حازم حسين

قضية ساخنة وجثة فى ثلاجة.. صراع فلسطين مع نتنياهو والأصولية على مفهوم الوطن

الثلاثاء، 11 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لم يحدث فى أية مرحلة سابقة أن كانت القضية الفلسطينية بهذا القدر من التعقيد. عدو يتلمظ لابتلاع القليل المتبقى، وداخل منقسم على ذاته، وخارج مرتبك إزاء سلوك الطرفين، والخيارات كلها بين سيئ وأسوأ، لا لجهة القلق من الترانسفير أو تحويل غزة إلى استثمار عقارى فحسب، إنما لأن الوازع الأخلاقى يبدو فى أشد مراحله انحسارا.

الولايات المتحدة تُعيد تعريف الإنسانية من زاوية تنتهك قوانينها الراسخة، والعالم مستكين لمنطق القوة دون مقدرة على تثبيت نظامه القائم على القواعد، أو نسفه واجتراح بديل عنه، والفصائل تُقامر بما فوق الأرض افتتانا بما يختبئ فى جوفها، وقد حولت الأيديولوجيا وطنا، واكتفت بها عن الحجر والبشر على حد السواء.

خدمة جليلة قدمتها حماس للنازية الصهيونية قبل عقدين تقريبا، ولا تزال راسخة فى أدائها دون احتكام للعقل، أو مراجعة لما أحدثه سلوك الاستبداد بالشاغل الوطنى وتجييره لصالح الحالة الميليشياوية، وإذا كان الانقلاب على السلطة بعد انتخابات العام 2006 قد أحدث شرخا بين الضفة والقطاع، فإن تداعيات السنين التالية وصولا إلى «طوفان السنوار» أزاحتهما معا من الصورة، لناحية أنها اختزلت فلسطين فى إقليمين متصارعين، وانفردت بكل منهما على حدة، وما عاد الكلام يتردد عن الدولة، مستحيلة كانت أم ممكنة، إنما عن غزة باعتبارها صراعا قائما بذاته، وتلك كانت أثمن أمنيات اليمين المتطرف فى إسرائيل، وتحصل عليها كهدية مجانية للأسف من فوهات بنادق القسام.

إدانة نتنياهو وعصابته كأصل ثابت فى أية مداولة موضوعية عاقلة، لا ينبغى أن تصرف الذهن عن مساءلة قطاعات من المقاومة فيما جنوه على أنفسهم والآخرين. إذ لا يكفى أن يكون الحق فى صفّك، لتبرير النزوات وكنس الخطايا تحت ركام البيوت المتهدمة.

إن احتكار غزة من جانب بعض مُلاكها، كان الأساس الذى بُنيت عليه أطماع إزاحتهم جميعا منها، والاستيلاء على ما كان مستولى عليه لصالح فريق دون الباقين، صحيح أنه لا يمكن تمرير خطأ بخطأ، لكنه الواقع الذى تختل فيه الموازين، ويُهدد التوازنات القائمة مع أول مغامرة بحرفها عن مواضعها، ولم يكن من الحصافة أن يبادر الضعيف لاستنفار طاقات غريمه المتوحش، بينما تصب كل الحسابات فى صالحه، ولا يتوصل أى استقراء عاقل للسيناريوهات المحتملة، إلى أن الاندفاع غير المحسوب قد ينهى الأوضاع الظالمة، أو يحمل إفادة بشىء سوى نكبة جديدة.

والفرز السابق ليس من باب جلد الذات إطلاقا، ولا لغرام مجانى بالبكاء على الأطلال، إنما لا يمكن تصويب المسارات من دون الوقوف على نقطة انحرافها، ومعرفة الأسباب التى قادت إلى ما تكابده المنطقة الآن، وما يترشح عن مقدماته أنه بصدد التصاعد فى مقبل الأيام والشهور.

إنها الجراحة الإلزامية لإنقاذ المصاب بطلق نارى، ولا يمكن أن تتأخر بداعى الحاجة لوصم القناص ومحاكمته أولا، كما لا سبيل لاتقاء مزيد من الإصابات دون اجتناب الساحات المكشوفة، والطرق الوعرة، ودون الإقلاع عن أوهام صد النار بصدور عارية، بينما فى الإمكان أن نُمرر لحظات الاختناق بقدر أقل من التضحيات غير المبررة فى سياقها، وأن نسرق الوقت بدلا من إعانته على أن يسلبنا آخر ما فى الصدور من أنفاس لاهثة ومتقطعة.

وإن كانت أطروحة التهجير سابقة الترداد، وحاضرة دوما فى أدبيات تل أبيب وحكوماتها المتعاقبة، فإنها ما أُثيرت قط بتلك الحماوة والغطرسة البادية من واشنطن. حددت الرصاصة الأولى طبيعة الحرب وإيقاعها، وكان على صاحب البندقية أن ينخرط فى الدراما بمنطقها، ويحتمل قدره كما يليق ببطل تراجيدى، لا يعفيه صفاء النية من كلفة الخطيئة المودية للهلاك.

والحال أن توزيع القرار على الخنادق والفنادق لنحو خمسة عشر شهرا، أتاح هامشا عريضا للاحتلال أن يبطش بالمدنيين العزل، ثم أن يستبد بالسياسة لاحقا، ويُجاهر بأردأ السيناريوهات مسنودا بغباوة أصولية لم تتحسس مواضع أقدامها سابقا، ولا هى قادرة حتى الآن على استيعاب ما أنتجته وقائع الميدان، وما تتطورت إليه العقلية الإفنائية التى تزدهر دوما على حد السكين، وتطلب القتال بشبق يتخطى كثيرا من يعتبرون الشهادة غاية عُليا، بغض النظر عن نتائجها على الموتى والأحياء معا.

والمهم الآن، أن السنوار يرقد فى قبر افتراضى تحكمه إسرائيل. لا يطلب الحماسيون جثّته كما يطلب أعداؤهم جثث أسراهم، لأنه لا كرامة فى المخيال الأصولى للبشر أكانوا قادة أو عبيدا مستضعفين. والمفارقة أننا فى الفهم الدينى مخلوقون من تراب، وما التفريط فى الأبدان إلا تفريط فى الأرض أيضا بمدلول رمزى.

وإزاء ارتضاء أن يكون القائد حبيسا فى درج ثلاجة صهيونية، فقد لا تستنكف القواعد لأنفسها وعموم الناس مآلا شبيها، ولا أن تُحتبس الجغرافيا ذاتها فى درج مجاور. والفكرة على ما فيها من تأويل للظواهر ونصوصها المضمرة فى وعى أصحابها، تبدو وثيقة الصلة بالمرجعية الإخوانية لدى حماس وغيرها من تيارات الرجعية الدينية، وفيها أن الوطن حفنة من تراب عفن، والوطنية فتنة، والحدود قيود على الاعتقاد وأستاذية العالم، وعليه، فالقضية مجرد منصة للتعبير عن نزعة إيمانية تنظر للبلاد والعباد من منظور وظيفى، وتقبل الخسارة فى كل شىء، إلا ما يتسلّط على ذهنها من أوهام طهرانية.

وفى المقابل، فاليهود الصهاينة يُؤسسون سرديتهم على نصوص مضادة، لكنها تطلب المُلك والحياة معا، وتقدس البشر كما تقدس الحجر، وتوظف الحرب فى خدمة المشروع لا العكس، وبهذا تقتل وتبكى، وتظلم وتدعى المظلومية، وتسرق قطعة أرض فتطمع فيما بعدها، بينما الأطهار الآخرون يدعون البطولة على أشلاء الأطفال، وينكرون مظلمتهم بالتطاوس الدعائى على الظالم، وتتآكل الخرائط تحت أقدامهم، فيحمدون الله راضين على اتساع رقعة الإيمان فى الصدور.

والمواجهة على هذا المعنى غير متكافئة، لأنها بين وعيين ينطلقان من أرضية واحدة، ويختلفان فى الوسائل والغايات، فكأنهما يتخادمان بالخطابات الزاعقة وتبرير الوجود المتبادل، ويربح أحدهما منفردا لأنه يطلب الدنيا، ويقنعه من الغريم فناؤه الطوباوى فى الآخرة.

وبعيدا عن الاسترسال فى النفس ودواخلها المعقدة، فالحال أن الدولة العبرية تقف على التل براية مخضبة بدماء المحبوسين فى القاع، وكلما صرخت حنجرة غير عاقلة من بينهم بخطاب النصر، تتكثف النار والموت فوق رؤوسهم.

والحاجة اليوم ليست إلى صد المؤامرة الجديدة فحسب، أو الاستماتة فى تثبيت أصحاب الأرض ومد جذورهم فيها، بل إلى انتشالهم أولا من حالة الذوبان اللا نهائية فى المجهول، ومصالحتهم على الحياة من جديد، وتعميق وعيهم بأن الوطن مقصود بحجره وبشره، ولا معنى له بأحدهما دون الآخر، وإذ يتخطفه الاحتلال، فإن التضحيات واجبة ومطلوبة، لكن على سبيل التعاقد مع الوجود لا العدم، والبناء لا الهدم، ومن جهة أن البندقية لا تغنى عن الزيتونة وسقف البيت، وقد يكون الهروب من الميدان أحيانا، أولى وأقرب إلى الله والوطن من الاندفاع فى المحرقة.

اتخذت حماس قرارا واحدا فى خريف العام قبل الماضى، ولا شىء آخر من وقتها. كانت الهدنة الأولى فى نوفمبر 2023 بضغوط الوسطاء ثم حاجة الحكومة الإسرائيلية لاستكشاف الأجواء وامتصاص سخونة بيئتها الداخلية.

والاتفاق القائم اليوم، وربما يكون قريبا من التداعى، أنتجه تلاقى الإرادات بين الفواعل الإقليمية وسياق الانتقال السياسى فى واشنطن، وعزّ على نتنياهو أن يتبجح مع ترامب أو يفتتح علاقتهما الجديدة بعداوة غير مأمونة العواقب.

مخطط التهجير حالما يفشل، فلن يكون بإمكان الحركة أن تُجيّر المسألة لصالحها، أولا لأن ثبات الغزيين فوق الأرض هو ما يكبح أية مخططات عدوانية على الديموغرافيا، وثانيا لأن القاهرة وعمّان وبعض عواصم المنطقة تتصدى للفكرة بكل ما أُوتيت من وسائل، وتتعهد مهمة تعلية جدار القطاع مع الخارج، وقطع الطريق على إزاحة الخزّان البشرى العظيم بالترهيب أو الترغيب.

باختصار، صنع القساميون الأزمة، ولا يعترفون بها، ويتكفل آخرون بلملمة فوضاهم وإصلاح ما أفسدوه فى سياق لم يكن يحتمل المقامرة بالقليل طمعا فى المستحيل.

عرف نتنياهو خصومه ولم يعرفوه. استثمر فيهم عقودا، وحصّل ما كان يبتغيه من مكاسب وأكثر، وإذ روّج السنوار عن نفسه، أو أشاع عنه رجاله، أنه درس الصهاينة وتعلم لغتهم وصار خبيرا فى سياستهم، فإن ما أبداه فى الطوفان لم ينُم عن فاعلية عقلية لها حظ من الوعى والديناميكية.

عاد الرجل عقدين للوراء محاولا إنتاج صفقة شاليط، وتجاهل حقيقة أن قواه تضخمت تحت رعاية الليكود، وبإشراف مباشر من زعيمه المعروف فكرا وسلوكا. ولو قرأوا كتابه «مكان بين الأمم» فى طبعته الإنجليزية، أو «مكان تحت الشمس» بحسب النسخة العبرية، لعرفوا أنه ما أعان حماس على تعزيز قوتها إلا لتكون عونا له على القضية نفسها.

وإذ لا يقبل أى وجود للعوامل الكفيلة باستبقاء خطر إزالة إسرائيل قائما، فإنه بالضرورة كان يتحسب لمقدرة الحركة، ويوظفها لحدود لن يُسمح بتجاوزها، وكانت فى السابق محكومة بمنطق «جز العشب» بين وقت وآخر، وعلى طريقة «المعركة بين الحروب»، لتتطور أخيرا إلى إرادة الإفناء الكامل، بعدما انتهت مهمتها الوظيفية حسبما كانت يتقصّد منها.

والمُراد هنا ليس أنه قادر على إنهاء المقاومة فى غزة أو غيرها، وتحت لافتة حماسية أو بلون آخر، بقدر ما هو أن الموازين الراهنة لم تكن تعبيرا عن الأوزان الحقيقية، أو على الأقل الأكثر صلاحا وإفادة للقضية.

نُفخ فى حماس على حساب منظمة التحرير، وكان الغرض تضخيم الأولى وإضعاف الثانية، بحيث يسقط الوجه السياسى للصراع عن نطاق التداول، فينحصر فى نسخته المسلحة، لتتكفل فوارق القوة بحسم المسألة، مع ما يُضاف إليها من آليات الوصم والتشويه بأثر الطبيعة الأصولية، والامتدادات فوق الوطنية مع الشيعية المسلحة وغيرها، وأخيرا افتقاد الغطاء الشرعى المتوفر للسلطة فى رام الله من بقايا تركة أوسلو، ومن انشغال الأخيرة بمخاطبة العالم بينما تركز منافستها على خطاب الذات فحسب.

عاش عرفات يُجمع فوارغ الرصاص ليبنى كيانا يمكن اتخاذه منصة للانطلاق مما فوق الصفر بقليل، وما أجهز على مشروعه سوى خفة الورثة واستخفاف خطباء المنابر ومناضلى العاطفة والشعارات. يتحمل الرئيس عباس وفريقه جانبا من المسؤولية، ويتحمل عيال أحمد ياسين ما تبقى من الجوانب.

ولم يكن من مثمر النضال أن تسرف فى الحديث عن إزالة إسرائيل، بأكثر مما تنشغل بالبحث فى بناء فلسطين، ولا أن تنافس اليمين الصهيونى فى أيكم أعلى صوتا، إذ فى النهاية معهم الجغرافيا والصفة القانونية والقوة الغاشمة، وليس فى حوزة الحماسيين إلا الأنفاق ودماء الأبرياء.

الجمهورية الإسلامية أثبتت أنها تاجر لا يرى فى الأرض سوى صفقة عقارية، كما يراها ترامب، ورعاة الإخوان غسلوا أيديهم من الذنب قبل أن يجف نزفه، والحية وعصبته يحتفلون بالنصر فى طهران، بينما يتعرف الناس على طابع الحياة بين الخرائب كأنهم وُلدوا من جديد.

والدائرة الجهنمية آخذة فى الانحسار والضغط على أعصاب الجميع، ولا سبيل لكسرها إلا بتحرير القضية من قيودها الذاتية، وإعادة تعريف النضال وابتكاره على وجه مغاير، لا تحتكره ترهات الماضى، ولا يسدد فواتير الجهال والمعتوهين ممن وضعوا رمادهم فى عين العاصفة، ويصرون على تعويضه ولو أحرقوا لأجله ما تبقّى. فلسطين فى حاجة لساسة ومقاتلين قطعا، إنما من طائفة غير ما اكتوت بهم فى عقودها الأخيرة.

أرسل نتنياهو وفدا أمنيا إلى الدوحة، وقد عدّل فى هيكله متدنيا بالرتبة، وخصم من الصلاحيات لحدّ حصرها فى المسائل الفنية والإدارية، والواقع أن اتفاق وقف إطلاق النار تجاوز الخلافات العميقة فى مرحلته الأولى، وأبقاها للثانية، وسيخرج التصور بشأنها من كابينت الحرب مخلوطا بأهداف إسرائيل السابقة، وغيظها من استعراضات حماس فى مراسم تبادل الأسرى، ونشوة الإسناد الأمريكى بشأن التهجير والاستيلاء على غزة، ومخرجات زيارة رئيس الحكومة لواشنطن، وقد فاقت التوقعات مثلما قال لدائرته، وردّد مقربون منه عبر وسائل إعلام محلية ودولية.

والمرجح أن يتشدد فى مسألة الحزام العازل، وربما يثير موضوع الحضور الأمنى ضمن أفكار اليوم التالى، مع احتمال المشاغبة بشأن طبيعة وإيقاع الانسحاب من محور فيلادلفيا على الحدود المصرية. إنما المؤكد أنه سيفتح ملف حماس، وإن اضطر للنزول عن شجرة القضاء عليها فى الميدان، فقد يستعيض عنها بطلب نزع السلاح وإبعاد قادة الصفوف الأولى.

سترفض الحركة قطعا، حتى مع حقيقة أن سلاحها لم يعد فعالا، ولا مجال لتنشيطه إزاء مرحلة لا عنوان لها سوى الإعمار والتثبيت، ومجاراة الأحوال بقدر من الليونة والانحناء أمام العاصفة، بدلا من المخاطرة بالتصلب والانكسار.

سيضع الحماسيون بقاءهم فوق القطاع والقضية، لا لأنهم الضمانة الثابتة، أو أن الفلسطينيين عاجزين عن إنتاج المقاومة فى متوالية نضالية لم ولن تنقطع، إنما لأنهم ترس فى منظومة، وليس مسموحا لهم بالتفريط لصالح الأرض والبشر، طالما أن إرادة المحور الناظم لهم مع غيرهم من الميليشيات تنصرف لاستبقاء طلل الأصول المتداعية، على أمل توظيفها فى صفقة مع الشيطان الأكبر، ولصالح الرأس حصرا لا الأطراف. ولا يمكن فهم زيارة أباطرة الحركة لطهران خارج سياق ترتيب الأوراق، وتلقى التكليفات والمحاذير.

والواقع المؤسف أن العبور للمرحلة الثانية من الاتفاق يتطلّب تنازلات من الحركة، أو العودة للقتال. والريح فى أشرعة نتنياهو، وقد تُحفّزه الصلابة العربية إزاء دعاوى التهجير، على تجديد الحرب طمعًا فى كنس الغزيين بالموت والنار. وبالتوازى يُنشِّط خطط السيطرة على الضفة الغربية، ساعيًا إلى خلط الأوراق واستفزاز حماس على كل الجبهات.

بعض الهزائم ليست شرًّا كما يتصوّر البعض، أقلّه لناحية ضبط الانفعال وترشيد الاندفاع غير المحسوب، ومأزق الفصائل أنها لا تعترف بالهزيمة استكبارًا، وخوفًا على تضرُّر حاضنتها اللصيقة، وواجب العقل أن تستوعب ما حاق بها، وتُقرّ بآثاره الثقيلة وتداعياته المُزعجة، وأن تتعاطى مع الوقائع بمنطق المهزوم الباحث عن النجاة، لا المُنتصر الغنىّ عن العالمين.

وفى المقابل، فإن على المُمسكين بزمام إسرائيل أن يردعوها عن شهوة السحق والابتلاع، إذ لا سبيل لديها لقضم ما لا تستطيع ابتلاعه، والقضية أثبَتُ من زلازل الإقليم، وأصلب من عزم الاحتلال، وأعصى عليه أكان بالبطش أو الاحتيال. التصعيد يُضاعف الخسائر، لكنه يوغر الصدور، ومنطق الغنيمة إذ يتأسس على انتهاز اللحظة الهشّة، فإنه يُحدثُ شرخًا قد لا يُداوَى، وأقلّ تبعاته أنه يُعيد الصراع عقودًا للوراء.

موقف واشنطن ليس عدوانا على الحق الفلسطينى فحسب، ولا مقاولة تطهير عرقى لصالح دولة استيطان إحلالى على حساب الحزام العربى، لكنه افتئات على القانون والشرعية الدولية، والنظام الذى تعهّدته الولايات المتحدة نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، وتُقوّضه اليوم قصدًا أو بخفّة طائشة. وهو ما لا يُهدِّد إسرائيل وحدها فى نطاق البيئة المحكوم عليها بأن تظل واقعة فى أسرها، بل يضغط على المصالح الأمريكية بعيدة المدى، ويُغامر بإذكاء الأصوليّة الدينية لقاء إضعاف الدول الوطنية وخطابات الاعتدال.

والمآل، أن يعود النزاع إلى نقطة الصفر، ولحالة الإلغاء المُتبادَل من الجميع. إن تعطّل التهجير دون مُراجعة أمريكية عبرية، فستكون البداية لدورة جديدة من الشكوك والافتراضات المُعطّلة لأى مسار سياسى، وإن نجح جزئيًّا أو كُليًّا فسيُوسِّع مجال القضية الفلسطينية بدلا من إنهائها كما يتوهّم الواهمون، ما يقوّض أولا اعتراف دول المصالحة بالكيان الصهيونى، ثم ينقل الإنكار إلى الاقتتال، ويُحوّل المسألة التى بدأت جغرافية أولا، ثم اتّخذت صفة أصولية، إلى صدام هُويَّات يتجاوز الحدود وشبكات المصالح، ويقود فى النهاية إلى تآكل الطارئ على الإقليم، لأنه لا سبيل لإزاحة الأصيل.

الفارق عريض بين هزيمة الفصائل فى جولة، ومطمع الشطب على فلسطين بالإجمال. الأولى تحقّقت فعلاً ولو أنكرها المهزومون، والثانية مُستحيلة بالكلية ولو أنكرتها إسرائيل. وواجب واشنطن إذ تتشارك مسؤولية الحرب مع الاحتلال، وتفرد عليه غطاء القوّة والسياسة، أن تتجاوز فتنة التكتيك إلى استشراف فخاخ الاستراتيجية، وألا تسمح لنتنياهو بأن يُحوّلها من ضامن إلى طامع، ومن راعٍ إلى تابع، إذ لن تعود الدراما لسابق عهدها بعدما تنصهر الحدود وتتبدّل الأدوار.

على رُعاة حماس أن يُروّضوها، ولدول الإقليم الكُبرى أن ترسم المسار الأوفق لفلسطين طالما يعجز الداخل عن إنتاجه، ويتعيّن أن يستفيق الشارع ليكبح نزوات السلطة والفصائل. ربما يتطلّب الأمر فعاليات مدنية تتمدّد من القاعدة لأعلى، وتنهى احتكار السلاح المُلوّن للنضال والقرار، وتجترح بديلاً يؤمِّن عبور الاختناق بأقل قدرٍ من النزيف.

وفى المقابل، على البيت الأبيض ألَّا يُفرِطَ فى الأمانى، وأن يجتهد فى معرفة جذور الصراع، أو يحصل على حصّة سريعة فى التاريخ. بقاء إسرائيل مرهون باحترامها لشروطه، وبالتوقّف عن الاستدلال بالوقائع على غيرها، إذ لن تكون المُنازلة الوجودية مع المنطقة على صورتها ضد حماس والحزب وبقيّة ميليشيات المُمانَعة. ولن تكون فلسطين بدون أصحابها، أقل إزعاجا مما هى عليه بحضورهم، وإلا ما كانت أعادت عرفات ورجاله من المنافى إلى الوطن!

الطوفان أجهز على حماس، ولا يتبقى منها إلا أن يُقبَر نتنياهو ومشروعه. كان اليسار يرى أن بَتر عضو من الجسم قد يصون البقيّة، لهذا سار فى الحل السياسى، ورأى اليمين أن يحتفظ بالجثة كاملة، ولو من دون روح.

فلسطين فى حاجة لبديلٍ أنضج، وإسرائيل أيضًا، ومن دونهما سيتردّى الطرفان من هاوية لأعمق منها. لا تهجير، لا إلغاء، فإما عيشًا مُشتركًا، أو محرقة لن ينجو منها أحد.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة