لن تعود من المتاهة؛ ما لم تعرف الطريق التى أوصلتك إليها. واستنزاف الوقت والطاقة فى تجربة السكك الخاطئة؛ إنما يُعسر المهمة، ويهدد بالضياع الكامل.
وإزاء الرؤية التى تبدو واضحة فى أذهان الصهاينة، ما تزال الرؤوس ساخنة فى جانب الممانعة، حتى أن فائض الحرارة يرخى ستارًا من بخار الماء على زجاج عيونهم.
والمأساة ليست فى أنهم يضيعون الخرائط فحسب، بل يعملون بخفة مزرية فى مواجهة الساعين لإنقاذهم والبلاد المنكوبة بهم، ويقاومون كل المحاولات الجادة لانتشال الجبهات المفتوحة من معاركها الساخنة.
العدو سيئ قطعا؛ لكن الأسوأ منه أن ينافسه الخصوم فى الرداءة، وأن يعينوه على أنفسهم والآخرين.
لم يبد حتى ساعة كتابة المقال أن الأمور تتعدّل فى جنوب لبنان، وعلى الأرجح لن يكتمل انسحاب إسرائيل بحسب الموعد المُمدَّد اليوم. دخل العدو إلى جنوبى الليطانى بعد ربع قرن من مُغادرته، والذين يُتاجرون بالتحرير كانوا السبب وراء الاحتلال.
لم يكن الذهاب إلى حرب «الإسناد والمُشاغلة» موفقا من أى وجه. ولا فارق بين أن يكون انفعالا عاطفيا، أو بإملاء من الجمهورية الإسلامية، أو حرّكه الضمير والأيديولوجيا؛ فالمحصّلة أن السيد نصر الله ورّط لبنان، وما أنقذ غزّة.
والحال؛ أن اتفاق وقف الأعمال العدائية قبل نحو ثلاثة أشهر؛ إنما بُنى على تطورات ميدانية لم تكن فى صالح حزب الله، وليس فى مقدوره اليوم أن يستعرض عضلاته أو يتشدّد فى الشروط، وكل ما يلفظ به لن يُغيّر التوازنات، بقدر ما يُلقى أعباء مُضاعفة على الدولة، ويُرخى مزيدًا من الذرائع للمُحتلّ.
أُدير الميدان بمعزل عن بيروت؛ ثم أُلقيت تبعاته على الرؤوس فى بعبدا والسراى الحكومى. وبينما يُقاوم الحزبيون أيّة مُساءلة تُحمّلهم المسؤولية عن الحقبة الماضية؛ فإنهم لا يستنكفون أن يُصوّبوا على الرئيسين جوزيف عون ونوّاف سلام، بينما لم يكونا حاضرين فى قرار الحرب، ولا شريكين فى اتفاق التهدئة.
من باب الوقاحة الخالصة، ولا توصيف آخر، أن يخرج الأمين العام الجديد الشيخ نعيم قاسم فى خطاب مُتلفز، ليُدين تدبير إجراءات أمنية بشأن حركة الملاحة فى مطار العاصمة، أو أن ينتقد سلوك الجيش مع الخارجين على القانون، ثم يُدين الإدارة التنفيذية الوليدة بالمسؤولية عمَّا آلت إليه الأحوال، بل وبالتفريط فى السيادة الوطنية.
والحال؛ أن الضاحية الجنوبية تُتاخم بيروت ظاهرًا؛ لكنها تُقيم بالقلب والوعى فى أحضان طهران، والحزب ليس إلا لواء فى الحرس الثورى الإيرانى، وكل ما يُمكن أن يُساق عن السيادة للمُكايدة والتشغيب، أسقطته العمائم السوداء والعقول الأشدّ سوادا فى حارة حريك منذ زمن بعيد.
واتّصالا بلضم الخرائط ببعضها، كيفما أرادتها الشيعية المُسلّحة نظريًّا، وفعّلها ائتلاف الليكود وحلفائه التوراتيين فى تل أبيب بالممارسة العملية؛ فإن السياق الغزّى لا يختلف كثيرًا عن حال الحزب فى عدم استيعاب التطورات؛ ثم التمرّد عليها، فالسعى إلى تكبيد الآخرين حصيلة ما جنته على حواضن الميليشيات أوّلا، وعلى عموم الإقليم من بعدها.
أحدث السنوار تحوّلاً عميقا فى مشهديّة الصراع داخل فلسطين، وأعاد تحريك ما كان هامدًا، وتقليب ما بدا أنه مُستقرّ ومُتراتب الطبقات منذ الأزل. انشغل بالرصاصة الأولى ولم تشغله مُجريات الحرب، وعناه أن ينطلق القطار ولو لم يصل إلى محطة آمنة.
دارت الأيام على حماس والبيئة الغزيّة بكاملها، وما عاد القطاع سجنًا مثلما عاش آخر عقدين تقريبًا من عُمره؛ بل صار مقبرة مُخرّبة بما يُزعج الموتى قبل الأحياء. وفوق هذا مُهدَّدة بنبش القبور وتغريب المنكوبين، ولا معنى على الإطلاق لأيّة لُغةٍ ذات رنينٍ معدنىٍّ؛ اللهم إلَّا أنها تسعى لتغطية الإخفاق بآخر يفوقه فى الحجم والأثر.
يُشرف نتنياهو على الجنوب اللبنانى من خمسة تلال عالية، أدخله الممانعون إليه فى لحظة أورجازم نضالى فاضت فيها المشاعر على القوة الفعلية، ولا حق له اليوم بأن يسعى لاستنساخ الوصفة التى أفضت للمحنة الماثلة، ولا باختصام حكومة الإنقاذ والإصلاح بما جنت يداه على الجميع.
تعبت الخرائط ممن يتحدثون باسمها دون وعى بواقعها وتوازناته البائسة، بينما يقبض عليها الصهاينة ويذخّرونها بين عدّتهم الحربية، فتتفلت من أصابع أصحابها برخاوة وافتتان بالبأس المزعوم، ويوظفها اللصوص سلاحا فى وجه الديموغرافيا، وسبيلا لمزيد من القضم والاستقطاع؛ أكان بالسلب المباشر، أم بإعادة ترسيمها بما يكبح المقاومة ضد العدو، ويسعرها فى مواجهة الصديق.
وإذ يعود الحزب مثلا من الجبهة بأنف دام وأطراف مبتورة؛ فإنه لا يتواضع أمام الدولة على نيّة أن تداويه وتستدرك جنايته عليها؛ بل يرفع راية الفخر بما لا يستأهل الفخار، ويحول الهزيمة نصرا، وينتظر أن يجنى العوائد عن استثمار خاسر بكل الحسابات، والعقدة هنا ليست فى ادعاء ما لا ظل له من الواقع فحسب؛ بل فى أنه يُبدد الطاقة ويشق الصفوف، ويشوه معانى الربح والخسارة فى العيون، بما يهدد بأن يعتاد الناس الهزائم راضين، أو يضلوا طريقهم مستقبلا إلى النصر المأمول.
ومن النسيج نفسه يغزل الحماسيون سرديتهم المضللة، فيتجاسر أسامة حمدان مثلا على القول بفجاجة خطابية بائسة إنهم انتصروا ولن يسددوا تكاليف الهزيمة؛ بينما المطروح على الطاولة يتنازعه خياران لا ثالث لهما: التهجير مشمولا بتصفية القضية، أو الإعمار عاريا من حضور الحركة، وبينما يبدو الاختيار محسوما بالعقل؛ فإن الامتناع عن ترجيح ما لا بديل عنه؛ إنما يصب بالضرورة فى الجانب المضاد، ليس بالإقرار قطعا؛ إنما بتوسيع طريق العدو وتضييق الخناق على الشقيق والصديق.
وفيما يتوهم نعيم قاسم أنه قادر على وراثة مقعد سلفه الراحل، وإعادة إنتاج النسخة المشوّهة من الطائف بكل ما أُضيف إليها لاحقا، فى أزمنة الهيمنة والاغتيالات وتبديل الوصاية من دمشق إلى طهران، فإنه يتجاهل حقيقة أنه صار شوكة فى عين لبنان، وخاصرة هشة يمكن إيلام الدولة كلها بالضغط عليها، ولا تستقيم النوازع الوطنية بحراسة الأعراف القديمة، أو بتغليب الميليشياتى على الدولتى، وقد تأكد أنه لا يمكن مداواة المجموع إلا بتضحية من الفرد؛ ناهيك عن أن المحنة كانت اختيارية أصلا، ولم تُفرض عليه من الداخل أو الخارج.
وبالمنطق ذاته، لا يمكن التوقف طويلا أمام الجدلية الحماسية فيما لا يحتمل الجدل. والقصد أنه لو كان الخيار بين القطاع والحركة؛ فعليهم أن يُبرهنوا عمليا على أن السلاح يعمل لخدمة القضية لا العكس، وأن الغايات تتقدم على الوسائل كما تقضى المقاربات العاقلة. أى أن ينسجم الفعل منهم مع القول، لناحية الوفاء باستحقاقات الدعاية التى تزعم أنهم ما خرجوا إلا لفلسطين، وهو ما يلزمهم فى كل الأحوال بألا يخرجوا عليها، ولو كان المقابل أن يخرجوا من مشهدها الراهن.
والنزاع هنا ليس بين المقاومة والمهادنة كما يزعمون؛ بل بين تصوّرات عدة مسلك تحررى واحد، تُغتنَم فيه الفرص فى ضوء ما تبشر به من مكاسب، وتُجتنب كلما انطوت على مخاطر ماسّة بالمسألة فى بُعدها الوجودى. وانطلاقا من أن القضية سابقة على حماس، فإنها لن تزول بزوالها شكلا، كما لن تتوقف البيئة المنذورة لصراع أبدى لن يُحسم بالضربة القاضية، عن التكيف وتكييف عناصر قوتها، وعن إعادة إنتاج الفعاليات النضالية فى متوالية لا تنقطع، وعلى صور ديناميكية شتّى، تستوعب المتاح كشرط للنفاذ إلى الممكن أو المأمول.
وإذ تميل الجغرافيا على الميزان لصالح طرف ضد آخر؛ فلا يتبقى إلا الاعتصام بعدالة الوعى، وطاقة السرديات القادرة على لجم الانفلات الكاسح من جهة الجناة، ورد الضحايا عن الانحراف كلما بدا أنه يمس أصولا حيوية لا يستقيم القتال من دونها. وفلسطين ليست قضية إسلامية من أى وجه، ولا من أدوار الأصولية فيها أن تغذى نسختها الضد فى الجانب الآخر، وأن تستجلب مواجهة توراتية تُستدعى لها ذخيرة الحروب الصليبية كما كانت قبل عشرة قرون، ويُختزل المسار إلى حالة صدام إفنائى، ليس فى وسعنا أن نربحه بحالنا الراهنة، ولا حتى أن نفلت من تداعياته الكاسرة.
وصفوة القول؛ أن على التيارات الراديكالية أن تتحرر من الميثولوجيات الضاغطة على أعصابها، وأن تغادر بساتين الماضى الزاهرة لتنزل على أرض الواقع القاحلة. عليهم أن يتواضعوا للأوطان اختيارا، مثلما يستجيبون للتواضع الاضطرارى أمام الغزاة الجبارين.. والصورة ليس دوما بالأبيض والأسود فحسب، ولا منازلة بين الحق والباطل على صفة تجريدية مبسطة؛ إذ المساحة لا نهائية فيما يخص اللون الرمادى، وللأباطيل والحقائق صور شتّى، لا تنتهى وجوبا إلى علامات الساعة أو إلى الانتحار المجانى.
ربما يخبئ المستقبل ما يُطرب المظاليم ويردع الظالمين؛ لكننا مطالبون بالاحتكام إلى ما نراه، وسياسته من أيسر السبل وأقلها معاناة؛ لنمنح الفرصة أصلا للوصول إلى ذاك المستقبل الغامض. واحتمال أن تنتصر المقاومة فى أى غد بعيد؛ إنما يبدأ بأن تعرف اليوم أنها هُزمت فى جولة، وألا تتسبب فى خسران القضية للحرب كلها. إدمان التعاريف الملفقة للنصر لا يغيب معناه الحقيقى عن الأذهان فقط؛ بل يهدد بالافتتان الدائم بالانكسارت المتتابعة، والدخول فى حالة مازوخية كاملة، يصير الانحطاط فيها بديلا عن الرفعة، وآلام النزيف المتواصل مبعثا على البهجة والانتشاء.
والأهم من معرفة كيفية الانتصار، أن يعرف المرء كيف يُهزَم؛ لا لشىء إلا أن تلك الخبرة تجنبه مخاطر الفناء الاعتباطى، وتعينه على التشافى كلما طالته رصاصة أو قنصه صياد، كما لا تتركه نهبا للمواجهات الخاسرة كما لو أنها قدر محتوم، وترسخ فى وعيه العميق أن النجاة غاية عليا؛ لأنها مفتاح الانتصار المؤجل، وضرورة البقاء أصلا.
والمدخل فى لبنان إنما يمر حصرا من جهة الدولة والدستور، وأن يعود الحزب فصيلا سياسيا بين متساوين، لا متسلطا عليهم ولا آخذا بزمام البلاد إلى نزوات أيديولوجية تتوالد من بعضها. ما يعنى أنه مدعو للدخول تحت سقف الطائف والعيش المشترك، وارتضاء ثابت العروبة والكيانية والوطن النهائى، والاحتكام إلى المؤسسات حصرا وسيلة للإدارة والإنقاذ الجماعى. وامتداد ذلك أن يقطع امتداداته الخارجية، وأن يضع السلاح فى عهدة الجيش اختيارا، قبل أن يُجبر على ذلك بترتيبات القرار الأممى 1701.
وفى حال غزة؛ فإن على الحماسيين التسليم بأنهم خاضوا تجربتهم كيفما أرادوا، وإلى آخرها المتاح، والخيار لهم اليوم بين النجاة فى القافلة الفلسطينية، أو مواصلة المقامرة بما تبقى منهم ومن القضية. ما يفرض الانقطاع الكامل عن مداولات اليوم التالى، وإيكال المهمة لمنظمة التحرير وأية فعالية وطنية مُجردة من التحزب والتلوين، مع معرفة أن ما يقفون عليه اليوم إنما هو حصيلة الطوفان، وما يختارونه الآن سيرتب ما يتعين على فلسطين مواجهته غدا.
يسهل الاحتماء باحتماليّة أن ترامب يضغط لتحسين الشروط، ولا يتقصّد إزاحة الكُتلة الديموغرافية من غزّة، أو الشطب على القضية لاحقًا بضمّ الضفة الغربية وتهجير أهلها. إنما لا يصح الانصراف عن مخاطر الخطّة المطروحة، ولا أنها قد تكون مناورة استكشافية يُمكن أن تكتمل لو وجدت إلى ذلك سبيلاً.
والإزعاج أعلى ما يكون مع حكومة نتنياهو، أردأ الحكومات الصهيونيات وإن كانت كلها رديئة بالإجمال. لقد واتته الفرصة على اشتياق طويل، وما كان فى أى يومٍ من الأيام حافلاً بالسياسة، ولا ساعيًا إلى حلول توفيقية، بالدولتين أو الدولة الواحدة.
نقف على رُكام ستّة عشر شهرًا من القتل المفتوح، وما من أحدٍ يُمكن أن يعُدّ نفسه بين الرابحين سوى زعيم الليكود. تهرّب من أزماته الداخلية بموجب خطّة الإصلاح القضائى، ثم أعاد بناء حالة إجماعية على قيادته، وقدّم نفسه على الصورة التى يحبّها، كآخر ملوك اليهود والوحيد الساقط من أضابير التوراة.
والحال؛ أنه لا يُمكن أن يخرج الغريمان مُنتصرين من حرب واحدة، وبينما تُريد الشيعية المُسلّحة ومَن والاها من الأصولية الإسلامية، إقناع حاضنتها والجمهور العريض بأنهم انتصروا، يقف الرجل مزهوًّا بتعويق محور المُمانعة بعد عقود التشغيب والاستثمار المُكلّف، ويضع قدمًا فى لبنان، ويرتاح بكامل الجسد فى غزة، ويُغازل سيّد البيت الأبيض ما بين التهجير والضمّ وتوجيه ضربة مباشرة لإيران، ولو كانت كل تلك المفازات من قبيل الهزائم، فكيف تكون حال النصر؟!
مُجافاة الحقائق لا تصنع بديلاً عنها؛ بل تُلقى بأصحابها فى الوهم الكامل. وقوّة القضية الفلسطينية فى ضعفها بالأساس، وهو ما أبقاها طوال تلك العقود رغم البطش والتنكيل ووحشيّة الاحتلال، وأخطر ما يتهدّدها أن تدّعى البأس فى غير موضعه، أو أن تُضحِّى بالمظلومية انحيازًا إلى ضلالات كاملة تقمع السياسة، وتُلقى بالسلاح اعتباطًا فى قعر المحرقة.
بدأت المتاهة فى الطوفان؛ ولن تتوقف إلا بالقفز عن أمواجه إلى المراكب السيّارة. المُمانَعة لم تُقدِّم سوى فوائض العاطفة والانفعال، وبعض الجسارة فى غير مواضعها، والمُقاربة العربية اليوم تحاول لملمة ما ضيّعته المُغامرات غير المحسوبة.
لبنان كفلسطين، يتطلّعان لِمَن يُشفِق عليهما بين عدوٍّ مجنون وصديق مُغيَّب. لا عار فى الاعتراف بالهزيمة؛ طالما لم تتضرَّر المعنويات، ولم تنكسر القضية. العار كله فى خداع النفس والناس بدعايات النصر، والوقوف على الأطلال بشهوة البقاء الفصائلى، بينما تتشقّق القضية بضربات أصحابها قبل الأعداء، ويُنحَر الأبرياءُ فى قافلة فداء لا تتوقَّف، وتنزف الأرض مرّتين: بالإبادة من الغاشم الآن، وبإنكارها والتعالى على مواجعها من المُراهق دائمًا وأبدًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة