تهجير سكان غزة، يبقى المحور الذي يدور حوله مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في إطار إعادة إعمار القطاع، بعد الدمار الذي لحق به من قبل الاحتلال الإسرائيلي لـ15 عشرة شهرا كاملة، بينما تبقى أراضي دول الجوار، بمثابة البديل، الذي يمكن لملايين البشر من المشردين اللجوء إليه، من وجهة نظر "سيد البيت الأبيض"، وهو ما يمثل امتدادا صريحا للمخطط المشبوه الذي سبق وأعلنت عنه تل أبيب، إبان العدوان، بذريعة القضاء على الفصائل، تحت مظلة الدفاع عن النفس، في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر، إلا أن الاختلاف في مقترح واشنطن، أنه يحمل صبغة إنسانية، لدرء ما قد يلاحقه من إدانات، على خلفية ما يمثله من جرم، وضعه القانون الدولي في مرتبة "الإبادة الجماعية".
ولكن بعيدا عن مخطط إسرائيل القديم، وذرائع واشنطن التي تبدو حديثة بعض الشيء، في ضوء ما تقدمه من وجه ناعم، تحت إطار التنمية وإعادة الإعمار، نجد أن ثمة تعارض صارخ في الموقف الأمريكي نفسه، ليس فقط فيما يتعلق بحديثه عن السلام والاستقرار في المنطقة، في ضوء ما سوف يؤدي إليه مثل هذا المقترح من مزيد من الدمار وعدم الاستقرار، وإنما أيضا في طبيعة الخطاب، الذي يتبناه ترامب، والذي يبدو مناوئا للهجرة (بالطبع هو يقصد الهجرة إلى أمريكا)، حيث يطالب بحزم وحسم بعدم تصدير المهاجرين القادمين إلى بلاده طواعية، في الوقت الذي يطالب فيه دول المنطقة، وفي القلب منها مصر والأردن، باستقبال أهل غزة، على غير رغبتهم.
الجانب الآخر من الازدواجية الأمريكية، تتجلى في إخلاء مسؤولية إسرائيل ضمنيا، تجاه ما آلت إليه الأوضاع في قطاع غزة، والتي تتطلب بالضرورة إعادة إعماره، بعد أكثر من عام كامل من الوحشية والانتهاكات، ليحكم صانع القرار الأمريكي بتبرئة المذنب، ومعاقبة ملايين الضحايا عبر إجبارهم على ترك أرضهم، بينما امتدت الرؤية العقابية إلى المنطقة بأسرها، عبر تحويلها إلى كرة من لهب جراء تداعيات تبدو خطيرة للغاية حال تنفيذ مثل هذا المقترح، خاصة في مثل هذا التوقيت الحرج، في حين تتحمل دول الجوار العبء الأكبر في هذا الإطار.
الازدواجية الأمريكية تجاه الأوضاع في غزة ربما ليست جديدة على الإطلاق، إلا أن ثمة وجها ناعما، يتجلى في التخلي عن القوة الصلبة في تحقيق أهداف واشنطن ومن ورائها الاحتلال، لتعتمد ربما في ذلك مستقبلا على إسرائيل، حال تعثر الأمور، وهو ما تبدو إرهاصاته في تهديد الرئيس ترامب بإلغاء اتفاق وقف إطلاق النار، حال عدم استجابة حماس لمطالبته بالإفراج عن كل الأسرى ظهر يوم السبت المقبل، وهو ما يعنى احتمالات العودة إلى ساحة المعركة مرة أخرى، وهو ما يمثل تهديدا صارخا للأمن والاستقرار الإقليمي.
وفي الواقع، يبدو موقف ترامب من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، هو الآخر، مسارا ثالثا يضاف إلى المسارين سالفي الذكر فيما يتعلق بالازدواجية الأمريكية، وذلك إذا ما نظرنا إلى العديد من المشاهد، أبرزها الضغوط الكبيرة التي مارسها قبل دخوله البيت الأبيض، حتى يتم الاتفاق، قبل تنصيبه مهددا الإقليم بالجحيم، بينما نجح في إجبار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الرضوخ، رغم العراقيل الكبيرة التي وضعها، ومعه حكومته المتطرفة، من أجل مواصلة القتال في القطاع، خاصة وأن استمرار الحرب تبقى الورقة الوحيدة التي يملكها رئيس وزراء الاحتلال للبقاء في السلطة، في ضوء ملاحقات قضائية في الداخل، إثر قضايا فساد، ناهيك عما استحدثته غزة من عار سيبقى على جبينه، لتسفر الانتهاكات التي ارتكبها بها عن ملاحقة عالمية، بناء على قرار المحكمة الجنائية الدولية.
الازدواجية التي يعانيها البيت الأبيض، في إطار معالجته للأزمة في قطاع غزة، تمثل في واقع الأمر العديد الحقائق، ربما أبرزها حالة من الارتباك، التي باتت تهيمن على المشهد، في ضوء مسارين متناقضين، أولهما يدور حول الانحياز الصارخ لإسرائيل، في إطار مخططها القائم على تقويض حل الدولتين، من جانب، والرغبة في تحقيق السلام، والتي تمثل أحد أولويات ترامب، بحسب خطابه الانتخابي، من جانب آخر، وهي مسارات لا يمكن أن تتلاقى بأي حال من الأحوال، وبالتالي تبقى محاولة إيجاد معادلة إقليمية على هذا الأساس بمثابة انعكاس لحالة من عدم الإدراك بطبيعة المنطقة، وقيمة القضية، ومركزيتها، خاصة في محيطها الجغرافي، ناهيك عن عقود من النضال من أجل السيادة الوطنية، التي لا يمكن التخلي عنها في إطار صفقة "بيع وشراء" يجيد القيام بها رجال أعمال من طراز رفيع.
مقترح ترامب حول غزة يبدو كاشفا في الكثير من أبعاده عن رغبته الجامحة في استعادة مكانة الولايات المتحدة، بعد النيل منها خلال سنوات ماضية، إلا أنه في الوقت نفسه يكشف حالة من القصور داخل إدارته، جراء غياب أي صوت لديه من الخبرات السياسية، خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط وقضيته المركزية، ما يؤهله لتقديم مشورة حكيمة، تعتمد الثوابت الدولية فيما يتعلق بالقضايا الحساسة، والتي لا تقتصر في حقيقة الأمر على القضية الفلسطينية، وإنما تمتد إلى أبسط المفاهيم الدولية، على غرار السيادة ووحدة أراضي الدولة، وغيرها من الأمور التي كانت محلا للجدل في الأيام الماضية، جراء خطابات البيت الأبيض، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في حالة من الرفض الدولي الجمعي للعديد من المواقف التي تبنتها واشنطن.
وهنا يمكننا القول بأن مقترح ترامب تجاه غزة، يكشف العديد من المعضلات التي تواجهها الإدارة الأمريكية، ربما أبرزها ازدواجية الموقف تجاه القضية الفلسطينية نفسها، بالإضافة إلى ازدواجية الخطاب الأمريكي تجاه قضايا صنفها الرئيس الأمريكي بأنها أولويات قصوى، على غرار الهجرة، ناهيك عن موقفه المتناقض من قضية وقف إطلاق النار، بين الضغط لتحقيقه قبل تنصيبه، والتهديد بإلغائه مؤخرا، بينما يبقى غياب الرؤية السياسية والخبرات في هذا الإطار معضلة أخرى، تتطلب إعادة نظر من إدارة ترامب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة