حسين عبدالبصير

متاهة القراءة: من الأنثروبولوجيا الثقافية إلى أنثروبولوجيا القراءة

الإثنين، 17 فبراير 2025 02:34 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

القراءة ليست مجرد مهارة يكتسبها الإنسان في مراحل مبكرة من حياته، بل هي عملية معقدة ومتعددة الطبقات، تنطوي على أبعاد ثقافية ونفسية وتاريخية تجعل منها تجربة شخصية وفريدة لكل فرد. منذ اللحظة التي يتعلم فيها الإنسان فك رموز الحروف وترتيبها في كلمات وجمل، يبدأ في تشكيل عالمه الخاص من المعاني والدلالات، حيث تصبح القراءة نافذة يطل منها على ذاته وعلى العالم من حوله.

في كتابه "متاهة القراءة"، يعيد الدكتور زين عبد الهادي النظر في القراءة من زاوية جديدة، تتجاوز كونها مجرد نشاط معرفي إلى كونها ممارسة أنثروبولوجية تعيد تشكيل وعي الإنسان وتصوراته عن نفسه وعن الآخرين. فالكتاب لا يقتصر على تحليل كيفية قراءة النصوص، بل يغوص في أعماق العلاقة بين القارئ والنص، وكيف تؤثر التجربة القرائية في بناء الهوية الثقافية والفكرية للأفراد والمجتمعات.

من خلال هذا الطرح، يثير الكتاب عددًا من الأسئلة الجوهرية: كيف نقرأ؟ كيف تؤثر قراءاتنا في فهمنا لأنفسنا وللعالم؟ هل هناك قراءة محايدة أم أن كل قراءة تنطوي على انحيازات ثقافية وفكرية؟ وكيف يمكن للقراءة أن تصبح أداة للتحرر الفكري بدلاً من أن تكون وسيلة للهيمنة والسيطرة؟
القراءة بين الثقافة والأنثروبولوجيا.

لطالما شكلت القراءة جوهر التفاعل البشري مع المعرفة، وهي لم تكن يومًا فعلًا محايدًا، بل هي مرتبطة بالسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي تنشأ فيه. في إطار الأنثروبولوجيا الثقافية، ينظر إلى القراءة باعتبارها نشاطًا يتداخل مع الهويات والانتماءات، حيث تؤثر الخلفية الثقافية للفرد في تفسيره للنصوص وفي طبيعة استجابته لها.

يرى زين عبد الهادي أن القراءة ليست مجرد استهلاك للمعلومات، بل إعادة إنتاج للمعنى، حيث يساهم القارئ بوعيه وخبراته السابقة في خلق نص جديد ينبثق من تفاعله مع النص المكتوب. هذا التصور يعيدنا إلى أفكار الناقد الألماني فولفجانج إيزر حول "أفق التوقعات" الذي يتشكل لدى القارئ أثناء عملية القراءة، وهو ما يجعل كل قراءة تجربة ذاتية مختلفة عن غيرها.

كما يستند الكاتب إلى أعمال المفكر ألبرتو مانجويل، خاصة كتابه الشهير "تاريخ القراءة"، الذي يتناول كيف شكلت القراءة الوعي الإنساني عبر العصور. فالقراءة، وفقًا لهذا المنظور، لم تكن يومًا مجرد أداة لاكتساب المعرفة، بل كانت دائمًا فعلًا مقاومًا للجهل والهيمنة، وأداة لإعادة اكتشاف الذات والعالم.
أركيولوجيا القراءة: الحفر في طبقات المعنى.

واحدة من أبرز الأفكار التي يتناولها الكتاب هي "أركيولوجيا القراءة"، وهي مفهوم مستوحى من أعمال الفيلسوف ميشيل فوكو، الذي اشتهر بحفرياته الفكرية في الطبقات العميقة للمعرفة واللغة. يشير هذا المفهوم إلى أن القراءة لا تحدث في فراغ، بل تتم فوق طبقات من النصوص والتجارب السابقة، حيث تتراكم المعاني داخل ذهن القارئ بشكل تدريجي، مما يجعل لكل قراءة طابعًا تاريخيًا وثقافيًا معقدًا.

بهذا المعنى، تصبح القراءة فعلًا تأويليًا، يتجاوز الفهم السطحي للكلمات إلى البحث في الدلالات العميقة التي تشكل بنية النصوص. فكل قارئ عندما يواجه نصًا ما، لا يقرأه بعيون خالية من التأثيرات، بل من خلال منظور تشكله تجاربه الحياتية، وخلفيته الثقافية، ومعارفه السابقة.

على سبيل المثال، قراءة رواية تاريخية عن الثورة الفرنسية ستكون مختلفة تمامًا بين قارئ فرنسي نشأ في بيئة تمجد الثورة، وبين قارئ محافظ ينظر إليها بعين ناقدة. هذه الفروقات في التلقي تؤكد أن القراءة ليست مجرد استهلاك للنص، بل هي إعادة إنتاج له داخل ذهن القارئ، مما يجعل كل قراءة تجربة فريدة ومختلفة.
القراءة الحرة مقابل القراءة الموجهة.

يخصص الكتاب جزءًا مهمًا لمناقشة مفهوم القراءة الحرة مقابل القراءة الموجهة، حيث يرى زين عبد الهادي أن الأنظمة التعليمية التقليدية غالبًا ما تفرض نمطًا معينًا من القراءة، مما يجعل القارئ مقيدًا بإطار أيديولوجي معين. هذه القراءة الموجهة تهدف في كثير من الأحيان إلى تشكيل وعي محدد، وهو ما نراه في الكتب الدراسية، والدعاية السياسية، والإعلام الموجه.

على العكس من ذلك، فإن القراءة الحرة تمنح القارئ فرصة للاستكشاف والتفكير النقدي، حيث يتفاعل مع النصوص بعيدًا عن أي ضغوط فكرية أو أيديولوجية. هذه القراءة هي التي يمكن أن تؤدي إلى إعادة اكتشاف الذات، وتحرير العقل من القوالب الجاهزة، وهي التي أنتجت عبر التاريخ العديد من المفكرين والمبدعين الذين شكلوا وعي البشرية.

لكن الكاتب لا ينكر أن القراءة الحرة قد تكون سيفًا ذا حدين، حيث يمكن أن تقود بعض الأفراد إلى التشتت الفكري أو الانجراف خلف تأويلات متطرفة. لذلك، فهو يدعو إلى تحقيق توازن بين القراءة الحرة والقراءة النقدية، بحيث يكون القارئ واعيًا بتأثيرات النصوص عليه، وقادرًا على تحليلها بمنهجية عقلانية.
القراءة كفعل تحرري.
إحدى النقاط الجوهرية التي يناقشها الكتاب هي دور القراءة في تحرير الفكر والوعي. عبر التاريخ، لعبت القراءة دورًا محوريًا في تحفيز الحركات الفكرية والثورات الاجتماعية والسياسية. فكلما زادت قدرة الإنسان على القراءة والتحليل، زادت قدرته على التفكير النقدي، واتخاذ القرارات المستقلة، ومواجهة الأيديولوجيات القمعية.

يستعرض الكاتب أمثلة من التاريخ، مثل تأثير كتابات جان جاك روسو على الثورة الفرنسية، وأعمال كارل ماركس على الفكر الاشتراكي، وكتابات فوكو على الحركات النقدية الحديثة. هذه الأمثلة تؤكد أن القراءة ليست مجرد وسيلة للترفيه أو التعلم، بل هي أداة لتغيير المجتمعات، وإعادة تشكيل الواقع.
الاستنتاج: متاهة لا تنتهي.

في النهاية، يؤكد الدكتور زين عبد الهادي أن القراءة ليست طريقًا مستقيمًا يقود إلى الحقيقة المطلقة، بل هي متاهة من المعاني والتأويلات، حيث يصبح القارئ جزءًا من عملية لا نهائية من البحث والاكتشاف. فالقراءة لا تمنحنا إجابات جاهزة، لكنها تزودنا بالأدوات اللازمة لطرح الأسئلة الصحيحة، والتفاعل مع النصوص بشكل واعٍ وناقد.

بينما قد تكون القراءة وسيلة لاكتساب المعرفة، أو للهروب من الواقع، أو لإعادة اكتشاف الذات، فإنها تظل في جوهرها فعلًا ثوريًا، يحرر الإنسان من قيود الجهل والتبعية. وهكذا، فإن "متاهة القراءة" ليس مجرد كتاب عن القراءة، بل هو دعوة للتفكير في القراءة كفعل إنساني جوهري، يعيد تشكيل علاقتنا بالعالم، ويمنحنا القدرة على رؤيته بعيون جديدة في كل مرة نفتح فيها كتابًا.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة