حازم حسين

كأنه فاصل جديد بين زمنين.. من وردة الدم فى عيد الحب لانتشال الأوطان من الطوفان

الأحد، 16 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كانت بيروت وقتها فى غلافٍ من اللون الأحمر. مدينة الرومانسية والمُحبِّين تستقبلُ «عيد الحب» بالورود، بينما يُقرِّر تيَّار بعينه أن يهديها قنبلة، وأن يصبغ شوارعها بالدم بدلاً من باقات الزهور. صدمةٌ كُبرى، ونفق دخلَه لبنانُ ولمَّا يُغادره حتى الساعة.

مات رفيق الحريرى غدرًا فى قلب العاصمة التى عاش يتضرَّع باسمها، ويحلُم لأجلها، ويشتغل على إقالتها من عثرات الحرب الأهلية وأزمنة الوصاية السورية. ولا مُبالغةَ لو قُلنا إنَّ ما تعيشُه المنطقة اليوم، نتاجُ ما كان قبل عقدين، وتحديدًا طنّ المُتفجّرات الذى مزَّق رجلاً، كانت كل جريمته أنه سعى لانتشال البلد من ثقافة التناحر والدمار، ووضعه على أوَّل طريق التشافى والعافية.

وكما لعبة الميكانو، أخذ الإقليمُ يتشكَّل على صُوَرٍ شتّى، كلّها من المادة نفسها. ربما يصعُب الجَزم بالمُكعَّب الأوَّل؛ لكنها ما إنْ تتجاوزه تمضى من بعدها بميكانيكيَّةٍ تلقائيّة نحو مصيرها المحتوم.

مات الأسدُ الأب فخلَفَه ابنٌ محدود العقل والكفاءة، وأفضت وقائعُ الحطِّ من الكرامة الأمريكية فى عُقر دارها، إلى إسقاط نظام صدَّام حسين فى العراق.

وهكذا؛ فُتِحَ البابُ واسعًا للجمهورية الإسلامية أن تُغيِّر التوازُنات مع دمشق، وتُضيف بجانبها عاصمةً عربيَّة كُبرى إلى حصّالتها.. بينما كانت إزاحة الحريرى الخشنة مُؤشِّرًا على تقدُّم طهران لتقبض على عنق لبنان بالأصالة، بدلاً من المرور إليه عبر وساطة حافظ ونظامه الطائفى.

بالتزامُن؛ كان الفلسطينيون يُغادرون زمن عرفات حَبوًا، ويلتمسون مُقدِّمات مرحلةٍ تغيبُ عنها الكاريزما النضاليَّة، وتتقدَّم الأُصوليَّة لترِثَ ما خلّفته السياسة، قليلاً كان أو كثيرًا.

أُجرِيَت الانتخاباتُ لتُرَتِّب المواقعَ على رقعة القضية، ثمَّ تضخَّمت الأطماع فى الصدور، وبين شَدٍّ وجذب مع منظمَّة التحرير والسلطة الوطنية، انفصل الحماسيِّون بقطاع غزَّة على صيغة الانقلاب المُسلَّح.

ارتضوا من الدولة الضائعة بشريطٍ ساحلىٍّ ضيِّق، ومن الهُويَّة الفلسطينية بلونٍ واحد، وأخذوا يتقرَّبون من المُمانَعة على حساب الابتعاد عن الذات؛ حتى آلت الحالُ بهم أن يكونوا لواءً فى الحرس الثورىِّ بعد وقتٍ غير بعيد، وبوضعيَّةٍ تكاد تتطابق مع حزب الله؛ باستثناء القيمة والمكانة لدى رأس المحور.

كثافةُ المُصادفات فى أوائل الألفيَّة لها دلالةٌ بالتأكيد؛ وإن لم تكن بالحَتْم من باب المُؤامرة المقصودة. صعود الأسد الصغير؛ صفةً وقيمة، ثمَّ سقوط بغداد بعد ثلاث سنوات تقريبًا، وإزاحة الرمز السُّنىِّ الأبرز فى بيروت بعدها بسنتين، وأخيرًا الانقلاب الحماسىّ على فاصلٍ شبيه.

سبق كلَّ هذا جلاءُ الاحتلال الإسرائيلىِّ عن جنوب لبنان من طرفٍ واحد، ثمَّ رافقَه حصار عرفات وتسميمه، وفكّ الارتباط مع غزَّة، ثمَّ السماح بانتخاباتٍ زرعتْ بذورَ الانقسام بين فتح وحماس، وأخيرًا خطيئة الضاحية فى اختطاف الجنديين، وبدء حرب الجنوب صيف العام 2006، وبعدها الانقلاب فى القطاع، وفَرض الثُّلث المُعطِّل على الحكومة اللبنانية بمُوجَب تفاهمات الدوحة 2008.

ربما لم تكُن الدولةُ الصهيونية وراء كلِّ التطوُّرات؛ لكنها استفادت منها جميعًا. ولعلَّها أرادت تربيطَ جبهات المُمانَعة ببعضها، مثلما أراد المُمانِعون أو أكثر. والنتيجة تظهَّرت بعد ذلك بعقدين تقريبًا، بدءًا من «طوفان السنوار» فى خريف 2023، ثمَّ إطلاق حسن نصر الله «حرب الإسناد والمُشاغَلة» فى اليوم التالى، وصولاً إلى ما سوَّقه نتنياهو عن إعادة ترسيم خريطة الإقليم، وما يزال مُصرًّا عليه بدعمٍ كاسح من واشنطن، أحدث حلقاته دعاوى التهجير، وأطروحة ترامب عن «ريفييرا الشرق الأوسط».

ومثلما كانت لحظة التفجير فى عيد الحب قبل عقدين فاصلاً بين زمنين؛ فالوَقفةُ الراهنة إزاء ما يُرَادُ للمنطقة والأراضى المُحتلَّة تكتسبُ الصِّفةَ ذاتَها، ويتفرَّع عنها نزاعٌ بين إرادتين: الاحتلال وداعميه إذ يسعون لخَلط الأوراق وتصفية القضية، وإنهاء الصراع الطويل مع الشيعيَّة المُسلَّحة على حساب العرب، ثمَّ دُوَل الاعتدال بينما تناضُل لاستنقاذ ما تبقَّى من الأُصول الفلسطينية، والذود عن الأمن القومى للمنطقة إزاء قُوَى الطَّرد والجذب المُختصمة فيها من الداخل والخارج.

والحال؛ أنَّ لبنان اليومَ يتلمَّس طريق الخروج من النفق المُظلم، وقد انتخَبَ رئيسًا غير مُلوَّن ولا تحكمُه التوازُنات القديمة، تُؤازِره حكومةٌ تقنيّة انتُزِعَت نسبيًّا من فَكَّى المُحاصَصة بمعناها الصراعى، وتُواكبه ورشةٌ دوليَّة تدفعُ الرياح فى أشرعة الإنقاذ والإصلاح.

وقد تغيَّرت الأحوال فى سوريا بشكلٍ كامل، وتتكثَّف الجهود لإخراج غزَّة من الفخ الذى حفرته الأُصوليَّات المُتصارعة، ولا يتبقَّى إلَّا أن يُعيد العراقُ تموضعَه وفق مُحدِّداتٍ وطنيَّة صافية؛ لتكون المرحلةُ فاصلاً بين استتباع الخرائط لحساباتٍ أيديولوجية، وبحث القضايا العالقة من مُنطلقاتٍ قوميَّة مُتحرِّرة من قيود المحاور والأحلاف.

فى مُناسبة إحياء ذكرى «رفيق» العشرين، أعلن نجلُه ووريثُه السياسىُّ سعد الحريرى عودتَه للعمل العام قريبًا. فى المُقابل، يُناور الحزبُ بين مُقتضيات اللحظة، وطموحه فى استبقاء شىءٍ من مفاعيل الزمن القديم.

لقد رضخَ عَمليًّا للظَّرف المُستجَدّ بالتلاقى على رئاسة جوزيف عون، ثمَّ القبول بحكومة نوّاف سلام، لكنه يُحرِّك بعضَ قواعده للتوقيع الخشن بالحضور، كما فى التظاهرة الأخيرة على مفرق طريق المطار، والتعرُّض لقافلةٍ تتبع قوَّات اليونيفيل، مُواصلاً الرهان على مراسم دفن أمينه العام السابق بعد أسبوعٍ تقريبًا، لجهة تظهير أنه ما تآكل شعبيًّا؛ ولو فرَضَتْ عليه التطوُّرات أن يتحرَّك خطوةً أو أكثر للوراء، وباتجاه الكُمون الاستراتيجىِّ كما يتصوّره.

والمُشكلة فى لبنان، كما فى غزَّة؛ أنَّ الاحتلال يقبض على أجندةٍ يمينيَّة شديدة التطرُّف، ويطمئنُّ إلى إسناد الإدارة الأمريكية الجديدة، وقد بلغَتْ فى التصعيد واللغة الجارحة مَبلغًا غير مسبوقٍ على الإطلاق.

والسياق على حاله الراهنة؛ إنما يفرضُ شيئًا من التعقُّل وبرودة الأدمغة، واستشراف المآلات المُحتمَلَة على أرضيَّةٍ من الفهم الدقيق والوعى المُتجدِّد، بحيث لا تُضطرُّ المنطقةُ إلى سداد فواتير مُؤذيةٍ فى الحاضر، وكاسرة للمستقبل، ولا تتورَّط من حيث لا تدرى أو تريد فى إرخاء الذرائع، أو التفريط فى مزايا الإدارة الرشيدة إزاء مناخٍ يتسلَّط عليه الجنون، ولا تصبُّ خِفَّة التعاطى معه إلَّا فى صالح العدو، ومَنْ يُشاركونه عداوةَ المنطقة أو الطمع فى مُقدّراتها.

وآخر ما نحتاجه الآن، أن نتبادل التشَفِّى والمُكايدة، أو أن نُزايد على بعضنا البعض فيما يمسُّ الجميع بالتساوى. يُمكن القول إنَّ عدالة السماء أذاقت قَتَلَةَ الحريرى من الكأس نفسِها بعد زمنٍ طويل، ويَسهُل على الحزبيِّين اختصام الحكومة الجديدة حال تفويت مُهلة الانسحاب الإسرائيلىِّ المُمَدَّدة من جنوب لبنان، وكلاهما ليس من المواقف العاقلة والأكثر إلحاحًا فى الراهن؛ لأنه يُبقى المسألةَ الوطنيَّةَ عالقةً فى مجالٍ زمنىٍّ وعقلىٍّ قديم، ويتعامى عن المُسبِّبات الحقيقية التى أفضَتْ بالوَضْع لِمَا هو عليه فى المشهد الأخير.

والفكرة بحذافيرها تنطبقُ على السياق الغَزِّى؛ إذ الشاغلُ الأكبر ينبغى أن ينصرِفَ حصرًا إلى إفساد مُخطَّطات الاستيلاء على القطاع وطَرد سُكَّانه، وبحث أَوفَق السُّبل للوصول إلى يومٍ تالٍ لا تتهدَّد فيه أُصول القضية، ولا تُوَظَّف عناصرُ القوَّة الوطنية ضد بعضها.

والتراجُع الذى اضطُرَّ إليه الحزبُ شمالاً؛ إنما ينقذ البلد بكامله من الدخول فى دوَّامةٍ لا مخرج منها، أقلّه فى القريب، كما أنَّ سياسة الشأن الفلسطينى بقَدرٍ من الجدّية وإنكار الذات، تتطلَّبُ أنْ تتواضَعَ الأطرافُ جميعًا لصالح القضية، وأنْ يُعادَ تعريفُ النصر والهزيمة على معنىً أكثر حيويَّة، لا يحتكِمُ إلى هُويَّة الباقين أو الراحلين وسط الخراب العميم، بل إلى أنْ يظلَّ الوطنُ نفسُه قابلاً لاستئناف معاركه من الداخل، بغَضِّ النظر عن طبيعة المعركة، وعن لون القيادة فى مرحلةٍ فاصلة بين الوجود والعدم.

من المُفيد أن يقف اللبنانيون على ركام عقدين منذ اغتيال الحريرى؛ إنما للفَهم وجَرد الحساب، واستيعاب ما خسروه وحمَّلوه على الدولة طوال تلك السنوات. وعلى الفلسطينيين أنْ يَجرِدوا دفاتِرَهم منذ رحيل عرفات، وذكرى «فكّ الارتباط» من جانب الاحتلال بعد شهور، وفى العام المُقبل تكتملُ عشرون سنة على الانتخابات، وقد لا يُمارِى عاقلٌ فى أنَّ الوضعَ الراهن أسوأُ مِمَّا كان عليه فى أيَّة مرحلةٍ سابقة.

جزءٌ من الأزمة يعودُ إلى واحدةٍ من أردأ الحكومات فى تل أبيب؛ لكنَّ جانبًا منها يتَّصل بسوء إدارةٍ غير مُنكَر على الصعيد الفلسطينى، وهو فضلاً عَمَّا تسبَّب فيه إلى الساعة، لا يُمكن أن يستمرَّ بذات الطريقة، ولا أن تُجرَّبَ المساراتُ الخاطئة بالركاكة القديمة، مع افتراض أنها قد تُحرِزُ ما هو أفضل مِمَّا جَنَتْه على الجغرافيا والديموغرافيا.

الوَصفةُ المطروحة فى لبنان راهنًا تُبشِّر بانفراجٍ بعد طُول اختناق، ولعلَّها أعدَلُ ثأرٍ مُمكنٍ للحريرى وطائفة الشهداء المغدورين فى العقود الأخيرة. إذ لم يصطدم الرجلُ بالعهد السورى والحزب إلَّا لباعثٍ وطنىٍّ، ولو خُيِّرَ وقتَها فى أن يكون دَمُه قربانَ الفداء وفَكّ طوق النار عن عُنق البلاد ما قَصَّر فى الاختيار ولا تراخى.

والحال؛ أنَّ الزمنَ لن يعود إلى الوراء، وشيوخ الضاحية إمَّا أن يقتنعوا بالمُستجدَّات ويحترموا تداعياتها، أو ستتجاوزهم اللحظةُ الوطنية سريعًا، ودون حاجةٍ للصدام أو التشغيب.

وإذا كان النبراسُ الذى اهتدَتْ به حماس فى سنواتها الأخيرة، يستمدُّ ضوءه من جهة جنوبىِّ الليطانى، أو من الجمهورية الإسلامية عبر المسار الشامىِّ الطويل؛ فالحركةُ أحوج ما يكون إلى قراءة المُتغيّرات، واستيعاب أنَّ تجربة المُمانَعة تتخفَّفُ من أحمالها، وفى أحسن الظروف لن تعودَ صاخبةً كما كانت؛ هذا لو تيسَّر لها البقاء من الأساس.

والرهان هنا ليس فى منسوب التشدُّد، ولو بدا مُشبِعًا للعاطفة والغرام باستعراض القوّة؛ إنما فى التقدُّم والتراجُع على بيّنة من حقائق الواقع، وانطلاقًا من حسابات مُنضبطة، وبمنطقٍ نَفعىٍّ يضعُ الغايات فوق الوسائل، ولا ينشغل بالرمزيَّات البطولية الزاعقة، طالما أنَّ الأهدافَ المطلوبة يُمكنُ استحصالها هَمسًا.

قبل أيَّامٍ، أعلنت حماس تعليقَ الدُّفعة السادسة من تبادُل الأسرى، اتِّصالاً بالخروقات الإسرائيلية لبنود اتفاق وقف إطلاق النار، وتعطيل اليروتوكول الإنسانىِّ فيما يخصُّ إدخال بعض الاحتياجات المُتَّفَق عليها سابقًا.

هدَّد الرئيسُ الأمريكىُّ بفَتح أبواب الجحيم حال عدم الإفراج عن كلِّ المحتجزين بحلول ظهيرة السبت، ونشَطَتْ الوساطةُ المصرية القطرية لإنقاذ الهُدنة، وإعادة التفاهُمات إلى مسارها.

والإفادةُ النهائيَّة؛ أنَّ الحركة حرّرت ثلاثةً فقط، ولم يتفجَّر الجحيم، وربما تبدأ مُفاوضات المرحلة الثانية خلال الأسبوع الجارى. صحيحٌ أنَّ نتنياهو لا يُريد استكمالَ الصفقة بمراحلها الثلاث، ويُضمِرُ رغبةً مُلتاثة فى العودة إلى الحرب مُجدَّدًا؛ لكنَّ صراع الإرادات ما يزالُ قادرًا على كَبْح السُّعار الصهيونىِّ، وعلى إعادة واشنطن للطاولة عند منسوبٍ أهدأ كثيرًا.

الخارجيّةُ الأمريكية صرّحَتْ مُؤخَّرًا بأنها فى انتظار خطَّة عربية بديلة عن رؤية ترامب. والمعنى أنها عادت خطواتٍ إلى الوراء؛ لتتناقَشَ فيما كانت تطرحُه باعتباره خيارًا نهائيًّا لا بديلَ عنه.

سيُقدِّمُ العربُ تصوُّرًا شاملاً عن اليوم التالى، وبرنامجًا للتعافى وإعادة الإعمار فى وجود الغزِّيين، وسيُدَار جَدلٌ كبير فى تلك المساحة المختلفة تمامًا عن أفكار البيت الأبيض؛ لكن مع الوعى بأنَّ المواقف الإقليمية الهادئة أكثر قوّةً ووجاهةً مِمَّا يُساق من الخارج، أوَّلاً لأنها تنطلِقُ من معرفةٍ عميقة بالبيئة المُلتهبة، ومُعالجةٍ موضوعيَّة لصراعٍ وجودىٍّ لا يَقبلُ الحَسْم بالشطب أو الإلغاء؛ ثمَّ لأنَّ أصحاب الحقِّ ثابتون على أرضهم، والدُّوَل المَعنيَّة تتأبَّى على أيَّة حلول تلفيقية، ولن تفتحَ حُدودَها أو تُعِين أحدًا على تصفية القضية لصالح إسرائيل، وعلى حساب الآخرين جميعًا.

والرسالةُ هُنا، أنَّ الجانبَ العربىَّ يَعى طبيعةَ اللغة المُستخدمة من الجانب الأمريكى، ولا يرتبكُ بأثر التهييج المُبالَغ فيه، كما لا ينخَدِعُ بتكتيك ترامب فى التفاوض تحت أسقُفٍ مُرتفعة، وهى تقنِيَةٌ لا تختلفُ عن سلوك نتنياهو منذ الطوفان، مع فارقِ أنَّ الأخير تقصَّد الحوار تحت النار، وأنَّ حليفَه لا يُريد الحرب؛ ولو اتَّخذ منطوقُه صفةَ الرصاص.

وبينما يفرضُ ذلك على المُفاوِض الإقليمىِّ أن يطرحَ صفقةً مُضادَّة؛ فمن الواجب ألَّا يتغافلَ تمامًا عن سيكولوجية الطرف الآخر، وأنه يتجرَّأ كلَّما استشعر إمكانيةَ تحقيق المزيد.

وعليه؛ فقد يتطلَّبُ الأمرُ تحميلَ مسؤولية الدمار لإسرائيل، ومُطالبتها بالشراكة فى الإعمار وتعويض الضحايا، وتسويق أنَّ العرب يُقدِّمون طَرحًا موضوعيًّا لتبديد جولةٍ ساخنة؛ لكنهم لن يَنوبوا بمُفردهم عن المُجرم فى مُداواة المفجوعين، أو تجنيب العالم بكامله التزامات الدفاع عن الحقوق المشروعة، وتحمُّل أعبائهم الطبيعية عن الهشاشة البادية للنظام الدولى، وقُصور المُؤسَّسات الأُمَميَّة فى تفعيل أدوارها المُؤطَّرة بالقانون والأبعاد الأخلاقية الحاكمة لكلِّ الأطراف.

التعامُل مع طَرفٍ مُنفلتٍ من كلِّ الأعراف يُوجِب الحَذَر؛ لكنه يحتاج لإبراز المُغريات والتهديدات جنبًا إلى جنب. والحال؛ أنَّ تلك النوعيَّة لو صفعَتْك ولم تَرُدّ الصفعة، أو تُبدِى له على الأقلّ ما يَسوؤه حال الإقدام عليها مُجدَّدًا؛ فلن يتأخَّر عن تكرارها فى أقربٍ فرصة.

وهُنا؛ يتعيَّنُ أن تترافقَ خطَّة الإعمار دون تهجير، مع مُطالباتٍ واضحة تُوضَع على طاولة المجتمع الدولى، وخطوطٍ حمراء يُصَرَّح بها أو تُساق عبر القنوات الخلفية. والأهمّ أن يتقدَّم الفلسطينيون على طريق المصالحة، ويُقدِّموا التنازُلات لبعضهم؛ سَعيًا لإنتاج إدارة وطنيَّةٍ خالية من الوَصْم والتجاذُبات، وتجنُّبًا للاضطرار لاحقًا إلى التنازُل للعدوِّ، بدلاً من الشقيق أو الصديق.

كان يُفتَرَضُ أن يُغادر جيشُ الاحتلال جنوبَ لبنان أواخر يناير، ثمَّ مَدَّد المُهلةَ مع الأمريكيين حتى الثامن عشر من فبراير، ويسعى لتمديدها ثانيةً إلى آخر الشهر، أو استبقاء خمس نقاطٍ استراتيجيَّة تُشرف على الجغرافيا الفسيحة جنوبىّ الليطانى.
والعِلَّة التى يُبرِّر بها الصهاينة موقفَهم، أنَّ الجيش اللبنانى لم يُوَفّ التزاماته بحسب الاتفاق، بينما لا تُسجِّلُ اللجنةُ الخُماسية بالشراكة مع اليونيفيل ملاحظاتٍ فى هذا الشأن، فضلاً عن أنَّ واشنطن منحَتْ لتلِّ أبيب بمُوجَب تفاهُمٍ جانبىٍّ بينهما، حَقَّ التحليق فى سماء لبنان لأغراضِ الاستطلاع والمراقبة.

والمُرجَّح أنهم يسعون للبقاء لِمَا بعد جنازة نصر الله، ما يعنى أنَّ الحزب قد يكون وراء الإبطاء، وأحد أسباب الأزمة مُجدَّدًا؛ ولو من باب التذرُّع والمَزاعِم الباطلة. وهكذا لا سبيلَ لمُكايدة الرئيس والحكومة الجديدة، ولا بديلَ عن انخراط الحزبيِّين جميعًا تحت السقف الوطنى، ودون ألاعيب أو مُناورات.

ولو مَدَدنا الخطَّ على استقامته؛ فالحجَّة الصهيونية فى غزّة تتلطَّى وراء بقاء حماس فى الواجهة، ولا تُقصِّر الحركةُ من جانبها فى إسناد دعايات العدوِّ باستعراضاتها الساذجة مع كلِّ دُفعة تبادل للمُحتجزين.

وعَمليًّا؛ لم تَعُد كتائبُ القسَّام فى حالةٍ مِثاليَّة تسمحُ بالرجوع إلى الميدان، ولا إمكانيَّةَ لأن يكون «اليوم التالى» تحت إدارتها، ناهيك عن أن تستبِدَّ بالقطاع كما كان منذ الانقلاب، وبهذا لا يُفهَم سِرُّ الإصرار على التلويح بالراية الخضراء بدلَ الانضواء تحت العَلَم الفلسطينى، لا سيَّما لو كانت المرحلةُ تقتضى تغليبَ الوجود الجَمعىِّ على الفصائلىِّ، وإفساح حَيِّز لتطبيع السياق الجديد من زاويةٍ اجتماعيَّة إنسانية، وليس اختزاله فى صورة المُقاومة فحسب.

على كثرة الوقائع السابقة؛ كان نَحرُ الحريرى فى أحبِّ المناطق إلى قلبه فاصلاً بين زَمنين. من الحادثة تبدّلت أحوال لبنان، وحلّ الأصيلُ الفارسى بديلاً عن الوكيل الشامىّ، واتّصلت خريطةُ الشيعية المُسلّحة. كان المشهد إيذانًا بتغيّرٍ هيكلىٍّ داخل المُمانَعة نفسها، خروجًا من تراث الصمود والتصدِّى تحت لافتة قوميّة، إلى مُشاغبة المنطقة والعالم من منظورٍ دينىٍّ خفيف.
وبالمثل، فإنَّ «الطوفان» يبدو فاصلاً بين زمنين أيضًا. القديم وقد تشابكت فيه القضايا العادلة مع صخب الأُصوليَّة المدفوعة بمشاريع عِرقيّة ذات نَفَسٍ امبراطورى، والجديد إذ يُبشِّر بتحرير العناوين الكُبرى من الاستقطاب والاستنزاف الوظيفى، وإعادتها إلى صُورتها الأُولى الصافية. باعتبار فلسطين مسألةً سياسيَّةً قانونية إنسانية خالصة، وليست نضالاً عقائديًّا ولا وجهًا ساترًا لأجندةٍ أيديولوجية.

تُغتَنَم اللحظةُ الراهنةُ بالتعقّل والاعتدال فحسب، وليس بالبكاء على أطلالٍ لن تُبنَى وفق الرسوم القديمة، ولن يسكُنَها الذين سكنوها فى السابق؛ أكان فى لبنان شمالاً، أم فيما بين النهر والبحر. لدى إسرائيل مشروعٌ يمينىٌّ لا يُقاوَم إلَّا بالضدّ، وليس بالتصعيد معه فى الخيارات الجارحة.

والوردة التى وُضِعَت على قبر الحريرى فى عيد الحب، نحتاجُ اليومَ أن نضع أُختَها على قبر عرفات، فى كلِّ ذكرى قاسية تلَتْ رحيلَه المُزَلزِل. من الاغتيال إلى الانتخابات والانقسام، وكلِّ مُغامرةٍ غير محسوبة قبل الطوفان وبعده.

فى سيرة الراحلين ما يكفى لإضاءة طريق الآتين؛ لا سيَّما أنَّ كلَّ ما طُرِح بعدهم من بدائل كَسَّر وما عَمَّر، وأضرّ بأضعاف مِمَّا أفاد.. تحتاجُ الأوطان لقَدرٍ من الحُبّ المُنزّه عن الغرض، وبه وحده يُمكن انتشالها دومًا من كل طوفانٍ داهم.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة