خيال الظل.. حكايات فن سبق المسرح والسينما

الجمعة، 05 ديسمبر 2025 08:00 ص
خيال الظل.. حكايات فن سبق المسرح والسينما خيال الظل

أحمد إبراهيم الشريف

قبل أن تضاء شاشات السينما، وقبل أن تتعرف البشرية على الكاميرا والفيلم، كان هناك ستار من قماش، ومصباح خلفه، ودمى من جلد رقيق تتحرك على إيقاع صوت الحكاء.. هذا هو عالم "خيال الظل"، الفن الذى سبق الصورة المتحركة بقرون، ورافق الحكاية الشعبية فى أسواق المدن وحوارى الأحياء القديمة، وظل طويلًا "سينما الفقراء" ودفتر حكايات الناس.

يعرف خيال الظل بوصفه شكلاً من أشكال المسرح الشعبى يعتمد على دمى مسطحة تُصنع من الجلود أو الورق المقوى، تحرك بعصى رفيعة خلف ستار مضىء، فيرى الجمهور على الجهة الأخرى ظلال الشخصيات وهى تتحرك وتتحدث، بينما يقف "المُخايِلى" خلف الستار ممسكًا بالخيوط وبالصوت معًا، فيحيل الدمى الجامدة إلى كائنات نابضة بالحياة، تتكلم وتغنى وتتشاجر وتتآلف، يجمع العرض فى لحظة واحدة بين الحكى والأداء، بين الصورة والصوت، فى بناء بسيط لكنه شديد الفاعلية.

تختلف الروايات حول منشأ هذا الفن، لكن أغلب الدراسات تعود بجذوره إلى الشرق الأقصى، إلى الصين أو الهند فى الألفية الأولى قبل الميلاد، قبل أن ينتقل مع قوافل التجارة والثقافة عبر طريق الحرير إلى بلاد فارس ثم إلى العالم الإسلامي، وفى الفضاء العربى تشير المصادر إلى إشارات مبكرة لخيال الظل فى العصر العباسى، غير أن حضوره الواضح والمتماسك فى مدننا ظهر لاحقًا مع انتشار الدولتين الفاطمية ثم الأيوبية والمملوكية، حيث عرفت القاهرة هذا الفن واحتضنته، ليصبح جزءًا من مشهدها الليلـى فى المقاهى والميادين والموالد والاحتفالات.

فى مصر تحديدًا، أفسح الناس مكانًا واسعًا لخيال الظل فى وجدانهم اليومى، فكان جزءًا من طقس السهر فى المقاهى القديمة، ورفيقًا للاحتفالات الشعبية، يقدم قصص الأبطال والفتوات والعشاق والظرفاء، ويُسقط عليها هموم الناس وأحلامهم. وبين أيدى "المخايِلية" تحول الستار الأبيض إلى شاشة أولى لحكايات المصريين؛ تتبدل عليها الوجوه والأصوات، ويبقى الجمهور فى موقعه نفسه، منتظرًا الحكاية الجديدة.

أحد أهم الأسماء التى ارتبطت بمسرح خيال الظل فى تراثنا العربى هو الكاتب والطبيب محمد بن دانيال، القادم من الموصل إلى القاهرة فى القرن السابع الهجرى / الثالث عشر الميلادى هربًا من الغزو المغولى، فى حي بين القصرين قدم عروضه وكتب نصوصه التى تُعد من أوائل النصوص المسرحية المكتوبة بالعربية، مثل "طيف الخيال" و"عجيب وغريب"، حيث مزج السخرية بالنقد الاجتماعى، ومرر عبر الظلال نقدًا لطبائع الناس والسلطة والفساد، بلغة عامرة بالفكاهة والإيحاء. هكذا، لم يكن خيال الظل مجرد تسلية، بل منبرًا مبكرًا للدراما العربية المكتوبة على لسان "الظل".

ومع أن السينما ستظهر بعد ذلك بقرون، فإن عناصر التجربة السينمائية كانت حاضرة فى خيال الظل: شاشة (الستار)، مصدر ضوء، شخصيات تتحرك، مشاهد متتابعة، نص مكتوب أو مرتجل، ومؤثرات صوتية وموسيقية بسيطة. لذا يبدو وصفه بأنه "السينما قبل السينما" توصيفًا دقيقًا؛ فالمتفرج كان يجلس فى عتمة نسبية، يحدق فى سطح مضىء تتحرك فوقه الظلال، ويتلقى عبرها قصة لها بداية وذروة ونهاية، تمامًا كما يفعل اليوم فى قاعة العرض، مع اختلاف التقنية واتساع الإمكانات.

إلى جانب ذلك، لعب خيال الظل دورًا اجتماعيًا وثقافيًا لا يمكن تجاهله، فقد أسهم فى تثبيت الحكاية الشعبية وتداولها، وفتح فضاءً مشتركًا يجتمع فيه الفقير والغنى، المتعلم والأمى، ليستمعوا إلى الحكاية نفسها، ويضحكوا على نفس "القفشة"، ويتأملوا معًا نقدًا ساخرًا للظلم أو الجشع أو استبداد الحاكم. كان "الظل" يوفر حماية رمزية للفنان؛ فهو لا يظهر بجسده ووجهه، بل يختبئ خلف الدمى وصوت الشخصيات، فيقول ما لا يمكن قوله مباشرة، ويترك للجمهور أن يلتقط الرسائل.

ومع تطور المدينة العربية فى القرن العشرين، ودخول السينما ثم الإذاعة والتليفزيون، بدأ جمهور خيال الظل يتراجع، التكنولوجيا الجديدة خطفت الأبصار، وصارت الصورة أكثر بريقًا والصوت أعلى، بينما ظل المخايِلى محتفظًا بوسائله اليدوية البسيطة، وبدائرة تأثير محدودة غالبًا فى الأحياء الشعبية وبعض المهرجانات، كثير من الدمى القديمة أُهملت أو فُقدت، وبعض المهارات الدقيقة فى النحت والقص والتحريك لم تعد تُنقل بين الأجيال بالوتيرة نفسها، فأصبح الفن مهددًا بأن يتحول إلى مادة فى الكتب بدلاً من أن يبقى ممارسة حية على المسرح.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب