شحاتة زكريا

بين بناء المستقبل واحتمال الحاضر

الثلاثاء، 30 ديسمبر 2025 01:39 م


ليس سهلا أن تطلب من الناس أن تنظر إلى المستقبل بينما أقدامها عالقة في وحل الحاضر. وليس عادلا في الوقت نفسه أن نُحمِّل الدولة وحدها عبء لحظة عالمية مرتبكة تتشابك فيها الأزمات وتتسارع فيها التحولات وتدفع المجتمعات كلها ـ لا مصر وحدها ـ ثمن سنوات من اختلالات متراكمة. نحن ببساطة نقف في منطقة فاصلة: نُشيد الغد ونتحمل اليوم .. الدولة المصرية اختارت طريقا صعبا منذ سنوات طريقا يقوم على إعادة بناء شاملة: بنية تحتية شبكات طرق، طاقة، موانئ، مدن جديدة، واستثمارات طويلة الأجل. هذا الخيار في جوهره لا يقاس بعائد فوري ولا يترجم سريعا إلى تحسن مباشر في حياة الناس. هو رهان على الزمن وعلى قدرة الاقتصاد لاحقا على التنفس وعلى أن ما يبنى اليوم سيخفف أعباء الغد .. لكن المواطن لا يعيش في المستقبل. المواطن يعيش في فاتورة، وسوق، وإيجار، ومدرسة، ودواء. يعيش في تفاصيل يومية لا تعرف لغة المؤشرات ولا صبر الجداول الزمنية. هنا تحديدا تتشكل المعضلة: كيف نقنع الناس بجدوى طريق لم تصل ثماره بعد دون أن نهمل معاناتهم أو نطلب منهم احتمالا مفتوح النهاية؟

الحقيقة أن الشعور العام اليوم ليس رفضا للبناء ولا عداء لفكرة الإصلاح بل هو إرهاق. إرهاق من طول الطريق من غموض المدى الزمني ومن إحساس متكرر بأن العبء موزع بشكل غير متوازن. الناس لا تسأل: لماذا نبني؟ بل تسأل: إلى متى نتحمل وحدنا؟

والأمانة تقتضي القول إن الدولة في لحظات كثيرة حاولت أن توازن بين المسارين: حماية الاستقرار الكلي من جهة وتخفيف الضغوط الاجتماعية من جهة أخرى. لكن حجم التحديات داخليا وخارجيا جعل هذا التوازن هشا. الاقتصاد العالمي مضطرب أسعار الطاقة متقلبة سلاسل الإمداد غير مستقرة والتوترات الإقليمية تضغط على كل الدول بلا استثناء. في هذا السياق يصبح الحفاظ على تماسك الدولة نفسه معركة يومية .. غير أن الوعي العام لا يتشكل بالتحليل الاقتصادي وحده بل بالإحساس بالعدل. العدالة هنا لا تعني المساواة الحسابية بل شعور المواطن بأن جهده مُقدر وأن التضحية موزعة وأن هناك من يسمع لا من يشرح فقط. أخطر ما قد نصل إليه هو أن يتحول الصبر من قيمة وطنية إلى عبء نفسي أو أن يفهم التحمل على أنه واجب بلا مقابل معنوي .. الرهان الحقيقي في هذه المرحلة ليس فقط على المشروعات الكبرى بل على إدارة اللحظة الاجتماعية. على الخطاب الذي يُصارح دون أن يُربك ويشرح دون أن يُبرر ويعترف بالضغط دون أن يُضعف الثقة. الناس لا تطلب وعودا كبيرة بل وضوحا صادقا: أين نحن؟ إلى أين نذهب؟ ومتى يشعرون بأن الكفة بدأت تميل لصالحهم؟

بناء المستقبل لا يكون فقط بالخرسانة والاستثمار بل ببناء الثقة. والثقة لا تُفرض بل تكتسب. تكتسب حين يشعر المواطن أن صوته مفهوم وأن ألمه ليس رقما في تقرير وأن الدولة لا تطلب منه الصبر باعتباره خيارا وحيدا بل تقدمه باعتباره شراكة مؤقتة لها نهاية.

في المقابل لا يمكن تجاهل حقيقة أن الانهيار ليس خيارا وأن التراجع عن الإصلاح له كلفة أشد قسوة على الفقراء قبل غيرهم. الدولة التي تتوقف عن البناء خوفا من الضغط تحكم على نفسها بدوامة أكبر. لكن الدولة التي تبني دون أن تمسك بيد الناس تخاطر بفجوة شعورية قد تتسع مع الوقت.

نحن إذن أمام معادلة دقيقة: الاستمرار في بناء المستقبل مع إدارة عادلة لاحتمال الحاضر. تقليل الفجوة بين القرار وتأثيره بين المشروع الكبير وحياة المواطن البسيطة بين لغة الأرقام ولغة الناس. هذه ليست مهمة اقتصادية فقط بل مهمة سياسية واجتماعية وأخلاقية .. المواطن المصري عبر تاريخه أثبت أنه قادر على التحمل حين يفهم وقادر على الصبر حين يثق. لكنه مثل أي إنسان يحتاج إلى إشارات أمل ملموسة ولو صغيرة. تحسن تدريجي في الخدمات ضبط حقيقي للأسواق إحساس بأن القادم أفضل ليس شعارا بل مسارا.
بين بناء المستقبل واحتمال الحاضر تقف مصر اليوم لا في موضع ضعف ولا في منطقة راحة. تقف وهي تحاول أن تمسك العصا من منتصفها وأن تعبر زمنا عالميا صعبا بأقل خسائر ممكنة. النجاح في هذه المرحلة لن يقاس فقط بما نُنجزه من مشروعات بل بقدرتنا على عبور اللحظة دون أن ننكسر ودون أن نكسر ثقة الناس.

فالمستقبل لا يُبنى وحده والحاضر لا يُحتمل وحده. وبين الاثنين تُختبر الدولة ويُختبر المجتمع ويُكتب شكل الغد.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة