نبحث في الحياة دومًا عن معان نتفهم من خلالها طبيعتها المادية والمعنوية على السواء، وأكثر ما يحير الوجدان، ويصبه بالدهشة، صعوبة الإدراك، التي تتأتى من غياب فقه مغزى ما نمر به من مواقف، تحمل سلوكيات، أو تصرفات، أو ممارسات، أو كلمات تصدر من الآخرين؛ فعندما نصل لعمق الفهم؛ فإن مخرجاتنا تصبح معبرة، عما يجول في صدورنا، وتستريح له أفئدتنا، ولا تنكره قلوبنا، وهنا نبحث عن الطريقة التي تجمعنا سويًا على قاسم مشترك؛ حيث فلسفة الاحترام المتبادل فيما بيننا.
فالطبيعة الإنسانية تميل إلى الاجتماعية، وهذا يجعلنا دون استثناء نسعى للتواصل ونحب التعارف ونقبل التشارك في أمور بعينها، وهنا نؤكد على معيار نجاح العلاقات بين بني البشر؛ ألا وهو الاحترام المتبادل الذي يشعرنا بالتقارب في العديد من الأمور، قد يكون منها استراتيجيات التفكير، أو بعض السمات الشخصية، أو قيم نبيلة تعززها المحبة والتآلف، أو تكوين رصيد من العلاقات السوية التي تسهم في تحقيق غايات خاصة وعامة، أو تفهم ماهية الأخوة التي تجتمع على الإنسانية؛ ومن ثم لا تتقبل ما عداها من صور تمييز وتفرقة وعنصرية.
اعتقد أن بوابة الاستثمار في الطاقات البشرية، تقوم على مبدأ رئيس، وهو الاحترام المتبادل بين الجميع؛ حيث الاجتماع على مائدة الإعمار، واتباع السبل التي تؤدي إلى مسارات النهضة والتنمية في شتى مجالات الحياة، وتآلف القلوب حول تحقيق الغايات الكبرى التي تعزز نسيج الإنسانية، وتنزع فتيل الفرقة والتشرذم، وتسهم في هجر صور الخلاف التي تنال من الجهود وتضعف العزيمة، وهنا نصل لمنشود عظيم خلقنا من أجله؛ ألا وهو تحقيق ماهية الاستخلاف.
أرى أن فلسفة الاحترام المتبادل ترتكز على ممارسة قويمة كثيرًا ما نوجه إليها في كل وقت وحين، بين الجميع دون استثناء، والتحدث هنا عن المناقشة والحوار التي تقوم على أسس ومبادئ صريحة تضمن نجاحها، وتسفر حتمًا عن نتائج مثمرة، منها تعزيز الانسجام الفكري بين الطرفين، وفتح مسارات التفكير المرن والمنتج الذي يساعد في حل المشكلات وفك شفرة القضايا العويصة؛ ومن ثم صنع قاعدة من التفاهم المشترك التي تزيد من أطر التواصل، وعمق الفهم سواءً لشخصية من تحاور أو للقضية محل الاهتمام.
نوقن جميعًا أن غياب لغة الحوار الراقي بين الطرفين تؤدي حتمًا لتوسعة الفجوة والهرولة نحو بوابة النزاعات التي تسمح بتوظيف أدوات غير مصرح بها في أعراف سماحة الإنسانية؛ حيث الخصومة التي تؤدي إلى القطيعة، وقد تصل لحد الأذى من الآخر؛ لذا أخطر ما نخشاه أن نتنازل عن ماهية الاحترام ونمتطي جواد الصراع الذي نصل بواسطته لأفق مسدود؛ حينئذ تضيق السبل وينفك رباط الصبر؛ ومن ثم نتحول من الصورة السلمية إلى صيغة العداء المباشر الذي ينال من الإنسانية.
ويعد التسامح سفينة النجاة من تموجات الخلافات والصراعات التي باتت تملا الأرجاء؛ فقد لوحظ تصدع الكيان الأسري، وتفاقم حالات العنف المجتمعي بمختلف أطيافه، وغرق المجتمع الدولي في سلسلة من النزاعات والصراعات الصلبة والناعمة، ومن هنا تتأكد العلاقة الإيجابية بين التسامح والاحترام المتبادل، إذ يهيئان معًا المناخ الملائم لجلوس المتخاصمين أو المتنازعين أو المختلفين على مائدة المفاوضات، بما يفتح الباب أمام تقارب فكري يتيح الوصول إلى حلول مرضية لجميع الأطراف.
ولابد أن نعمل بجدية على غرس فلسفة الاحترام المتبادل في النفوس، حتى يسهل علينا تصويب ما يشوب الفكر من اعوجاج، وتحسين الممارسات التي من شأنها أن تقرب وجهات النظر، كما ينبغي أن نسعى إلى ترسيخ القيم التي تسهم في تعزيز أشكال التبادل الإيجابي بين الجميع؛ وعلى رأسها الصبر، وضبط النفس، والإيثار، والحكمة، وغيرها من القيم الفضيلة التي تروي الوجدان وتسمو بالإنسان.