حازم حسين

تثبيت فلسطين وخلخلة إسرائيل.. عن القمة العربية وإحياء السردية بدءا من قرار التقسيم

الإثنين، 10 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

سباقٌ مع الزمن، وصراعٌ على السردية. هكذا كانت القضيّةُ الفلسطينية منذ بدايتها وإلى اليوم، تتنازعها قوَّتان، اللصوصية الصهيونية المدعومة بغطاءٍ غربى غير نزيه، والحقّ العربى المُتسَلِّح بالشرعية الدولية وجذريّة الموقف الأخلاقى، وكلَّما سعَتْ الأُولى لتحريف الرواية، أو زحزحتها عن النطاق الأصلى للصراع، تصدَّتْ الثانيةُ بالخشونة حينًا، وبالدبلوماسية أحيانا، وأبقَتْ الأوضاعَ عند الحدِّ الأدنى المقبول من التوازن. مع ما فى المسألة من مواجهةٍ غير مُتكافئةٍ قطعًا، وقد عمَدَتْ أطرافٌ مُتنفِّذة فى النظام العالمىِّ إلى وضع إسرائيل فوق القانون، وإعفائها من أيَّة مسؤولية ماديّة أو معنويّة عن جرائمها المُتكرِّرة.

معركةٌ لا يبدو أنها بصدد الحَسْم قريبًا، لا بالتسوية ولا بالتصفية، والظالمُ مأخوذ بالغطرسة وشهوة الإبادة والإفناء، والمظلوم مَدعومٌ باليقين فى أنه راسخٌ على أرضه كالجبال، وتُحوِّطُه حاضنةٌ لا تُفاوِضُ عليه، ولا تقبلُ له إلَّا ما يرتضيه لنفسه، وما يرتجيه من صورة الوطن المأمول.

قمَّةٌ عربيّة طارئةٌ تستضيفها مصر فى 27 فبراير الجارى، لعلَّها الأسرع على الإطلاق بين القِمَم غير الاعتيادية. دارتْ المُحرِّكات بشأنها آخرَ الأسبوع الماضى، عبر مروحةِ اتِّصالاتٍ مُكثّفة للخارجية المصرية بتكليفٍ من الرئيس السيسى، شملت إحدى عشرة دولة، ليتحدَّد المَوعدُ بعد التنسيق والتشاور مع الأشقاء عمومًا، ومع مملكة البحرين الرئيس الحالى للقمَّة، وفى ضوء طلبٍ من دولة فلسطين.

وبحسبِ البيان، فإنها ستتناول التطوُّرات المُستجدَّة والخطيرة للقضية الفلسطينية، وقد تزامن الإعلان عنها مع بدء زيارةِ الوزير بدر عبد العاطى لواشنطن، والتى لن تخلو بطبيعة الحال من إثارة دعاوى التهجير، وتأكيد موقف القاهرة بالرفض الكامل لأيَّة إزاحة ديموغرافية من غزَّة أو الضفَّة الغربية، وتجديد الخيار النهائىِّ بشأن تثبيت الفلسطينيين على أرضهم، واستعادة المسار السياسى، من مُنطَلَق أنه لا بديلَ عنه إطلاقًا، لا بالاقتصاد ولا بالقوَّة الغاشمة.

الرؤوسُ ساخنةٌ للغاية، لكنَّ الإدارة العربية للموقف تبدو أكثر ثِقَةً وثباتًا على مبادئها. ترفضُ الحلولَ التلفيقيَّة بلُغَةٍ حازمة، وتطرحُ البدائلَ الموضوعية بعقلٍ بارد، ولا تستنفدُ طاقتَها فى الردِّ على الخيالات الفجَّة بتخيُّلاتٍ مُضادَّة.

ليس من أدوار المحيط العربى أن يُرَمِّم شقوقَ الاحتلال، أو يستدرِكَ عليه خطاياه مُتحمِّلاً كُلفةَ التصويب. بالإمكان النظر إلى العُمق الإسرائيلى، وإثارة البديل الأكثر منطقيَّةً بخصوص الترحيل إلى مُستوطنات غلاف غزَّة، أو صحراء النقب، أو أيَّة مساحة صالحة من فلسطين المُحتلَّة.

ولا يمنعُ من الاشتباك مع المشهد من تلك النقطة،إلا أنها ليست مُنافسةً بين العواصم فى الأفكار غير المعقولة، ولا أنَّ الخلاف يدور فى نطاق المكان لا المبدأ. الرفضُ للتهجير بالكُلّية، ومن بابه، وتحت أيّة لافتة أو مَسرَب جانبىٍّ، دون أن يمنع ذلك من صلاحية منطق المسؤولية الإسرائيلية عن الدمار الذى طال القطاع، وحقّ المُطالبة الدائمة بالتعويض وجَبر الضَّرَر، وتحمُّل جانبٍ من عبء إعادة الإعمار وتطبيع حياة مئات الآلاف، مِمَّن روَّعَتْهم آلةُ الحرب المُتوحِّشة بالقتل والتشريد.

والأصلُ دومًا، وعلى طول الطريق، أنَّ الاحتلال مَبعثُ الفوضى والتوتُّر داخل فلسطين، وعلى امتداد الحزام الإقليمى اللصيق بالقضية. المُعضلةُ بدأت من تلفيق دولةٍ غير طبيعية فى جُغرافيا لا تخصُّها، والنزيف يتَّصل بمُمارساتِ الطارئ على المنطقة، وقد ادَّعى لنفسه حقوقًا غير مشروعة، ويستميتُ بكلِّ الصُّوَر لابتلاع الجغرافيا وابتداع التاريخ، ومن ثمّ فلا سبيل لفَضِّ التشابُكات إلَّا من جهة العودة إلى منشأ الصراع، والاحتكام لقاعدةٍ موضوعيَّة يُمكن إجراؤها على الطرفين بالتساوى، ومن نقطةٍ مُجرَّدة لا تتسانَدُ لفوارق القوَّة، ولا لإمكانية إنكار الالتزامات والتهرُّب من المساءلة.

وإذ تبدو اللعبةُ بوَضعِها الحالى ميّالةً لجهة العدو، فإنَّ ما يغيب عن وعيه أنَّ التمادى فى تكسير القواعد، ربما يُعيدُ الخرائطَ إلى نقطة الصفر، ويُجدِّد المُطالبةَ بما يتوهَّم أنَّ الزمن قد تجاوزه منذ عقود.

لعُقَدٍ واعتباراتٍ شتَّى، تيسَّر للصهاينة أن يفلتوا بأكثر من نصف فلسطين التاريخية، ثمَّ ثلاثة أرباعها، وصولا إلى الطمع فيها من النهر للبحر، وربما ما هو أكبر، تأسيسًا على رؤية واشنطن الجديدة لأنها بلدٌ صغير على الخريطة، وتحتاجُ لتوسِعة حدودها.

وإذا كان خيار التمدُّد يبدأ بإزاحة ملايين الفلسطينيين واقتطاع أملاكهم، فإنَّ النزعة الإفنائيَّة لن تُجدِّدَ حالَ الاحتدام والمُقاومة فحسب، إنما يُمكن أن تفتتحَ المُداولةَ من أوَّلِها، وتُثير تساؤلاتٍ طمرَتْها الوقائعُ من أوَّل قرار التقسيم، مرورًا بالقرار 242 بعد نكسة يونيو، وإلى أوسلو، وما كان قبل الاتفاق أو ترتَّب عليه لاحقًا.

والجنونُ الذى يتلبَّسُ نتنياهو لن يُطَوِّع الخصومَ، بقَدر ما يستحثُّ فيهم جنونًا مُضادًّا يَرُدّ الطرفين إلى حال النكبة الأُولى، أقلّه من زاوية النظر لإسرائيل على قاعدةِ أنها عصاباتٌ صهيونية خارجَ القانون والأخلاق، ولو ظلَّت التموضعات الجيوسياسية عَصيّةً على التغيير لصالح اللص أو المَسروق.

أُجبِرَتْ حكومةُ اليمين المُتطرِّفة على الدخول فى اتِّفاق مع حركة حماس، لتعترف ضِمنيًّا بأنها أخفقت فى القضاء على الحركة واستعادة أسراها بالقوَّة العارية. ودافعُ الرضوخ أنَّ الإدارة الأمريكية الجديدة أرادت افتتاحَ ولايتها بربحٍ معنوىٍّ يُضافُ لرصيد الرئيس ترامب، ويتُرجِمُ عنوانًا من برنامجه الانتخابىِّ على أرض الواقع.

كان واضحًا أنه لن يستطيع إنهاء الحرب الأوراسية فى غضون 24 ساعة كما وعد، ولا سبيل للإملاء على بوتين من أى وجه، فلم يجد بديلاً عن تطويع الحليف الصهيونىِّ، ثمَّ منحَه تعويضًا نفسيًّا بإثارة عنوان التهجير، وتطويره إلى استيلاء الولايات المتحدة على غزَّة وتحويلها إلى «ريفييرا الشرق».

والحال، أنَّ البيت الأبيض يستكشفُ الأرض غالبًا، وقد هالَه مقدارُ الرفض من الإقليم والعالم، واستشعر أنَّ رؤيتَه وُلِدَت ميّتة، وليست فى وارد الإنفاذ بالتهديد أو الترغيب، ولو استمرَّ فى طَرحِها بين وقتٍ وآخر. عَمَّا قريب ستتبخَّرُ الفكرةُ من رأس الرئيس، وستذوبُ حلاوتها سريعًا من فَمِ زعيم الليكود.

نتنياهو ليس سياسيًّا هَاويًا، ولا وافدًا على التطرف باندفاعة ساذجة كما يفعل شركاؤه التوراتيّون فى الائتلاف الحاكم. صحيحٌ أنه تواطَأ مع حماس فى إفساد أوسلو، وصعدَ للسُّلطة على جُثّة رابين، لكنه يعرفُ أنَّ مسألة التهجير ليست مسارًا سهلا على الإطلاق، وفضلا على خطورتها لجهة تفجير الأوضاع فى الأراضى المُحتلَّة، فإنها تُهدِّد بنَسف مُعاهدات السلام أو الاتفاقات الإبراهيمية مع دول المنطقة، وتضييع محاولات التقارُب طوال العقود الماضية، لتعودَ إسرائيلُ دولةً منبوذةً، تُثير اشمئزازَ الجيران ورفضهم المُطلَق، ناهيك عن احتمالات الحرب.

والنقطةُ السابقة تختلفُ تمامًا فى ارتداداتها عن المناوشات المُتقطِّعة مع الفصائل، وتضعُ المنطقةَ بكاملِها على برميل بارود، أهونُ أضرارِه أن يتحوَّل الكيانُ الصهيونىُّ إلى سجنٍ كبير لساكنيه، أو معسكرٍ حربىٍّ، وأن يفتقد صِفَة الدولة ووظيفتها عَمليًّا، ولو اصطفَّ معه الغربُ وفتحَ له خزائنَه على آخرها.

إسرائيلُ أضعفُ من تطويع المُقاومة الفلسطينية، وبطبيعة الحال فإنها عاجزةٌ تمامًا عن تهجير الملايين من القاطنين وراء الخطِّ الأخضر أو داخله. والضآلةُ الكامنة فى وَعيِها العميق منعَتْها سابقًا من تنفيذ الخطَّة مع سكان غزة، بينما كانت سيناءُ بتمامِها تحت سُلطتها من ساعة احتلالها إلى استعادتها بعد قرابة العقدين.
وعلى ما فات، تُراهن دولة الاحتلال بكلِّ ما لديها على الريح الأمريكية المُندفعة فى شراع الفكرة، بانزعاجٍ حقيقى من الصحوة العربية الشرسة، وقلقٍ عميق من انطفاء حماسة البيت الأبيض؛ حتى أنها تتعثَّرُ بين الأمرين، لدرجة إرسال رسائل خاطئة، فى غير مكانها، وتُعقِّدُ الوَضْع بالنسبة لها بأضعاف ما هو عليه، لا سيَّما من جهة استعداء أطرافٍ كانت على وشك الانخراط فى مسار الحلِّ الاقتصادى.

لم يَكُن حديثُ نتنياهو عن سِعَة الجُغرافيا السعودية، وقابليَّتها لاحتضان وطنٍ بديلٍ للفلسطينيين، من قَبيل دَفع الخطَّة إلى الأمام كما يتصوّر، لكنها أعادت الموقف عقودًا للوراء، وعبَّرت فى جوهرها عن ارتباكٍ وضعفٍ يتسلَّطان على رجل تلّ أبيب القوى، ويُحفِّزانه على تطيير الشَّرَر فى كلِّ الاتجاهات، ولو أحرق أصابعه قبل الآخرين. وبالمِثْل كان كلامُه فى حوارٍ مع قناة أمريكية بعد يومين فقط، قائلاً إنَّ مصر هى مَنْ تمنعُ تهجيرَ أهل غزّة.

وفى سياقٍ عاقل، لا يُقرَأُ التصريحُ إلَّا على صِفَة الاعتراف بالتورُّط فى جريمةٍ ضد الإنسانية، ومساعٍ غير قانونية ولا أخلاقية للإبادة والتطهير العرقى، بينما تقفُ القاهرةُ فى صَفِّ الضمير والقانون والحقوق العادلة.

والرجلُ لا يلحَظُ الثغرات المنطقيَّة فيما يُسوِّقُه للعالم، لأنَّ إسرائيل لم تَعُد مَعنيَّةً منذ زمن طويلٍ بالتصرُّف كدولةٍ طبيعية، ولا باحترام النظام الدولىِّ القائم على القواعد، رغم أنه وسابقوه استحصلوا على شهادة ميلاد بلدهم اللقيط من خلال تلك المنظومة، ولا يعنى الخروج عليها إلَّا تقويض شرعيَّة إسرائيل نفسِها بالطعن فى منشأها، وستاره الوحيد لهذا ما يُواكبه من إسنادٍ غربى، يُؤَمِّنُ له مزايا الدولة المارقة، ويمنعُ عنه سيفَ المُساءلة عن الفاشيّة والمُروق.

وإذا كانت القمَّةُ العربية الطارئة ستنشغِلُ فى المقام الأوَّل بمسألة التهجير، وتُشدِّد على الموقف الإقليمى الجامع بوُجوب تثبيت الفلسطينيين على أرضهم، استنادًا إلى ما طرحَتْه مصر من بديلٍ يبدأ بالشراكة الدولية فى إعادة الإعمار، وتسريع وتيرة العودة للحياة الطبيعية دون حاجةٍ لنَقل أىِّ مُواطنٍ من غزَّة، فإنَّ المُواجَهة المُستجدَّة تقتضى بحثًا مُوسّعًا فى كلِّ البدائل المُتاحة، لا من جهة إقرار الحدِّ الأدنى من الحقوق كما هو الآن، إنما بإعادة الاحتلال إلى الخصومة المبدئيَّة على الشرعيّة، وسَحبه إلى معركةِ تطهير ثوبه من عار جرائمه الفادحة والمُتكرِّرة لثمانية عقودٍ مضت.

وليس القَصدُ هُنا أن نشتبك مع حربٍ أو أكثر، ولا أن نبحثَ فى الاستيطان وإعادة تشكيل الديموغرافيا بمنطقٍ إحلالىٍّ يلغى الآخر؛ بل أن نعود لبادئ النزاع، ونختصم الكيانَ الصهيونىَّ فى قرار تأسيسه الذى لم يُوَفِّ التزاماته الكاملة، وفى نحو 48% من عموم الأرض خُصِّصَت لدولة فلسطين، والسعى لتجديد قرار الأُمَم المُتَّحدة فى السبعينيات باعتبار الصهيونية شَكلاً من أشكال العنصرية، بل والعمل على تقويض الصِّفَة الدوليّة لإسرائيل وإسقاط عضويّتها الأُمَميَّة.

ربما تبدو المسألةُ رومانسيَّةً نوعًا ما؛ لكنها منطقيَّةٌ من زاوية القانون وطبائع الأُمور. لقد صدر القرار 181 مُتضمِّنًا النصَّ على دولتين بأحوازٍ مُحدَّدة، مع تدويل القدس وبيت لحم انطلاقًا من طبيعتهما العابرة للأديان.

وعندما أعلن آباءُ العصابات الصهيونية عن تأسيس الدولة، لم يَحوزوا اعترافَ المُنظَّمة الأُمَميَّة إلَّا بعدها بشهورٍ طويلة، وانطلاقًا من تعهُّدهم باحترامِ التزاماتهم بمُوجَب القرار المُنشئ لهم. والنبش فى الماضى، على ما فيه من تعقيداتٍ ومَصاعب، قد يكون مُفيدًا لجهة الخروج من المسار الذى فرضَه الاحتلالُ على القضية، وإعادته لأوَّل الطريق بحثًا عن الاعتراف المُتبادَل بالشرعيَّة، وتطوير آليات المُواجهة بمنطق أنَّ الهجوم خيرُ وسيلةٍ للدفاع.

يُبرِّرُ نتنياهو دعواه للتهجير، بحسب الحوار المشار إليه سَلفًا، بأنَّ قطاع غزة صار سِجنًا كبيرًا، ومن حقِّ سكانه اختبار فرصة الحياة فى سياقٍ طبيعىٍّ لا يختنقُ بالحصار وروائح الموت. وبعيدًا من أنَّ تلك النزعة الإنسانية لا تنسجِمُ مع شخصية صهيونىٍّ نازىٍّ مثل رئيس حكومة الاحتلال، فإنَّ مُجاراته فى الفكرة أخذًا ورَدًّا، وبمَعزلٍ عن حقيقة أنه القاتِلُ والمُحاصِرُ والسجَّان، تُقدِّمُ له خدمةً مجَّانيّةً فى نطاق الصراع على السرديَّة، وتُصوِّرُ مأساةَ الغزِّيين كما لو أنها وُلِدَتْ من عَدَم، أو أنها جريمةٌ دون مُجرِم.

وعلى قدر الإقرار بأولويَّة تثبيت الفلسطينيين فى أراضيهم، وكبح دعاوى التهجير وإفسادها بكُلِّ السُّبل، فإن معركةَ الرواية لا تقلُّ أهميّةً عن معارك الميدان، وإثارةَ ما نعتبرُها بديهيَّاتٍ على مسمع العالم، دائمًا ومن دون زُهدٍ أو مَلَل، شرطٌ أساسىٌّ لإبقاء القضية عند حدودها الأصيلة من دون إزاحةٍ أو تحريف، ولَجْم النزعات الصهيونيَّة المُنفلِتَة؛ بتقييدها طوالَ الوقت إلى أثقالِ جرائمِها الكُبرى، وعدم إعانتها على نَفضِ رُكام الماضى، والفوز بحُريَّة الحركة فى الحاضر بمَعزلٍ عن التاريخ.

لن يتوقَّف الاحتلال عن السير وراء سراب التطهير العرقى، وسيجد إسنادًا من الولايات المُتَّحدة أو غيرها، وصمتًا من آخرين كُلّما طُرِحَت الفكرة، والحل ليس فى إفسادِ المحاولات واحدة بعد أُخرى فحسب، بل فى سدّ أبواب إثارها أصلاً، ونقل النزاع إلى نطاق جديد/ قديم، تتساوى فيه المراكز، أو تتحمَّل إسرائيل أعباء الماضى التى أُزِيحَت عن كاهلها مع توالى مفازاتها وانكسارات العرب.

والحال أنها ورشةٌ تضامنيّة تتكاملُ فيها جهود الحكومات مع المجتمع المدنىِّ، وتتطلَّبُ إرباك العدوّ من كلِّ الزوايا، ودون التفريط فى وسيلةٍ واحدة مهما بدَتْ هَشَّةً وغير مُؤثِّرة.

من واجبِ الدُّوَل أن تتصدَّى فى النطاق الرسمىِّ لمُخطَّطات تبييض الأرض من ساكنيها، كما فى تحرُّكات الأسابيع الماضية، والمُقرَّرات المُنتظَرَة من القمَّة العربية الطارئة بعد أقلِّ من ثلاثة أسابيع، وعلى المُجتمع المدنىِّ فى المنطقة أن يُوظِّفَ علاقاته البينيَّة والعالمية، لإبقاء السرديَّة الحقيقيَّة سيّارةً ومُزدهرة، وفَسْح المجال نحو إدانة الاحتلال ومُساءلته، ووَضعِه فى نطاق المُحاكمات الرسميَّة والشعبية فيما يخصُّ القديم والجديد، بحيث لا تُبتَسَرُ القضيَّة فى آخر محطَّاتها، ولا يُجتَزَأ الصراعُ بإسقاط كُتلته الكُبرى الحاكمة، وإبقاء جانبه الساخن فيما يتّصل بشريط غزَّة الساحلىِّ أو بِضع مُستوطناتٍ فى الضفَّة الغربية، وهى مسألةُ حتى لو حسمناها سريعًا، ستظلّ أقلّ كثيرًا من الحقوق الطبيعية المشروعة لأهل فلسطين.

على الفعاليات المَدَنيَّة أن تلعب دورًا مُباشرًا فى تثبيت السرديَّة، وأوّلها من خلال المُنتدَيَات ووُرَش العمل وإصدار المطبوعات بكلِّ اللغات، ومُخاطبة المُؤسَّسات الأُمَميَّة والوطنية فى أنحاء العالم، وتكثيف الرسائل من خلال الإعلام النظامىِّ والمُؤسَّسات الرقميّة.

ومن المُفيد بَحثُ مُقاضاة إسرائيل بعشرات القضايا عن كلِّ الوقائع السابقة واللاحقة، وإثارة مسألة شرعيَّتها القانونية فى ضوء تجاوزها على قرار التقسيم، وتنظيم تظاهُراتٍ وأنشطةٍ احتجاجيَّة فى عواصم الغرب الكُبرى، تُرافقُها مُؤتمراتٌ وندواتٌ علميّة لبحث المسائل الفنية والقانونية على وجهٍ تخصُّصىِّ مُعمَّق.
وإذا كان مُتعذِّرًا أن يُساق نتنياهو إلى قفص الجنائية الدوليّة، فربما يكون مُفيدًا وضعه فى أقفاص المُحاكمات الشعبيَّة، وتنشيط موجةِ مُساءلةٍ عالميَّة واسعة يُوصَمُ فيها بما جَنَاه على الفلسطينيين، وإسرائيل ذاتِها، ويُعادُ تقديمه للعالم على صُورته الحقيقية، كنُسخةٍ مُحدَّثة من نازيّة هتلر ونظامه العنصرى، ورجلٍ يتلطَّى وراء الهولوكوست القديم، ليُوقِدَ الأفرانَ لملايين المدنيِّين العُزَّل من دون انقطاع، ويُجرّدهم من إنسانيَّتهم بأحطِّ الصُّوَر، وبما يتجاوزُ كلَّ انتهاكات الرايخ الثالث، وسيرته الدموية التى تتضاءل جدًّا بالمقارنة مع ما يحدثُ فى فلسطين لأكثر من سبعين سنة.

أصلُ السرديَّة أنَّ الغرب غَسَلَ يديه من ذنب اليهود بإزاحتهم إلى أرض العرب. حصلوا على تعويضٍ من الطرف البرىء ثمَّ تمادوا فى ظُلمه وإنكار وجوده من الأساس. والحال، أنّه احتلالٌ ترسَّخَ بانحيازٍ عالمىٍّ لا سندَ له من خُلُقٍ أو ضمير، وعلى المُتسبِّبين فيه أن يُعيدوا الأُمورَ لنِصابِها، على الأقلّ لناحية الدفاع عن القليل الذى استبقَوه لأصحاب الأرض، ومَنْع الصهاينة النازيِّين من إعادة تكرار ما حدثَ معهم من الأوروبيِّين بحقِّ الفلسطينيين الأبرياء.

المسألةُ ليست نزاعًا على عشرات الكيلو مترات فى غزَّة، أو آلاف فى الضفَّة الغربية لنهر الأردن. وليست مواجهةً بين دولةٍ وفصائل مُسلّحة، بل بين حَقٍّ وباطل، وإن كان عسيرًا إحقاقُ الحقِّ بصورته المثالية، فليس أقلَّ من إبطال الباطل وكبح انفلاته. وإثارةُ العناوين القديمة، وما يتخيَّلُ المُحتلُّ أنه خرج من نطاق التداول، قد تُعيدُ تخليقَ المسار السياسى الضائع، وضَبطَه على قاعدةٍ صالحة للمُضىّ قُدمًا نحو تثبيت توازُناتٍ عادلة.

ليس فى مقدور أحدٍ أن يُمرِّر التهجير على جُثثِ مليونين فى غزَّة، وضعفهم تقريبًا فى الضفَّة، وفكرة «ريفييرا الشرق» خيالٌ ساذج لا يقومُ على ساقين قويَّتَيْن، ومن المُحتمَل أنها أفكارٌ فجّة تُساقُ لتطبيع حال الضِّيق والاختناق، وإجبار العرب على قبول ما كانوا يرفضونه، مع اعتباره ربحًا قياسيًّا يُستَدرَكُ فى المتر الأخير قبل الضياع الكامل.

علينا أن نُفكِّر بالطريقةِ نفسها، وأن نضغط على أعصابهم كما يضغطون على أعصابنا، وألَّا ننخرط معهم فى السرديَّة الزائفة، وطالما أننا فى مُنازلةٍ وُجوديَّة لا سبيلَ للخروج منها قريبًا؛ فليَكُن التصعيد فى مُقابل التصعيد، والتشدُّد ردًّا مثاليًّا على التشدُّد.

ستؤكَّدُ القمَّةُ العربية الطارئة ما لا يحتاجُ لتأكيد، وما بات من بديهيات الموقف الإقليمىِّ الراسخ. التهجير حُلمٌ لن يكتمل الآن، ولا فى أىِّ زمنٍ قريب، لكنهم لن يتوقَّفوا عن إثارته بين وقتٍ وآخر، والاستثمار فيه، والضغط به لاستقطاع مزيدٍ من التنازلات.

وإزاء المُواجهة المشحونة على امتداد الجغرافيا، تظلُّ معارك العقول والسرديًّات قلبَ الصراع الصُّلب مع إسرائيل، وبها وحدها تتحصَّنُ القضية وتتجاوزُ محاولات الإفناء، وتتضاءل التضحياتُ وتَصغُر فواتير الحروب، وبقَدر ما أخفقَتْ الفصائلُ من جهة الاستثمار فى السلاح، وارتدَّ عليها «الطوفان» وبالاً، يتعيَّن عليها أن تستثمر فى الذاكرة والتوثيق والدعايات، وأن تتخلَّى قليلاً عن نَزَق الخطابة المُسلَّحة ببنادق مُؤدلَجَة، وعن أوهام النصر على تلالٍ من الركام والأشلاء.

كان مَشهدًا مُؤسِفًا ويُلامس الوقاحة، أن يحتفل بعضُ قادةِ حماس بالنصر الموهوم مع خامنئى، ويُباركوا له شراكةَ «الشيعية المُسلَّحة» فى صناعته، بينما تُواجه القضيَّةُ أشدَّ مراحلها اختناقًا بأثر مُقامرة السنوار، وما ضُخَّ فى شرايينه من وقود الجمهورية الإسلامية وميليشيَّاتها الرديفة.

لا سبيلَ إلى اختصام إسرائيل بالنار والبارود، مع فوارق القوّة الطاغية، كما لا بديلَ عن اختبار مساراتٍ غير ما أورثَتْ القضيَّةَ هزائمَ ثقيلةً تتناسَلُ من أرحام سابقاتها.

السياسةُ ضرورةٌ ظَرفيَّة، واختيارٌ عاقل فى عالمٍ ينحاز للأقوياء، وإذا كان الفلسطينيون ضُعفاء على الأرض، وبحسابات القتال وميادينه المكشوفة، فإنهم أقوياء فى المَظلَمَة والسرديَّة العادلة، شريطةَ الوعى العميق بها، وحُسن استثمارها، ومعرفة أنَّ الحربَ واحدةٌ من صُوَر السياسة، وإن فقدَتْ الصورةُ فاعليَّتها، فلا بديلَ عن الرجوع إلى الأصل.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة