حسين حمودة

أفلام الكوميديا المميتة

الخميس، 20 فبراير 2025 08:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

صاغ المسرحي العظيم بيتر بروك تصوره حول "المسرح المميت" وميّز بينه وبين اتجاهات أخرى في المسيرة المسرحية: المسرح المقدس، والمسرح الخشن، والمسرح المباشر، وقام بتحليل خصائص كل اتجاه من هذه الاتجاهات في كتابه (المساحة الفارغة) الذي ترجمه إلى العربية الناقد الراحل فاروق عبد القادر من بين ما ترجمه من كتب أخرى مهمة لبيتر بروك.

والمسرح المميت، في تصور بروك، هو مسرح ردىء، لكنه "خدّاع ومراوغ"، يستطيع أن "يجد طريقه الميت إلى الأوبرات الكبيرة والتراجيديات"، وأن يجد استجابة له فى دائرة أو دوائر من الجمهور.. والموت في هذا المسرح "يرجع بنا دائما إلى التكرار"؛ إذ "يستخدم صياغات قديمة ومناهج قديمة ونكات قديمة ومؤثرات قديمة، وبدايات محفوظة ونهايات محفوظة لها".. وقد تقصى بروك هذا الموت متنوع الأبعاد على مستويات عدة، تشمل الممثل والمخرج وأيضا الجمهور، حيث تشارك هذه الأطراف الثلاثة في صياغة معالم ذلك الاتجاه، وفي تلقيه أيضا، ويمكن لكل منا أن يستعيد مسرحية أو أكثر من المسرحيات التي لم تعجبنا، ليكتشف، بوضوح، أنها تنتمي إلى هذا التوصيف.

ربما نستطيع أن نجد موازيا لهذا التصور المرتبط بمجال المسرح في مجال إبداعي آخر هو السينما، حيث نلاحظ حضور هذه المعالم المرتبطة بالمسرح المميت في عدد من الأفلام، بل ربما نستطيع أن نجد هذه المعالم في الأفلام الكوميدية نفسها، أو الأفلام المحسوبة على الكوميديا.

هناك أفلام يتم التعامل معها باعتبارها أفلاما "كوميدية"، يقوم بها ممثلون يصنفون على أنهم من أهل الكوميديا، وبعض هذه الأفلام "لها جمهورها".. لكن هذه الأفلام، مع ذلك كله، تجترّ أساليب وتقاليد تجعلها غير بعيدة عن الطابع المميت في المسرح، تبعا لتصور بروك.. وعلى سبيل التمثيل، يمكن ملاحظة عدد ليس قليلا من الأفلام التي قامت على استجداء الضحك عن طريق استخدام وسائل لا تستطيع أن تصل بأغلب مشاهديها إلى "الضحك من القلب".. ومن هذه الوسائل ضرب الوجوه بـ"التورتة"، أو صفع الممثل الرئيسي (النجم) للممثل المساعد، أو استخدام قدرة "الكوميديان" على الكلام بصوت مفتعل، أو تلعيب الحاجبين، أو الشفتين، إلى أعلى وأسفل وإلى اليمين واليسار.. إلخ.. وقد تحولت هذه الوسائل إلى ما يشبه "الوصفات المجرّبة" التي يتم استخدامها وإعادة استخدامها دون تفكير. ووجدت مثل هذه الأفلام، في بعض الفترات، استجابة من بعض قطاعات الجمهور.. ولكن هذه الاستجابة تتحقق غالبا مع مشاهدة تلك الأفلام للمرة الأولى، إذ هي أفلام لا تبقى في الذاكرة طويلا، ولا تصل أبدا إلى الأرواح وتمكث بها.. كلها تلتمس محاولات ابتعاث الضحكات العابرة خلال أداءات غليظة، وكلها تستند إلى آليات التكرار، وكلها تتسم بنوع من السطحية وبقدر من "الخداع" .. وهي في هذا كله ليست بعيدة عن التقاليد نفسها التي قادت إلى المسرح المميت..

ما أبعد هذه الأفلام عن الكوميديا الحقيقية، التي تقدم شيئا أبعد من مجرد "التهريج"، والتي تنهل من منابع الحياة، وتستكشف الضحك في المواقف الإنسانية التي تجمع بين شخصيات مكتملة التكوين.. والتي نجدها، مثلا، إذا فكرنا في الأفلام المصرية، مع أفلام أخرجها فطين عبد الوهاب، مثل فيلم "إشاعة حب" أو "آه من حواء"، أو أخرجها نيازي مصطفى، مثل فيلم "البحث عن فضيحة"، أو في الأفلام التي قام فيها نجيب الريحاني بالأدوار الأساسية، وأخرجها مخرجون متعددون.. وكل هذه الأفلام، وما يصل إلى مستواها، غير قابلة للتقادم أبدا.. يمكن للمشاهد أن يشاهدها خلال فترات متباعدة عدة مرات، ويشعر مع كل مرة بنفس المتعة.. هي باختصار، أفلام تنتمي إلى كوميديا حيّة، متجددة، قادرة على البقاء، وبعيدة عن الأساليب المكرورة المميتة.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة