريق أرضه ومطاراته مع الجانب الإيرانى، كل هذا التغيير العنيف طال الشرق الأوسط وما زالت آثاره وارتداداته وربما تطوراته مستمرة.
فى ظل كل هذه الموجات تتحرك الإدارة المصرية فى كل ربوع العالم العربى والغربى لحشد التأييد والمساندة للحق الفلسطينى، حيث تأتى زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى إسبانيا فى وقت دقيق جدا من عمر الهجمة الشرسة على الشرق الأوسط، وفى القلب منه القضية الفلسطينية، والجدير بالذكر أن سانشيز رئيس وزراء إسبانيا، تعهد فى خطاب تنصيبه للعمل مع أوروبا على الاعتراف بدولة فلسطين أو حتى الاعتراف بها منفردة، وفى مايو 2024 الماضى فعلا اعترفت كل من إسبانيا وأيرلندا والنرويج بدولة فلسطين فى مشهد تاريخى.
لذلك تأتى زيارة السيسى إلى إسبانيا لحشد المؤيدين للحق الفلسطينى، للوقوف ضد رغبة أمريكا فى تهجير الغزاويين لبدء خطة خبيثة لابتلاع الأراضى الفلسطينية، والتى أقرتها الاتفاقات الدولية، وفى سياق متصل إذابة أهالى الضفة الغربية فى الداخل الإسرائيلى، ويأتى ذلك كله فى إطار خطة لوقف النمو السكانى الفلسطينى عن طريق التخلص من كتلة كبيرة من السكان بالإزاحة للحدود المجاورة كمصر والأردن كنموذج أولى للتهجير، وهو ما ترفضه بإصرار الدولتان وكل الأمة العربية.
إن لقاء الرئيس السيسى وملك إسبانيا، وعرض الخطة المصرية التى تتناول إعادة إعمار غزة دون إجبار الفلسطينيين على مغادرتها، وتوفير «منطقة آمنة» داخل غزة للمواطنين حتى يتم الإعمار وحشد تأييد قادة إسبانيا على هذا الاقتراح يعد اصطفافا مضادا للتوجه الأمريكى، ويستغل أيضا الاستهداف الأمريكى لأوروبا، والذى يقوم به ترامب كل يوم عن طريق حربه التجارية مع أوروبا، ما يخلق بيئة مواتية أمام الموقف الأمريكى الظالم، خاصة أن إسبانيا تتبنى موقف الحق وتتسق مع قرارات مجلس الأمن، والأمم المتحدة التى تدعم القضية الفلسطينية.
إن ترفيع العلاقات مع إسبانيا للشراكة الاستراتيجية، وهى من أكبر الدول الأوروبية الداعمة للقضية الفلسطينية يعد نصرا مرحليا فى إطار الحشد الأوروبى للوقوف خلف القضية، وأيضا لمقاومة التغول الترامبى على الجميع، ثم إن دراسة العديد من البدائل مع الشريك الإسبانى والأوروبى تعد أمرا بالغ الأهمية، وخاصة قبل عقد القمة العربيه المزمع عقدها، وتأتى كملف من أهم ملفات الدعم لقرارات الأمة العربية وطرحها البديل والمخالف لطرح إسرائيل وترامب عن التهجير كذريعة للإعمار، ولقد خبر قديما أهل فلسطين أن «الهجرة لا تقابلها عودة»، وهم الذين يطالبون بحق العودة للاجئين الفلسطينيين منذ عدة عقود.
إن خطوات القيادة المصرية وإصرارها المشرف والوطنى على عدم التهجير ورفض تصفية القضية الفلسطينية، وعدم المساس بالأمن القومى المصرى، يدعو للفخر وسيذكره تاريخ الأمة العربية بكل شرف وعزة، وتلك المحاولات الدولية والجولات لنصرة الحق الفلسطينى لن تذهب سدى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة