حازم حسين

خيار الإبحار لا إعطاب القارب.. سؤال اللحظة فى غزة لا يقبل سوى إجابة عربية واحدة

الإثنين، 17 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كلُّ الأطراف حسمَتْ خياراتها إلَّا الطرف الفلسطينى للأسف، واللوم هُنا ينصرف إلى الرؤوس الكبرى، لا عامّة المنكوبين مِمَّن حزموا حقائبهم عائدين من جنوب غزَّة إلى شَمالِها، شابكين بالوطن أرواحًا متوثّبة من خرابٍ إلى خراب.
تتدفَّق الرياح من كل الاتجاهات، ولم يفرد القادةُ فى القطاع ورام الله أشرعتهم حتى اللحظة، كأنهم يملكون رفاهية الوقت، أو يطمئنّون فى مَوضعِ قَلقٍ كاسح، ولا مُبرَّر للاطمئنان فيه بالفطنة المُجرّدة، أو بحسابات الورقة والقلم.


وفى سياقٍ طبيعىٍّ عاقل، كان يتعيَّن أن تتشابك الأصابع، ويصير البنيانُ كتلةً واحدة صلبة، إذ لا معنى لأىِّ إسناد من الخارج، ما لم يتسانَد الداخل إلى بعضه البعض، وما لم يُقدِّم تصوُّرًا اختياريًّا عن المجابهة الوطنية المطلوبة فى امتحانٍ وُجودىٍّ عسير.


وضعَتْ القاهرةُ حجرًا ثقيلاً على طريق التهجير، ولا يزال الصهاينة طامعين فى زحزحته بالضغط وكثافة التصويب، ويُحفِّزهم على ذلك سلوكٌ أمريكىٌّ صاخبٌ ومُتناقض. الدائرة العربية مُتأهّبة للوفاء باستحقاقات الساعة، والعالم على أطراف أصابعه، بين إدانةٍ للحلول الإلغائية، ودفاعٍ عن الحقوق العادلة.

الإشاراتُ المُتواترة من الفصائل كُلِّها إيجابيَّة من دون شَكٍّ، لكنها فرادى، وفى اتجاهاتٍ شتّى، والوفاق فيها أقلّ كثيرًا من المطلوب، ولا يخلو من رسائل مُتضاربة بين وقتٍ وآخر.


بحسب مصدرٍ مصرىٍّ مطلع، وفق ما نقلت قناةُ القاهرة الإخبارية مُؤخَّرًا، فإنَّ الخطَّة المُقترَحَة عن إعادة الإعمار فى وجود السكَّان، تشتمل على تسليمٍ من حماس بأنها لن تكون طرفًا فى اليوم التالى، وتنزل راضيةً عن رغبتها السابقة فى البقاء بين مُكوِّنات السُّلطة التنفيذية للقطاع.


والأصلُ أنَّ القاهرة لن تَسوقَ الأطروحةَ إلى المجال العام بمعزلٍ عن قادة الحركة، وفى ضوء النقاشات التى أُدِيْرَت مع وفدِها رفيع المستوى فى زيارته الأخيرة، ما يعنى أنها تنطلقُ فى رؤيتها من مساحة تشارُكيَّة تتقاسمها الفصائلُ الغَزيَّة مع مُنظَّمة التحرير والسلطة الوطنية، ويتعيَّن بطبيعة الحال ألَّا تخرج مواقف مُضادَّة من آخرين، ولا أن تكون المسألةُ عُرضةً للمناورة وتوزيع الأدوار.


والحادثُ أنَّ ما يقوله بعضُ القادة فى السرِّ، يتمرّد عليه غيرهم فى العلن، أو يطرحون ما يتصادَمُ معه تمامًا من جهة الفلسفة والوسائل. ما تجلَّى أخيرًا فى رسائل ردَّدَها أسامة حمدان من الدوحة، يزعمُ فيها أنهم انتصروا، ولن يدفعوا ثمنَ هزيمة مُتوهَّمَة، كما يقول، وسيكونون على طرفِ نقيضٍ مع أيَّة آليَّةٍ للإدارة من خارج الحركة.


كما تحدَّث عن أنهم سيتولَّون الإعمار بأنفسهم، مُستندًا إلى لُغةٍ نحاسيَّة أقرب إلى نفير الحرب، وإلى دغدغةِ عواطف الحاضنة الأيديولوجية بانفصالٍ عن الواقع، وسوءِ تقديرٍ ظاهرٍ للحال والاستقبال، لا فيما حاقَ بالغزيِّين حتى الآن فحسب، بل فيما يتهدَّد وجودهم أصلاً فى مُقبل الأيام.


وإذ لا وجاهة فى ادّعاء النصر على تلٍّ من الركام والأشلاء، ولا للإيحاء بمَقدرة كتائب القسَّام على العودة للميدان بأُفقٍ زمنى مفتوح، وبعدما تضرَّرت قُدراتُها كثيرًا، وانقطع المَدَد الخارجىُّ عنها ولو بالمُشاغلة من جهة الحزب اللبنانى، فالأسوأ ما يخصُّ الإعمار، مع عجز الحركة عن الوفاء بمُتطلِّباته ذاتيًّا، والتيقُّن من مخاطر دعاوى التهجير، ومن أنَّ أحدًا لن يُغامر بإنفاق أموال التعافى على تثبيت وجود الحركة، كما لو أنه يُحرق تبرُّعاته فى مجمرة النَّزَق الفصائلىِّ المُتكرِّر، والوحشية الصهيونية التى لا تملّ.


وبعيدًا من الإقرار بعدالة القضية، ودون افتئاتٍ إطلاقًا على المُقاومة المشروعة، فإننا إزاءَ مُتغيِّراتٍ لا يُمكن التعامى عنها، ولا الفِكاك من ارتداداتها الثقيلة بمُجرَّد أن نصرفَ النظر بعيدًا، أو نستعير خطابًا قديمًا من دواليب البطولة العتيقة، كما لو أنَّ القضية تختبرُ فصلاً اعتياديًّا من مباريات التأجيج والتبريد، وليست مَوضوعةً على فالقٍ يُهدِّد بطَمرِها تحت الركام لعقودٍ، أو بإخراجها من بيئتها الأصيلة مرَّةً وإلى الأبد.


والحال، أنَّ اليقين فى صلابة المجموع الشعبىِّ واستمساكه بالحقِّ الأصيل، لا يعنى من أىِّ وجهٍ ألَّا نتحسَّب للمخاطر، أو أن نتعاطى الوَهم دون بصيرةٍ شوّافة، ومَقدرةٍ ديناميكية على الإفلات من الفِخاخ المُستجَدَّة على الطريق.


لقد كان الفلسطينيون مُتمسِّكين بالأرض فى كلِّ محطَّةٍ سابقة، لكنهم أُخرِجوا منها غيرَ مَرَّة، ويقفون على قارعة القلق راهنًا بصدورٍ عارية، وإسنادٍ عربىٍّ راسخ فعلاً، إنما يحتاجُ لأنْ يُلاقيه المَعنيِّون الأُصلاء بالمسألة على ورقةٍ إنقاذيَّة جامعة، شريطةَ أن تخلو من النَّزَق أوّلاً، وألَّا تنظُرَ للسياسة من فوَّهات البنادق حَصرًا.


ليس مُهمًّا على الإطلاق مقدار ما تُنفقه من طاقة، إنما الأهم أن تكون فى المسار السليم. ولا يمكن أن يصل القارب لمرفأ أو ينجو من الغرق، لو كان رُكَّابه يُجَدِّفون فى اتِّجاهاتٍ شتّى، أو يخرقُه فريقٌ منهم مُدَّعيًا لنفسِه حكمةَ الخِضْر، دون وعىٍ بأنَّ الغاصبَ يُطاردهم ببارجةٍ حربية تُطوِّق ألواحَهم الخشبيَّةَ بالنار من كلِّ جهة، وبأنَّ الفارقَ عريضٌ جدًّا بين الإعطاب المُنقِذ، والمساس بالسلامة فى مَوضعٍ لا يُفضِى لشىء إلَّا الغرق.


والضمير إذ يفرضُ على كلِّ مُتَحَلٍّ به أن يقفَ إلى جانب الفلسطينيين، فالتعقُّل والموضوعية يُوجبان استقراء الشواهد الماثلة، والانطلاق من الوقائع القائمة إلى تجاوزها، وليس من الخيال إلى الخيال، والقَصدُ أنَّ كثيرًا ما يكونُ الإنقاذُ من باب تخفيف الأحمال، ودون حاجةٍ إلى الخَرق والرَّتْق أصلاً، ولا المغامرة بما فى اليد على أمل الوصول إلى المستحيل.
العَاصمُ الوحيد من المُقامرات المُبدِّدة للأُصول، أن يكون المرء مُوقنًا فعلاً، وبموثوثيّة كاملة، من استمرارية القضية وديمومتها، وأنها مسألةٌ أبقَى من أطرافها جميعًا، المقاوم قبل المهادن، وللنضال صُوَر عِدَّة أرفعها الحياة، وأن تُحرَسَ الجُغرافيا بالديموغرافيا، لا أنْ يُضَحَّى بالأخيرة استخفافًا بها، فيخلو طريقُ العَدوِّ إلى الأُولى بالجنون المُتبادَل، إذ يتَّخذ صِفَة الإبادة من جانبٍ، والانتحار المجَّانىِّ من الآخر.


لا أُفقَ على الإطلاق لأن تكون «حماس» جزءًا من المستقبل القريب فى القطاع، لو أرادت مُخلصة أن يكون القطاعُ نفسُه جزءًا أصيلا من مُستقبل القضيَّة ونضالاتها.


ولا حاجةَ للتذكير بأنَّ فلسطين الموجوعة سابقةٌ على الحركة بأربعة عقودٍ أو يزيد، وما ضاعت قبل أن يتجسَّد الإخوان فى صيغةٍ فصائليّة مُلوَّنة عقائديًّا، ولن تضيع حال تحرير المسيرة التحرُّرية من لعبة التديين والتطييف، أو إنزالها على أرض الواقع دون سرديَّاتٍ خَطابيَّة زاعقة، وبقَدرٍ من الحكمة المطلوبة اليومَ أكثر من أىِّ وقتٍ مَضَى.


فى حديثه سالف الإشارة، بدا أسامة حمدان كَمَنْ يقترحُ حلولاً لمُشكلاتٍ خلاف المطروحة أصلاً، أو أقلّ منها كثيرًا، مُتغافلاً فى المقابل عن الأسئلة الحقيقية الجادة، ربما بأثر شىء من الوهم فى أن الآخرين قد يتناسَونها، أو تسقط عن الطاولة فى زحام الموضوعات.


والواقع أنها مرحلةٌ حاسمة، ولا تقبلُ الألاعيب الصغيرة أو البلاغات اللفظيَّة فى غير مواضعها، كما لا يُمكن أن يتحصَّل عن المُماطلة سوى مزيدٍ من التعقيد، وبما يجعلُ الرجوعَ لاحقًا لِمَا هو فى الإمكان اليوم، عسيرًا فى الآثار ومُضاعَفًا فى التكاليف.


جرَّب الحماسيِّون منذ «طوفان السنوار» أن يذهبوا صوبَ الخيارات القُصوى، ثمَّ عادوا لاحقًا للمُطالبة بما كان مَعروضًا بعدما رُفِعَ عن الطاولة. لوَّحوا بإيقاف دُفعة التبادُل السادسة اعتراضًا على خروقات إسرائيل، ثمَّ أنجزوها بالشروط نفسها بعد تهديدٍ زاعق من واشنطن، وبعدما تعذَّر عليهم أن يعودوا لاستخدام ذات الورقة مُجدَّدًا.


والمُشكلة إنْ لم تكُن فيهم بالدرجة الأكبر، فالمقطوع به أنها قائمةٌ ومُتجَسِّدةٌ بثِقَلِها فى كلِّ الأحوال، وخُلاصتها أنَّ الصهاينة ينتشون بما أحرزوه على جبهات القتال، ويطمعون فى المزيد، وتُلاقيهم إرادةٌ أمريكيَّة ذاهبةٌ إلى ما وراء العقل تمامًا، حتى أنها تبدو أحيانًا كما لو كانت تُزايدُ على اليمين التوراتىِّ فى أشدِّ حالاته جنونًا.


أقصى أمانى الفصائل الغزيَّة الآن أن يعودوا لِمَا قبل السابع من أكتوبر، لكنّه خيارٌ يبدو مُستبعَدًا وفقَ تصوُّرهم عنه، أى أنْ ترتدَّ بهم عقاربُ الساعات إلى زمنٍ كانوا يُديرون فيه القطاع، ويُعزِّزون قُواهم فى بطون الأنفاق بصمتٍ وأناة.


وفى المُقابل، ثمَّة مسارٌ وحيد للعودة المأمولة، من شروطها أن تتنحَّى «حماس» عن واجهة المشهد، وأن تُعِينَ الحاضنةَ العربية على تسويق بديلٍ يستنقذُ ما تبقَّى من فُرَص الوجود، ثمَّ يشتغلُ على ترميم معاش الناس ومُقتضيات حياتهم فى أرضهم، على أن تتأجَّل بقيَّةُ المسائل التى تبدو من صُوَر الرفاهية اليوم، إلى وقتٍ يكون بمقدورِ الناس أن يختاروا، ويُقرِّروا مصائرهم بأريحيّة صافية، وبمَعزلٍ عن ضغوط الطرد والإفناء.


وباليقين فيما نُقِلَ منسوبًا لمصادر مصرية، فإنَّ خليل الحيَّة ورفاقه قد استوعبوا حجمَ الأزمة على الأرجح، وأقرَّوا بالخطة الوحيدة المُمكِنة، فى مُواجهة أجندة ترامب الساعية لاستبدال احتلالٍ باحتلال، وتحويل الأرض من مُرتكَزٍ عُضوىٍّ لدولةٍ فلسطينية، إلى مشروعٍ عقارىٍّ يُؤَبِّدُ فكرةَ التسوية الاقتصادية بديلاً عن السياسة وحلِّ الدولتين.


ولا معنى لِمَا جاء على لسان شريكٍ آخر فى القيادة، إلَّا أنَّ الحماسيِّين يختلفون فيما بينهم، أو تُحرِّكهم نوازعُ وإملاءاتٌ مُتضادَّة ومُتضاربة، وربما يُقسِّمون المهامَّ عليهم بالتساوى، واهمين أنهم يُمكن أن يحوزوا رضا الجانبين: الساعين لانتشال القضية من عاصفة الضياع، ومَنْ يُصرّون على استتباعِها وتوظيفها فى لُعبةٍ صراعيَّة أكبر منها، و»فوق فلسطينية» بطبيعة الحال.


والمقامُ هُنا يتَّسع كثيرًا على حديث البديهيات. نعلمُ جميعًا أنَّ فلسطين مُحتَلَّة، وإسرائيل ظالمة، ويحقُّ للمغصوب أن يستميت فى مُناكفةِ الغاصب من كلِّ مسارٍ مُتاح.


ولكن فى الوقت ذاته، لا يحقُّ له أن يرتقى المذبحَ بجهالةٍ فاضحة، ولا أن يمضغ شعارات البطولة بأعصابٍ باردة، بينما تُسحَب الأرضُ من تحت قدميه، ويُعاين مخاطرَ أن ينتقل من حَيِّز المُناضل فوق جُغرافيا سَليبة، إلى اللاجئ فى وطنٍ بديل.


وإلى ما فات، يُضافُ ما يحمله السلوك المخبول من تهديداتٍ وُجوديَّة للأحياء هُنا والآن، ومن استلابٍ لحقوق الأجيال المُقبلة فى أن يخوضوا حِصَّتَهم من الصراع، وأن يبتكروا من وسائل المُقاومة ما يُناسبهم ويتماشَى مع زمنهم.


باختصارٍ، كلُّ مُغامرةٍ غير محسوبة فى وقتها، تغتصبُ شيئًا من المستقبل، ولولا أنَّ السابقين كانوا عُقلاء، ما وَجدَ الحاليون مَوطئَ قدمٍ للعمل، وعليهم ألَّا يسلبوه من اللاحقين، حتى لو اضطُرّوا إلى احتمال نصيبهم الكامل من المأساة، وأن يتجرَّعوا كأسَ السُّمّ، تغليبًا للأمل البعيد على اليأس القريب.


قلتُ كثيرًا وأُكرِّر، إنَّ الفارق بين النضال والانتحار أن تتحرَّك القضيّةُ شِبرًا واحدًا للأمام، أو على الأقلّ ألَّا تعود ملليمترًا إلى الوراء. وكل ما دون دفعها أو تحريكها فى المكان قد يكونُ تنكيلاً بها لا انتصارًا ولا إنعاشًا.


والحال، أنها فى فاصل الستَّة عشر شهرًا الماضية تراجعَتْ كثيرًا، ولا معنى لسخف الحديث عن العاطفة والمردود المعنوىِّ، طالما أنك تُواجه عَدوًّا لا يردعه القانون أو الضغوط الأخلاقية، ويمضى فى مُخطَّطه مُتسَلِّحًا بوحشيَّةٍ غير مسبوقة، وانحرافٍ عظيم لم يُعهَد بتلك الصورة من القُطب الأوحد فى العالم.


وإزاء كلِّ الاحتمالات، فالغايةُ التى لا تعلوها غايةٌ أن تُنزَعَ الذرائعُ من الماكينة الصهيونية الهائجة، ويتثبَّت الناسُ على أرضهم، وما عَزَّ على البنادق اليومَ قد لا يَعِزُّ غدًا، وما أفنوه بمعركة النار ستُعوِّضه معاركُ الأرحام. إنه سباقٌ طويلٌ تتكامَلُ مادَّتُه، ولا تقلُّ البيولوجيا فيه قيمةً وأهميَّة عن السلاح.


وإذ تُخاضُ الحربُ فى وجهها الظاهر على الأرض والغريم، فإنَّ أسوأ ما تُصوِّب به «حماس» على نفسها والقضيّة، أنْ تتشدَّدَ فى سرديَّة النصر.


لسنا فى وارد الجدل البيزنطىِّ فى الاستراتيجية وعلوم العسكرية، ولا معنى لإنكار الهزيمة هُنا، إلَّا أنه تجديدٌ لبواعث القتال لدى العدوِّ المُسلَّح حتى الأسنان، والمُستعصِم برغبةٍ إفنائيَّة تُحقِّق له منفعةً مُزدَوَجة: تصفية الصراع أو ما تيسَّر من أطرافه الفاعلة، وترميم جدار اليمين القومىِّ والتوراتىِّ، لبقاء الحكومة الرديئة القائمة، وضمان ألا يتبدّل مسار الحُكم فى تل أبيب عَمَّا هو عليه الآن.


لن يعبُرَ نتنياهو إلَّا من قناة التوظيف الدعائى للميدان، وكلَّما ناطحَتْه الفصائلُ فإنها تُجَدِّد طاقتَه على المُواصَلة، وتُذَخّرُ طائراته ومدافعه بالنار الأبدية المطلوبة لذاتها. وليس القَصدُ قطعًا أن تستسلم الفريسةُ للصياد، إنما أنْ تهربَ منه، طالما فى وِسْعِها الهرب.


إيقافُ المَقتَلة لا ينتشلُ الناسَ من محرقةٍ نازيَّةٍ يُرَادُ إحماؤها مُجدَّدًا فحسب، لكنه يستنقذُ الفصائلَ نفسَها بما تَبقَّى لديها من إمكاناتٍ صالحة للتثبيت وإعادة الإنتاج، وقد لا يكونُ مُتاحًا تفعيلها اليومَ، ولا تحت الراية ذاتِها فى مُستقبلٍ قريب، إنما لا يعنى هذا أنَّ فلسطين لن تكون بحاجةٍ إلى خيار القُوَّة مُطلَقًا وإلى الأبد، ولا أنَّ فائضَها التعبوىَّ إمَّا أنْ يَمُرَّ من قنوات الحماسيِّين، أو أنْ يُفجِّر جسدَه المُفخَّخ فى الجميع حتى الأهل والأصحاب.


الحاجةُ مَاسّةٌ لتحديث السرديَّة الوطنية، وليس فى الأدوات فقط، بل فى العناوين أيضًا. ربما انتهت صلاحيةُ حماس النظاميَّة، لكنها فى النهاية جزءٌ من جِسمٍ وطنىٍّ واحد، والخيار ليس مَحتومًا بين الاستبداد به أو الانقطاع عنه. المسألةُ تتَّسع دومًا لِمَا هو أكبر من احتمَالَى الهيمنة الكاملة أو البَتر الجائر.


انشغل «حمدان» فى خطبته المنبرية بتبرئة الشيعيَّة المُسلَّحة من قرار الطوفان، وبإضافة نقاطٍ عاطفية لرصيد حزب الله، لناحية أنه بادرَ بالإسناد دون مُطالبة، ما يعنى أنّه انخرطَ مُقبِلاً وسدَّد الكُلفة راضيا. والحال، أنَّ تبييض الصحائف لا يُغيِّر من اسوداد الحقائق، وقد لَقِى حسن نصر الله وجهَ ربّه، وحمَّل لبنان والإقليم ما يفوقُ طاقتهما معًا.


طرفٌ واحدٌ يكتمُ ضحكةً ضِباعيَّة تغنى عن أىِّ كلام. إنه نتنياهو، وقد فازَ بفُرصةٍ ثمينة لتثبيت صورته المُتوهَّمَة عن نفسه كمَلكٍ توراتىٍّ، وأعاد محورَ المُمانَعة عقودًا للوراء، وبدلاً من حصاره بحلِّ الدولتين، باتت أقصى التنازُلات المطلوبة منه راهنًا أن يرتضى برقبة حماس، بعدما استثمر فيها طويلاً، وأن يترك المنكوبين العُزّل فى بيوتهم، وإلَّا فالحرب من دون سقفٍ ولا أعباء، وخزائن الولايات المُتَّحدة مفتوحة له عن آخرها، وستارها السياسى مُرخَىً عليه بلا خوفٍ من إدانةٍ أو مُساءلة.


ستلتقى الخُماسيَّةُ العربية فى الرياض بحلول نهاية الأسبوع، وما سيترشَّح عن اجتماع مصر والأردن وقطر والإمارات والسعودية سيُنقَلُ للقمَّة الطارئة بالقاهرة فى آخر الأسبوع التالى، وأىُّ تصوُّرٍ ناضجٍ لا يخرج عن سَوقِ بدائل مُقنعةٍ عن خطَّة ترامب، محورها الإعمارُ فى وجود السكان، ومُسوِّغها ترتيب «اليوم التالى» بنكهةٍ وطنية مُجرَّدة من الأُصوليّة والوَصًم، وبما يقطع طريقَ الحرب، ولا يُوفِّر الذرائعَ لإعادة إنتاجها لاحقًا من بابٍ خلفىٍّ، أىْ أنْ تتنحَّى حماس، بما أحسنت فيه أو أساءت، وتتركَ الأرضَ لفترةِ نقاهةٍ لن تكون قصيرةً بأىِّ حال.


على الحماسيِّين أنْ يتحلّوا بالشجاعة المُناسبة للظرف، وليست النسخة المُستدعَاة من سياق الملاحم والانتكاسات التراجيدية، بشعبويةٍ مُفرطةٍ وانفعالٍ عارم، وعليهم أن يحسموا أمرَهم، ويُوحِّدوا الخطاب مهما تعدَّدت الرؤوس، كما على رُعاتهم أن يُخلّوا سبيلهم، وأن يُحرّروهم من قيود الائتلافات والإذعان العقائدى أو المصلحىّ.


لا سبيلَ للبقاء فى مركبِ المُمانَعة مع جَنى الثمار من بساتين الاعتدال، ولا للمُجاهرة بالسلاح طمعًا فى السياسة، كما لا هامشَ للمُناكفات الطفولية فى سياقٍ يحتاج للكبار عقلاً وروحًا ومَوقفًا.


لم يَعُد فى غزَّة ما يُمكن النزاع عليه. مريضٌ على جهاز التنفُّس فى حالة مُتأخِّرة، ومُهَدَّد فوق ذلك بنَزع القناع، وبالطَّرد من المَشفَى. وأهليَّةُ الحالة عليهم إصاخة السمع للأطباء، وألا يقفوا فى صَفِّ الفيروس الصهيونى المُفترس، ضد البَدَن المُتداعِى فى البنية والعمليَّات الحيوية. وكلُّ تشغيبٍ، إنما يزيدُ العِلَّة، ويباعِدُ هدفَ التشافى، كما يخصمُ من طاقة المُسعفين.


فى مُباريات الأقفاص المُغلقة، إما أنْ يموتَ المُلاكم، أو يُسَلِّم بالهزيمة مُؤقَّتًا، على أمل الفوز بفرصةٍ لاحقة. ويَندُر أن يجِدَ مَنْ يفتحُ له بابًا للنجاة، وهو مفتوحٌ الآن لجهة الأهل، ولعلّها الفرصة الوحيدة للإبحار الآمن، بسحب المُتاح على الأقل، بدلاً من الاختيار بين إعطاب القارب، أو التجديف فى مساراتٍ مُتصارعة.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة