فى الوقت الذى كان فيه الكتاب المصريون مشغولون بتوطين الفن الروائى على النسق التقليدى فى مصر، كان الغرب قد اجتاحته رياح تغيير عصفت بهذا النسق بعد أن وُلد ما يسمى بالرواية الأمريكية الجديدة (1920ـ 1930)، ويعترف د. محمد برادة في كتابه: الرواية العربية ورهان التجديد، بأن تحديد المقصود من مصطلح الرواية الجديدة "ليس سهلا"، "لأن عناصر التجدد والإبداع لا تخضع لعامل التعاقب الزمنى... كما يصعب تجديد الجدة من حيث التنسيب والإطلاق، ومن حيث المقاييس المحلية والمقاييس الكونية"، لكنه لم يتخلَ عن المحاولة، فاقترب منها بتحديده لها كرواية قائمة على توصيف وتوظيف عناصر شكلية ودلالية استخدمت قبلا ولكن ليس بطريقتها البارزة وسياقها المختلف، هذه الطريقة البارزة وهذا السياق المختلف يكسبان نفس هذه العناصر دلالة وتحققا مختلفين، تبدو معهما جديدة، فبعد نكسة عام 1967 انشقت الرواية العربية عن الخطاب السائد واللغة المتخشبة والأيديولوجيا المضللة للوعى، فاعتنت بالتجدد والتجديد والتجريب، فتشظى الشكل وجاءت الكتابة فى "صوغها الأدنى" بلغة مقتصدة تتجنب الإسهاب فى الوصف، وتستخدم التلميح والصمت، كما تهجنت اللغة باللهجات المحلية ولغة التراث والشعر والاستبطان إلى جانب الوصف والسرد، وانتقدت المحرمات (الجنس والدين والسياسة)، ولجأت لتذويت الكتابة، بمعنى "ربط النص بالحياة والتجربة الشخصيتين".
هذه النظرة ليست بعيدة عما قرره عبد الملك مرتاض في كتابه "فى نظرية الرواية"، فهو يرى أن الرواية الجديدة مثلت نقلة تنظيرية للفن الروائى، فقد ألغت التراتب الزمنى للسرد، وغيّرت من طرائق تقديم المكان، وأعفت العمل من القيود البلاغية المملة، كما رفضت اللغة المباشرة أو السهلة، مستقدمة لغة أخرى لا تمنح مدلولاتها بسهولة، وعاف الروائى الجديد اقتصار العمل على ضمير واحد خاصة إذا كان الضمير الثالث (الرؤية من الخلف)، وسخر من محاولة إيهام القارئ بواقعية المحتوى الذى بين يديه، ووجود الشخصية المحكى عنها. وقد كشفت الرواية الجديدة عن التقنيّات السينمائية الحديثة، الأمر الذى مكّن السرد من تلمس صورة أكثر حيادية وموضوعية، ولو شكليًا على الأقل. وكان الفضل فى ذلك يعود لهؤلاء الروائيين الذين أُطلق عليهم اسم "الجيل الضائع" ومنهم: جون دوس باسوس، وجيرترد ستاين، وأرنست هيمينجواى)، وغيرهم، وإذن فقد كانت الرواية الجديدة ثورة على التقاليد الفنية الكلاسيكية المتبعة.
مرتاض أشار أيضا إلى أن إرهاصات هذا التجديد قد ظهرت قبلا على أيدى أمثال: أندرى جيد (1869ـ 1951)، الذى تأبّى أن يكون للشخصية جذور (تاريخ، ونسب، وملابس وملامح خاصة)، لرفضه اعتمادها عمودًا فقريًا للعمل، وأيدته على ذلك فيرجينيا وولف (1882ـ 1942)، وفرانز كافاكا (1882ـ 1924)، وقد طبق الأخير هذا الاتجاه بشكل مفرط، حرم معه الشخصية من كل شىء حتى التسمية، فأعطاها بدلا منه حرفًا أو رقمًا، كما أدخل للرواية تقنية المناجاة، ليتبعه جيمس جويس (1882ـ 1941)، بتقنية تيار الوعى، فمارسيل بروست (1871ـ 1922)، الذى حوّل الرواية عن نظرية المحاكاة الشهيرة التى تجعل العمل السردى صورة فنية للحياة، وبالتالى أصبح موروث "بالزاك" فى مثل "الأب جوريو" و"فولبير" فى مثل "مدام بوفارى"، و"فيودور دستفسكى" فى مثل "الإخوة كارامازوف"، وبالمثل أعمال "نجيب محفوظ"، أعمالا تجاوزها الزمن.
كلام مرتاض أكثر تحديدا لكنه أيضا أكثر تطرفا بإنكاره استخدام تقنيات "الجدة" فى الرواية الكلاسيكية، ومن ثمّ فمحمد برادة أقرب إلى الموضوعية العلمية، باعترافه أن العناصر الشكلية والدلالية التى ميزت الرواية الجديدة استُخدمت قبلا ولكن ليس بطريقتها وسياقها، فنجيب محفوظ استخدم تيار الوعى، والتنقلات الزمنية استرجاعا واستباقا والإيقاع السردى بتقنياته المختلفة من ثغرة ووقفة وتلخيص ومشهد.. إلخ
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة