حازم حسين

فلسطين وترامب ومكر التاريخ.. رؤية مصرية لإنقاذ الإقليم من الخفة والتذاكى والجنون

الأحد، 02 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فُتحت الخزائن وأُخَرجت الأوراق القديمة من أضابيرها. لا جديد فى حديث تفريغ فلسطين من أهلها، وإعادة ترسيم الخريطة الديموغرافية للمنطقة بما يصبّ حصرا فى صالح إسرائيل.

ربما الاختلاف الوحيد أنها كانت تُساق دومًا من زاوية عُنصرية لا تُخفى وجهها القبيح، بينما يُراد لها اليوم أن تتَّخذ صفة إنسانية، ويستميت الساحر فى إقناع العالم بأن ما يُخرجه من القبّعة حمائم لا أفاعى.

ينظر الرئيس ترامب من ثقب إبرة، لا يرى حقائق الواقع على الوجه السليم، كما لا يعرف شيئًا عن التاريخ من الأساس.
ومُشكلة الإدارة الأمريكية فى ولايته الثانية، أنها تفترض الجهل فى العالم كما فى البيت الأبيض، وتفتنها ألاعيب الحواة واستعراضات القوّة؛ فكأنها لا ترى بديلاً عن تعاطى الأمور بغطرسة فجّة، وعن اعتماد الجنون سبيلاً لتمرير الخيارات الحارقة.

كان الرجل فى فاصله السياسى المُبكّر نموذجًا للذهاب إلى أقاصى المقاربات. طرح ما أسماه "خطة القرن" مع صهره المُنحَّى حاليًا عن المشهد، واستبدل بسلام السياسة عنوانا اقتصاديا، ومسارًا مُلفّقًا منحه اسم "الاتفاقات الإبراهيمية". أمضى سنواته الأربع بين وفاق وشقاق، وترك الإقليم والعالم أسوأ كثيرًا مِمَّا كانا عليه سابقا.

فى آسيا استعرَتْ الحربُ التجارية مع الصين. تعاظم التوتُّر مع إيران، وعادت الأُصوليّة المُتوحّشة لحُكم أفغانستان بعد صفقته مع طالبان فى الدوحة.
التقى كيم جونج أون ثلاث مرّات؛ فتقدّم المشروع النووى لكوريا الشمالية، وتأخّرت المنطقة على مقياس الاستقرار. وما تحفّزت روسيا لتقويض مشروع الناتو فى أوكرانيا؛ إلَّا بأثر إدارته السيّئة وتغليبه للذاتى على الموضوعى فى علاقات واشنطن بموسكو، وإبقائه قِدر أوراسيا على نارٍ حامية.

أمَّا المجال العربى فقد طبعَ عليه بصمةً ثقيلة، كانت من دون شَكٍّ واحدةً من بواعث إثارة الفوضى فيما تلا رحيله عن المكتب البيضاوى.

اعترافه بضم الجولان، وبالقدس عاصمة للدولة اليهودية، بجانب فتح الأبواب للاستيطان وأطماع قَضْم الضفة الغربية؛ تضافرت مع غيرها لتُورِث الفلسطينيين شعورًا بالمرارة واليأس، وتدفع السياسيين منهم إلى ركُن مُظلم، وتُوقظ فى المقاتلين رغبةَ الذهاب لعملٍ يُغيّر التوازنات؛ ولو انطوى على مُغامرة أو نزعة انتحارية ظاهرة.

وعلى ما سلف؛ فإن السيد دونالد كان سببًا مباشرًا وراء إطلاق "طوفان الأقصى". صحيح أنه لم يكن فى السلطة وقتها؛ لكنه كان فى طريقه إلى العودة. ومن الطبيعى أن تُضاء المصابيح الحمراء، ويستشعر الفاعليون فى الداخل الفلسطينى أنهم على لائحة الضحايا، وليس من الحصافة أن يتسلّم الجمهورى الصاخب مَلفَّهم من النقطة التى تركه عليها؛ بمعنى أن عليهم إرباك المُعادلة وتغيير التوازُنات.

ليَكُن الإقرار بالخطأ، أو بأنهم دُفِعوا من جانب الجمهورية الإسلامية لغرضٍ فى نفوس الملالى، وعلى إيقاع حركة "محور المُمانَعة" الذى يُزعجه رجوع غريمه القديم أضعافَ ما يُزعج الآخرين.

فى كل الأحوال؛ كان الرجل قاسمًا مُشتركًا فى إحماء براكين الأُصولية: انزعجت الشيعيّةُ المُسلّحة فطيَّرت شررَها، واطمأنَّت النازيّةُ الصهيونية فعمَّمَتْه على أنحاء حقل القشّ والبارود.

ومع الإقرار بأنَّ الرئيس المُنتخَب لعب دورًا فعَّالاً، ولعلَّه الأبرز، وراء التوصُّل لصفقةِ تهدئةٍ فى قطاع غزة؛ فإنه فى واقع الأمر كان يستدرِكُ على نفسِه، ويُصَوِّب جانبًا من أخطائه العابرة للإدارات، واضعًا فاصلةً صغيرةً فى آخر الجولة. اندلع الطوفان فى خريف العام قبل الماضى؛ لكنَّ جمرته كانت مطمورةً تحت رماد سنوات ترامب الأُولى، وتأجَّجت مُجدَّدًا مع ترشُّحه لولايةٍ ثانية.

لو كان الرجلُ مُخلصًا فى مُقاربته لاتِّفاق وقف إطلاق النار؛ لقُلنا إنه يعتذِرُ عمَّا جناه على القضية والإقليم. إنما الحقيقة أنه أراد أنْ يَعبُر مراسمَ التنصيب بنجاحٍ شكلانىٍّ يُعمِّد دعاياته عن ذاته المُتضخّمة، بوصفه رجلاً للحلول والصفقات المُثمرة.

وفى العُمق؛ لا يعنيه سِلْمٌ أو استقرار؛ إلَّا بقدر ما يَصُبُّ فى رصيد الولايات المتّحدة على صِفَتِها الجديدة: شركة هادفة للربح، عارية من القِيَم، مُتَبجّحة فى المواقف، مُنفَلِتة من عقال الرُشد والانضباط، وساقطة على أىِّ معيارٍ أخلاقى.

أفرطَ الأمريكيون طويلاً فى سرديّة "المدينة فوق الجبل"، زاعمين لأنفسهم سَبقًا فى التحضُّر والإنسانية، وولايةً على ضمير العالم من أدناه إلى أقصاه.
لديهم تاريخٌ غير نظيف؛ إنما سَعَوا جاهدين إلى تجاوزه، واهتمّوا أغلبَ الوقت بتغطية أهدافهم بدعاياتٍ نبيلة، كانوا يخترقونها أحيانًا، كما فى فيتنام والعراق مثلاً؛ لكنهم حافظوا على الحدّ الأدنى من الحياء؛ فلم يستعرضوا البُقَع السوداء فى رايتهم المُرصّعة بالنجوم، ناهيك عن الفخر بها كما يفعل مَلِكُهم الجديد حاليًا.
التغيُّر الذى يُحدِثُه نبىُّ العظمة الأمريكيّة اليومَ، أنه يتعامل مع الوسائل والغايات بطريقةٍ واحدةٍ مُبتذَلَة، ولا ينشغل بادِّعاء نزاهة القصد، ولا بتجميل الطريق إليه. كما لو أنه لا يُقدِّمُ وجهًا جديدًا للديانة القُطبيَّة فى عالمٍ تتداعَى ركائزُه؛ بل يخترعُ مُعتَقَدًا لا مركزَ فيه سواه، والسماء قبل الأرض، والأعداء مع الحلفاء، عليهم أن يَطوفوا حولَه جميعًا بالرضا أو الجَبر.

أربعُ مرَّاتٍ تحدَّث فيها ترامب عن التهجير خلال أسبوعٍ واحد. كانت الأُولى فى صيغة اقتراحٍ، وتلقَّى عليها رفضًا حاسمًا من مصر والأردن، ثمَّ باقة من عواصم العالم الكُبرى. أمَّا الثلاث الباقيات فقد بدَتْ أقربَ إلى الموقف المُقرَّر سَلَفًا، بمعزلٍ عن طبيعة الصراع وبحث المداخل المنطقيَّة لتسويته مع أطرافه المُباشِرين.

مبعوثُه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، قال لوسائل إعلام عبريَّة، أو نُقِلَ عنه، ما يقطَعُ بأنَّ رسائلَ رئيسه ليست "زلَّة لسان" عابرةً؛ إنما تنبعُ من خُطَّة سابقة التجهيز، وجرى تداولُها فى أروقة الإدارة الجديدة، ومع الشركاء من اليمين الصهيونىِّ فى تل أبيب.

بالتزامُن، كان مبعوثُه لشؤون الأسرى، آدم بوهلر، يقولُ من خلال النافذة الإسرائيليَّة نفسها إنَّ ما طرحَه الرئيسُ مُجرَّد تصوُّرٍ يعتَقِدُ أنه مُلائم للحَلّ، وعلى القاهرة وعَمَّان طالما يرفضانه، أنْ يُقدِّما بديلاً مُناسبًا عنه، وصالحًا للإجراء.

رسائلُ مُتضاربة من نبعٍ واحد. ربما تُعبِّر عن سلوك ترامب المُعتاد فى المراوغة والاحتيال؛ لكنها قد تَنُمُّ أيضًا عن أنه يتعَثَّرُ فى فهمِه للأزمة الفلسطينية، وتطوُّراتها على مدار سبعةِ عقود، ويضغَطُ على الأعصاب العارية لاستكشاف المسارات، بأكثر من كَونِه جاهزًا فعلاً للمُخاطرة بأجندةٍ سَبَقَتْ تجربتُها، ولا يُعرَفُ مداها بالنظر إلى إقليمٍ مُلتهبٍ دومًا، وجاهزٍ للانفجار طوال الوقت.

لا يَعرِفُ رجلُ الأعمال، المُنتشى بالعودة من على أعتاب السجن، ما يريدُه فعلاً. لديه فائضُ قوّةٍ أَمَّنَتْه له الانتخاباتُ السهلة، ويسعى لصَرفِه فى أرجاء الأرض، ويضرِبُ فى كلِّ الاتجاهات دفعةً واحدة؛ كأنّه يُفرِط فى الرِّهان على كلِّ الاحتمالات، طمعًا فى تعظيم فُرَص الرِّبح من بعضها، أو ترشيد الخسائر كُلَّما أخفقَ فى واحدةٍ.

سنواتُه الأربعُ لا تتَّسعُ إطلاقًا لابتلاع كندا وجرينلاند وبعض أُصول أمريكا الوسطى، أكان فى بَنَما أو غيرها. يَقضمُ أكثرَ مِمَّا يستطيع هضمه؛ لأنه يتطلَّعُ لتأمين وجبةٍ كافية لولايته الأخيرة، وإزاء طمع "البيزنس مان"؛ فخبرتُه المؤكَّدة مع السوق أنَّ الصفقات آمالٌ مُعلَّقة، وكلّما اكتملَتْ واحدةٌ تتبدَّد غيرها، وليس فى وِسْع صيَّادٍ مهما كان ماهرًا، أن يقتنِصَ الطرائدَ كُلَّها برصاصةٍ يتيمة.

استطرادُه الكثيف بشأن خطَّة الهندسة الديموغرافية الجديدة لقطاع غزَّة، ربما تُعبِّر عن إصراره العميق على تتويج نفسِه سيِّدًا للصفقات الحاسمة، لكن لا يُمكن استبعاد أنّه لَجَجٌ واستدراجٌ تحكمُه الشعبويَّة والمُصادفة. وبقَدرِ الخطأ فى التساهُل مع كلِّ ما يتلفَّظ به؛ فقد يُخطئ من يَظُنّ أنَّ لدى الرجل وظيفةً للكلام سوى الكلام.

لقد أطلقَ مقذوفَه على الطائرة لأوَّل مرَّة، وأخذَتْه الحماسةُ مع اهتمام العالم. لا حاجةَ لديه لتكرار الرسالة؛ سواء كان مُصِرًّا عليها أو يعتبرُها بالونَ اختبار، وأغلبُ الظَّنِّ أنَّ الصحفيين الذين يُواكبون أنشطتَه اليوميَّة رَأوا فيها فُرصةً للطَّرْق على حديدِه الساخن، وتكثيف الدخان فى سماء أيَّامه الأُولى. لن يتوقَّفوا عن السؤال، ولن يَمَلَّ من الإجابة؛ والعِبرةُ بما ستمضى إليه الأوضاعُ على الأرض.

إنه شخصٌ مُنتفخٌ للغاية، مَفتونٌ بالذات، ويتغذّى على الاهتمام وإثارة الجدل. ومن تلك الزاوية؛ فربما يكون صيدًا سهلاً لليمين فى إسرائيل، وللإعلام أيضًا، وبالدرجة نفسِها يُمكن تقويض طُموحاته الصاخبة؛ حال التوصّل إلى المفاتيح المُلائمة على مسطرته النفسية، والعزف عليها بالنغمات التى يفهمها. شىء من إشباع الغرور حِينًا، ومن المنافع المُسَيِّلة للُّعَاب أحيانًا، وكثافة مُقابلة فى تعلية الأسوار والتأكيد على الخطوط الحمراء.

والحال؛ أنَّ المراكز المالية فى المنطقة عليها النظر مُجدَّدًا فى طبيعة العلاقة، وإعادة جَدولة حِزمة الهدايا المجّانية الكثيفة، ورَبطها بمُحدِّداتٍ اقتصادية وجيوسياسيَّة واضحة، ومعرفة أنَّ الخوفَ المشروع يجبُ ألَّا يُفضِى إلى التسليم المُسبَق من دون مقاومةٍ، وأنَّ الحاجةَ مُتبادَلةٌ وليست فى اتِّجاهٍ واحد، ولدى الإقليم ما تصحُّ مُقايضته دون انتكاساتٍ وجودية، كما لديه ما يكفى من إثارة انزعاجه ووَضْع العصىّ فى دواليب مشروعه المُنفَلِت، وغير المًؤسَّس على حساباتٍ موضوعية عاقلة.

تتقدَّمُ إسرائيلُ على لائحة اهتمامه قَطعًا؛ لكنها ليست أهمَّ لديه من الولايات المُتَّحدة، ولا من نفسِه قبلهما. لا يُحبُّ ترامب أحدًا سوى ترامب، وكلُّ ما يفعلُه أو يُهدِّد به؛ إنما يمضى إليه غرامًا وإخلاصًا لهذا الشخص دون غيره.

دولارٌ واحد من مَسرَبٍ جانبىٍّ قد يُغيِّرُ زاويةَ نظره، وحصاةٌ واحدة على الطريق قد تَرُدّه عنها؛ وكلاهما كفيلٌ بإحداث فارقٍ حقيقىٍّ حال استخدامهما معًا، وبحكمةٍ جادّةٍ وتَوازُنٍ دقيق.

المنطقُ غير مُرَحّب به على مكتب سيّد البيت الأبيض؛ جهلاً بآلياته أو افتتانًا بصورة الكاوبوى، وربما لأنه يسلبُه أعزَّ ما لديه ولا يملك غيره، وهو أن يكون صاخبًا، وصادمًا، وسيرتُه على كل لسانٍ بين الأحباب والكارهين؛ لكننا بجانب حقِّنا فى الردِّ بكل السُّبل المُمكنة، يتعيَّنُ ألَّا نُسايِرَه فى الجنون، ولا أن نفقد إيماننا بالضمير والاحتكام إلى العقل.

أُطروحتُه مرفوضةٌ دونَ نقاش، والبديل الذى تساءل عنه أحدُ رجاله ثابتٌ بالتاريخ والواقع. ثمّة دولةٌ فلسطينيّةٌ ضائعةٌ بين مخالب النازيِّين الصهاينة؛ لكنها منصوصٌ عليها فى قرار التقسيم، المُنشِئ لشرعيَّة إسرائيل نفسها، وفى كلِّ ما تلاه من مُقارباتٍ أُمَميّة على طريقِ الصراع الطويل.

بالقانون؛ علينا العودة إلى الشرعيّة الدولية وسوابق المُقرَّرات منذ النكبة حتى أوسلو. تثبيت الفلسطينيين على أرضهم خيارٌ وحيدٌ ولا بديل عنه، وطريقُه الإلزاميَّةُ تبدأُ من لَجْم الوحشيّة الإسرائيلية، وإحباط مُخطَّطِها الإحلالىِّ، وتسريع وتيرة الإعمار؛ بحيث تتجدَّد حياةُ الغزّيِّين فى مناطقهم، ومن دون حاجةٍ لإجلاءٍ مُؤقَّت أو طويل المدى.

الجنونُ الترامبىُّ يَسهُل الردُّ عليه بجنونٍ مُقابل، وبالدعوة إلى إزاحة الصهاينة من جُغرافيا لا يعرفونها ولا تألفُهم، واحتضانهم فى الولايات المُتَّحدة؛ طالما أنها تُريدُ تسوية الصراع أو خدمة ذيولِها من شُذّاذ الآفاق. وإذ يبدو القولُ بهذا فَجًّا على مقياس الضيوف العِبريِّين ورُعاتهم الغربيِّين؛ فإنَّ الاستحالة التى سيُقابلون بها اقتراحًا من تلك النوعيّة، يجبُ ألَّا يتوقّعوا غيرَها على الجانب المُقابل؛ وبينهما كل الاحتمالات واردة، وبما يفوق خيالهم، وأسوأ ما يرِدُ على خاطرهم النَّزِق.

والمسألةُ بالأساس تعودُ إلى الحقِّ والعدل؛ لكنها لا تنفصِلُ كذلك عن الإمكانية والتناسُب واجتناب السيناريوهات المًظلِمَة. بمعنى أنَّ أيّة دعوة لتفريغ فلسطين من أهلها؛ إنما تُعيِدُ تكييفَ المُنازَعة على وجهٍ آخر؛ لكنها لا تحسمُها ولا تُنهيها على الإطلاق، وبدلاً من فَضِّ الاشتباك بين الفلسطينيين والدولة الصهيونية المُلفّقة؛ فإنها تُوسِّعُ قوسَ الخصومة ومدى اشتعالها، وتُبشِّرُ بالارتداد إلى ما قبل وادى عربة وكامب ديفيد، أىْ إلى بادئ الأزمة بصُورتها الأَوّلية شديدة السيولة والاحتدام.

كان المشهدُ فى زمن الانتداب بين بلدٍ مأهولٍ وعصاباتٍ وافدة، وما تغيَّر فى حرب الـ1948 وما بعدها، ولا تبدّلت العقيدةُ الإقليميَّةُ حتى بعد الهزيمة فى يونيو 1967. التغيُّر جرى لاحقًا عندما اقتنعت إسرائيلُ باحتياجها، أو بالأحرى اضطرارها، لأن تكون بلدًا طبيعيًّا، وأن تضع قدمَها على أوَّل السكَّة نحو الاحتكام للجغرافيا، واحترام التاريخ. ومن هُنا استوعبَتْ هزيمتَها فى أكتوبر 1973، وخرجت من شراهتها الاستعمارية، أو حيَّدَتْها على صعيد الجبهة المصرية.
والتطلُّع غربًا اليومَ، لا يختلف عَمَّا كان قبل نحو ستّة عقود. ربما لا يكون فى مَقدورِها أن تطمع فى سيناء مُجدَّدًا؛ لكنَّ مُحاولةَ تمرير الكُتلة الفلسطينية الصُلبة إلى مصر والأردن، مُقدّمةٌ للتدَحرُج وراءها لاحقًا وفقَ أجندةِ توسُّعها، بالظاهر منها أو المُضمَر. ولكى تكون الصورة واضحةً؛ فإنَّ المصريِّين لا يُقدّرون الفكرة إلَّا من ناحية أنها تُسَاقُ على سبيل التجرّؤ والتلويح بالصدام.

باختصار؛ لدى القاهرة رابطةٌ وثيقةٌ مع القضية، وفى قلبها مُتَّسَعٌ لأهل فلسطين جميعًا؛ إنما على أرضهم التى لا شريكَ لهم فيها، وبالاحتضان والمُؤازرة لا بالاستضافة وإعانة عدوّهم على سَلْبِ حقوقهم وتصفية مُمتلكاتهم، وتلك صفوة القَول التى يتوجَّب ألَّا تغيب عن الأذهان.

السيِّد ترامب لا يستوعِبُ هذا؛ لأنه لا يختزِنُ فى وعيه الردىء من سيرة بلاده إلَّا أنها كيانٌ مُلفَّق، بُنِيَتْ حظائرُه من جماجم السكَّان الأصليِّين وعظامهم، ويتعيَّش على هَضْم العقول والثروات، واستنزاف مُجتمعات العالم لتجديد شباب الإمبراطورية الكُولاجية المُتعثّرة بين الذاكرة الامبريالية المنتقلة إليها بالجينات، والدعايات الأخلاقيّة التى لا تتساند بشىء سوى البلطجة.

الولايات المُتَّحدة بلدٌ عملاق من دون شَكًّ؛ إنما لا حقَّ له فى إمضاء سِكّين جبروته على رقاب الآخرين، ولا أنْ يتجرّأ على الحقِّ والقانون لنوازع تخصُّ حساباته الداخلية، ولا تنسجِمُ حتى مع مصالحه الاستراتيجية فى ميزانها السليم، والأهمّ أنه لا مُبرِّرَ لتصدير أزماته للخارج، ولا لتعويض إخفاقات نظامه السياسىِّ باستمراء التجريب الساذج مع قضايا ذات طابعٍ وجودىٍّ لدى أصحابها، ولا تقبَلُ المُقارَبة بمنطقِ أَهوَن الضررين، ولا المُواءمة مع عناوين دونها الرقاب.

الإنسانيَّةُ التى يُغلِّف بها ترامب دعواه الآن، لا يَصِحُّ أن تبدأ إلَّا من عُمق الحاضنة الفلسطينية، وفى ضوء تفضيلات المنكوبين وإرادتهم الخالصة. وأهلُ غَزّة مُتمسِّكون بالقطاع خَرِبًا كما هو، ولا رغبةَ لديهم فى أن يستبدلوا به ولو بُستانًا من الجنّة. وعليه؛ فالإشاحة عن تلك الحقيقة لا تعنى إلَّا أنَّ واشنطن تنطلقُ من نزعةٍ عُدوانيَّة لا أخلاقية، وتتقاسَمُ فاتورةَ الإبادة والتطهير مع نَازِيِّى تل أبيب، ولو تطلّعنا لنسخةٍ عصرية من "هتلر"؛ فلن تكون أكثر من نصفِ وجه الجمهورىِّ الهائج، ونصفٍ من السفاح الوضيع نتنياهو.

لنَكُن صُرحاء، تقفُ مصر بمُفرَدِها تقريبًا فى مُواجهة العاصفة؛ وهذا ليس الوضع الأمثل وما تستقيم به الأمور. صحيحٌ أنَّ الأردن هَدفٌ مُباشر لتصويب ترامب؛ لكنَّ افتتاحيّة المُخطَّط تنصرف إلى غزّة، وهى بعيدةٌ عن المَملَكة وعلى تماسٍّ لصيق مع سيناء. أمَّا الحاضنةُ العربية فيُستَشّعر من بعضِ فاعليها حيادٌ رَمادىٌّ غريب؛ كما لو أنَّ المسألة لا تعنيهم، أو أنهم يُفوِّتون فى جانبٍ؛ لاتّقاء جنون الكاوبوى الأمريكى من الآخر.

استضافت القاهرةُ أمسِ اجتماعًا عربيًّا بدعوةٍ مصرية. اتَّفق الجميع على رَفض التهجير، وأنه لا بديل عن حلّ الدولتين، وإطلاق عمليّةٍ شاملة لإعادة إعمار غزّة فى أقرب الآجال. لا طَعنَ فى النوايا على الإطلاق؛ إنما لا يُعَوَّل على الأقوال من دون فِعلٍ صريح.

يتعيَّنُ على العرب جميعًا الوفاء بالالتزامات القوميّة والأخلاقيّة المُعلّقة فى أعناقهم؛ لا لأنه حَقُّ الأُخوّة والضمير فحسب؛ إنما لأنَّ ما يُساق فى فلسطين مُقَدِّمةٌ لِمَا سيُعَمَّم على الجميع لاحقًا.

لا نجاةَ لأحدٍ من دون أخيه، ومصرُ قادرةٌ على حراسة أرضها، وعلى الاضطلاع بواجبها إزاء قضيّة العرب المَركزيَّة كما كانت قلبَها الصُّلبَ دائمًا، وفى طليعة المُدافعين عنها والمُسدِّدين لفواتيرِها الكاملة دون مِنَّةٍ أو إبطاء. لكنَّ الإقليم بكاملِه فى احتياجٍ مَاسٍّ للوعى بواقع الحال، وبالمُلمِّات الثقيلة الدافقة من فَم العجوز ترامب، وعلى هوى ضبع الليكود وعصابته.

فارقٌ عظيمٌ بين الشراكة والاستتباع، وبين الندّية والسَّوْق إلى مَشروعٍ تنعقدُ عِصمتُه لتلّ أبيب. لن يُنجَزَ التهجير؛ لأنه مُضادٌّ لحقائق الجغرافيا والتاريخ، ومُجافٍ لكلِّ الثوابت والأُصول الراسخة من قبل اختراع إسرائيل نفسها؛ لكنَّ التسرُّب من أجواء الغبار إلى ابتلاع أطراف الإقليم، وقصقصة أجنحته، ما يزالُ مَيسورًا، ويجرى إليه البعضُ دون وَعىٍ أو رويَّة.

وإذ يجهلُ سيّد البيت الأبيض هذا؛ فلا حِجّة لأهل البيت العربى ولا عُذرَ عن الجهل. سيفشلُ مشروع الشَّطْب على فلسطين حتمًا؛ إنما السؤال كُلّه عن الكُلفة والزمن.
يُمكنُ أن تتَضَامَّ الجهود للتعجيل بتثبيت الوقائع وترويض الترامبيّة الهائجة. ويُمكن؛ بحُسنِ نِيّةٍ أو سوء طَويّة، أن يلعب البعضُ دورَ "الخنجر فى الخاصرة".
إنه امتحانُ القيمة والزمن؛ وعلى العاقلين أنْ يَتَرَوّوا فى اختيار مقاعِدِهم، وألَّا يُفرّطوا فى فُرصة الاستقامةِ وطنيًّا وضميريًّا، ولا أنْ يُفرِطوا فى التحلُّل من ثِقَل الجُغرافيا والديموغرافيا، ولا فى التذاكى وهم يتقافزون بين فِخاخ الواقع ومَكر التاريخ.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة