اصطبغت إسرائيل فى عقودها الأخيرة بدرجة قاتمة من اليمين المتطرف، ويتواصل التحول فى الخطاب العام، وعلى صعيد السلوكيات الشعبية والرسمية أيضا. وسمة تلك الأيديولوجيا، قومية كانت أم دينية، أنها لا ترى الآخر إلا مجالا لإثبات الذات، وتوكيد حضورها المهيمن؛ ولو انطوى على مخاطر وتهديدات حقيقية لفكرة الدولة النقية. فيصير الاحتلال صورة من احتواء الأضداد، وتعريض التوازنات الديموغرافية لاختلالات حقيقية، قد لا يبرز أثرها الثقيل حاليا، لكنه مع الوقت والتعويض عن فارق القوة بطاقة البيولوجيا ونضالات الأرحام، ستتولد عنه تركيبة غير قابلة للابتلاع أو الإلغاء، وبطبيعة الحال لن تتوقف عن تخليق المثيرات والأزمات بلا توقف أو حلول ناجعة.
كان الميزان مختلا فى زمن النكبة الأولى، وعملت الآلة الصهيونية على ضبطه على مستويين: تخفيض أعداد السكان الأصليين بالقتل والطرد، تزامنا مع ترقية الوافدين بالاستقطاب والإغراءات النفسية والعقائدية. قبل 1948 توزعت الكتلة البشرية بواقع 1.4 مليون فلسطينى تقريبا، مقابل ما يزيد قليلا على 600 ألف يهودى، بزيادة تقارب نصف المليون خلال آخر عقدين. قُتل الآلاف وطُرد 700 ألف؛ فتوازنت الأعداد تحت ضغط المفاجأة والإرباك، واندفاعة المهاجم ورخاوة المدافعين.
ثم بدأت تميل لجانب المحتل بأثر الهجرات الكثيفة، فسجل 3.2 مليون فى 1973 مقابل 1.1 مليون فلسطينى فى الضفة الغربية وقطاع غزة، و6.4 مليون فى 2006 مقابل 3.9 مليون، مع عدة مئات من الآلاف الباقين فى قراهم الأصلية وراء الخط الأخضر. واليوم تتعادل الأرقام مجددا حول مستوى 7 ملايين من الجانبين، بالرغم من فائض البطش والتقتيل والإزاحة الناعمة بسد أبواب الأمل على الضحايا.
وفى المحيط العربى القريب من نحو 30 مليونا فى 1948 إلى زهاء 55 مليونا 1973 وما يزيد على 138 مليونا فى 2006. الأرقام تقريبية وفيها هامش خطأ طبعا؛ لكنها دالة على الحال ومعبرة عن الفكرة: الدولة العبرية تسبح فى بحر لا سبيل إلى تجفيفه أو ضبط أمواجه، وتتساوى فيه احتمالات الطفو والغرق؛ إن لم يكن اليوم فعلى المدى البعيد.
الديموغرافيا عبء إسرائيل، والقنبلة العنقودية التى تجلس فى قلبها وتتلفّح بها. وأمامها تسقط كل التُرّهات عن السردية التوراتية من النيل إلى الفرات؛ لأن التوسُّع يُذوّبها فى الآخر بأكثر مِمّا يُحكّمها فى مصيره. بينما لم تحسم صراعها الأصيل بعد، ولن تحسمه؛ لنفترض أنها مُقبلة على ما بعده، أو تُقدِّم فى سُلّم أولوياتها ما تفرض الظروف عليها أن يكون متأخرا، وفى عداد التناقضات الثانوية.
غزّة قبل الطوفان كانت فى حدود مليونين و300 ألف نَفس، وما من إحصائيات مُحدّثة؛ لكنها على الأغلب تدور الآن فى النطاق ذاته؛ إن لم تزد عليه. بعد 70 ألف قتيل وعدّة آلاف رُحِّلوا بالاحتيال الناعم على الموقف من التهجير، تكفّلت أرحام الغزّيات بالتعويض. وليس القصد ابتذال الدماء أو التهوين من الخسائر؛ إنما توسعة قوس الرؤية للوقوع على جوهر الصراع الصلب، وثِقَل القضية الحقيقى الذى لن يضيف إليه السلاح، ولن تنزح منه السياسة.
غير أن الاستخلاص السابق لا يُسوّغ الاستخفاف بمعاش الناس، أو تقدمة التضحيات المجانية تطوّعا وعن غير احتياج أو ضرورة. مغامرة السنوار فى صبيحة السابع من أكتوبر كانت خطيئة كاملة؛ لأنها فتحت الباب للعدو أن يُجرّب جولة جديدة من ترشيق الوجود الفلسطينى، وأخطر ضرباته كانت فى المعنوى لا المادى، بإشاعة الرعب والتيئيس أوّلا، وتحويل نقطة القوة لدى المنكوبين إلى عامل إضعاف وترويض نفسى.
صحيح أن المتمسكين بالبقاء كثيرون؛ إنما لو فُتِحَت الأبواب على مصاريعها قد نتفاجأ بكثافة الراحلين. صار التكاثر عبئًا على الاجتماع من جانبين: انعدام القدرة على تدبّر كُلفته فى الداخل، واندلاع الرغبة فى تأمين مُستقبله بعيدًا من القضاء المُبرم بالجوع والموت، وفى خارج أكثر اتساعا للآمال وتمكينا من فرص الحياة والازدهار الشخصى.
وإذا كانت المقاومة حقًّا لا مراء فيه؛ فإن مُجرّد الوجود الصلب من تجلّياته الإبداعية، حتى لو أُغلِقت عليه ميادين العُنف أو غُرف التسويات الهادئة. ذاك الذى سمح للكُتلة الباقية بعد النكبة أن تتضاعف عشر مرات أو يزيد، بالرغم من طوابير الشهداء وزحام حقائب المُغادرين، فيما لم يكُن بمقدور الصهاينة أن يُحافظوا على التناسُب بدون تقنين الجنسية بالديانة وإغراء اليهود بمزايا القدوم إلى أرض المعاد. ويظل الخزّان محدودًا بنحو خمسة عشر مليونا يتوزّعون فى أرجاء الأرض، أغلبهم ما فكّروا فى الوفادة أصلا، وإلا كانوا فعلوها فى سابق السنوات.
ولا خلاف على نهم التوراتيين وطمعهم فى الأرض؛ لكن المُحرّك الأساسى لهم فى الراهن على الأقل، يتحدّد بالبحث عن تسييد تصوّر وحيد عن الأمن خارج نطاق التعايش والمساكنة الهادئة، ومن دون إقبال على تقديم التنازُلات الضامنة لتحقيق ذلك بأعباء أقل.
وعندما قال نتنياهو إنه ماضٍ فى تقطيع الخرائط، وإعادة ترسيم التوازنات الجيوسياسية على هوى تل أبيب وتفضيلاتها، كان يصخب من حنجرة لا يتّسع لها قفصه الصدرى، ويعرف قبل غيره أنه غير قادر على إنجاز المهمّة أصلاً، أو على حماية الحدود المُتخيّلة لو أعانه الغرب عليها، أو دانت له بهشاشة الشرق واستضعافه، وهوانه على نفسه قبل الطامع والقامع.
لم يُحدِّث أحد من آباء الدولة نفسه بقيادة الإقليم، ولا استقر على منامٍ إلا وإحدى عينيه مفتوحة على آخرها؛ حتى فى أوقات انتصاراتهم وتجريع خصومهم كؤوس السمّ غصبًا أو ارتداعا. تقبّلوا قرار التقسيم على أمل أن يرفضه العرب، وبادروا بالعدوان خشية الاستيقاظ فجأة على طوق من النار.
وأغلى أمانىّ شيمون بيريز مثلاً على صعيد التقدّم للأمام وانتزاع ما لا يفوق قدرته على المضغ، أن تتكامل المعرفة الإسرائيلية مع مال الخليج وثروة مصر البشرية، كما قال فى كتابه المعروف «الشرق الأوسط الجديد»، والضلعان العربيان اليوم أبعد ما يكون عن إغلاق المُثلثّ. بينما كان نتنياهو يختزل المسألة للأبد فى شقّها الوجوى المستحيل على التوفيق، مُبرّرا التطرّف والوحشية كخيارين دائمين بالبحث عن «مكان تحت الشمس».
على أن الحرب إذا قُضِى سلفا بخسارتها؛ فالواجب ألا تُخاض من الأساس. والسلام الظالم لا يُمكن أن يكون سلاما بطبيعة الحال، ولا طريق بين الاثنين إلا عبر القبض على المُتاح انتظارا لأن تتغيّر الظروف لاحقا. لن يتوقف الجناة عن نزعتهم الدموية، ولن يملّ الضحايا من اختراع طُرق بديلة لهضم التحديات والقفز على دورة التاريخ المائلة لصالح غريمهم.
وحال غزّة اليوم فيها ما يغنى عن الإفاضة فى الشرح والتفسير. إذ كانت 365 كيلومترا مربعا مُختنقة بسكانها، وصارت واقعيا نصف تلك المساحة مع كل العدد، ويزيد أن تلال الركام تُنازعهم فيها، وتُطوّقهم بحصار أشد من مُحاصرة جيش الاحتلال. وغاية المُنى أن يتوقف القتل، ثم أن يتوفر الأكل، وتستقر الأوضاع، وينسحب الجنود، ويُعاد الإعمار، ويجرى تأهيل منظومة حُكم وطنية من رحم الإدارة الانتقالية، وفى الأخير بعد سنوات طويلة قد نعود إلى ما قبل الطوفان، أو أقل منه، أو لا نعود من الأساس.
كأن النضال فى عُرف حماس أن تُحرَق الطاقة كلها فى دوّامة دائرية لا تُفضى إلا إلى خط البداية، وعلى أردأ مِمّا كان قبل الانطلاق. وذاك التصوّر لا يضع إسرائيل فى مواجهات حقيقية كما يتوهّم الواهمون؛ لأنها تتكفل بالتخريب وينوء غيرها بالعمارة، وتُهدَى إليها الذرائع عن طيب خاطر، وتُفَكّ قيودها لتُفلت مُبكرًا من امتحاناتها المُرجأة، مع مواصلة التأجيل بعد كل فاصل يعود بالبلاد والعباد إلى نقطة الصفر.
ليس الجنون فى مسلكها الإبادى فحسب؛ بل فى اتّصالها الوثيق بضحاياها بينما تجِدّ فى التعبير عن الانفصال. وأى تصوّر عاقل؛ كان يُوجِب عليها أن تعزل نفسها عن المحيط لا أن تندمج فيه، أى أن تُبادر لحل الدولتين وتُعلّى الحدود والأسوار بينهما، وليس أن تُسيّل الجغرافيا وتتخلّل فضاءاتها العربية بالاستيطان والتعشيق الذى سيقود حتمًا إلى ذوبان غير محسوب، أو صدام فوق الاحتمال وإمكانات الاستيعاب والترويض.
لم يكُن شارون حمامة سلام عندما أقدم على «فكّ الارتباط» مع القطاع قبل عشرين سنة. تاريخه معروف فى العسكرية والسياسة، وقبره بعد أحد عشر عاما من موته ينضح بالدم الذى أراقه طيلة حياته المليئة بالجرائم والموبقات. وكل المسألة أنه استشعر كُلفة الإقامة، ومستقبل الحصار فى بيئة مُحاصَرة. واليوم يُنادى المُتطرّفون بالعودة إلى غزة، وتعهّد وزير الأمن يسرائيل كاتس، أمس، بتنشيط الاستيطان فيها مُجدّدًا، على أن يحدث فى التوقيت المُناسب، ودون التفات إلى الاعتراضات.
طُغمة الحُكم اليوم تُشارك أسلافها فى الهمجية، ولا حظّ لها من خبراتهم وعُمق استيعابهم للدروس. وما يقولونه يُعبّر عن رغبة فعلية؛ لا يسترعيهم ما وراءها من إعادة إحياء المقاومة على صورة العمل الفردى، وإعانة الفلسطينيين على تصحيح أخطاء التوحُد، أو بالأحرى الانقسام، ضمن تنظيمات وتيّارات أيديولوجية، تُسقط أمراض التشظى على القضية، وتُمكّن العدو من رصد طريدته، والذهاب إلى اصطياد الحالة النضالية فى عناوين واضحة، وكاسرة أيضًا.
بيد أن مقصود الرسالة اليوم يتّسع عن مُجرّد التمُدّد الجغرافى، والحنين العاطفى الساذج إلى الرجوع لكُتلة «جوش قطيف» أو الاسترخاء على ساحل غزة. يحزم نتنياهو حقائبه إلى فلوريدا مطلع الأسبوع المُقبل، ويعرف أن خطة ترامب ستكون فاتحة الكلام مع الرئيس الأمريكى، وبقدر ما يتحضّر بأوراق المُقايضة بين الجبهات، سعيًا إلى إبقاء إحداها على الأقل ساخنة وصالحة للاستثمار السياسى قبل موسم الانتخابات، فإنه سبق أن أخذ علمًا بقرار واشنطن فى سوريا، ولا يرى منها حماسة لتجديد الهجوم على إيران، وقد تُفاجئه بالحفاظ على رتابة الساحة اللبنانية كما هى، ما يعنى أنه قد يجد نفسه مُضطّرًا للتخلّى عن جبهة القطاع دون بديل؛ لذا يُدير مُحرّكاته من خلال وزرائه ومُعاونيه ليُوحى بالتنازع والاختلاف، ويفتح أية ثغرة ممكنة للهروب من الكمين المُحتَمَل.
الصحافة اليمينية الداعمة له ناشطة للغاية فى تأليب الرأى العام ودق طبول الحرب بوتيرة مُنتظمة. رئيس أركانه إيال زامير يقول إن الخطّ الأصفر سيكون حدودًا دائمة وخط دفاع مُتقدّمًا، ويُعقّب كاتس بالفكرة ذاتها ويُطوّرها إلى الاستيطان، رغم عُمق الشقاق والخلافات بين الرجلين. سموتريتش وبن جفير لا يهدآن، وبقية الرؤوس الأمنية والسياسية الحامية تتحدث عن تجديد إيران لصواريخها الباليستية، وترميم حزب الله وحركة حماس لقُواهما، وكلها جهود مُخطّطة لتعكير الماء، على أمل تعمية رؤية سيد البيت الأبيض، والانتفاع بأى صيد من تلك العُكارة.
قبل أسابيع انعقدت الدورة التاسعة والثلاثون للمؤتمر الصهيونى العالمى. غالبية المندوبين من اليمين المُتطرّف، ولليكود وبقية الأحزاب الرديفة حضور وازن، ورغم ذلك اشتملت قراراته على نقاط لا حظّ لها من ارتضاء نتنياهو بالتأكيد.
أهمّها تجميد مشروع مستوطنة «E1» الهادفة لقسمة الضفة، وتعطيل خطط الاستيطان والضمّ فيها وصولا إلى غور الأردن. الحضور ليسوا أقل تصهيُنًا واندفاعا من الحكومة، وما يستقرّون عليه غير مُلزم، وقد تغيّرت التركيبة على مدار العقود الماضية؛ لتتقدّم الدولة على المُنظّمة. لكن الفكرة أن غلبة أيديولوجيا واحدة على الكيانين؛ لم تُنتج تصوّرًا واحدًا عن الحاضر أو المستقبل.
يفتقد نتنياهو لظهير حقيقى يستند إليه، ويبحث عن جدار يصدّ به رغبات ترامب أو تداعيات انفلاته الطويل، فلا يجده إلا داخل الليكود وبين أحزاب المستوطنين. الشارع يُقدّمه فى استطلاعات الرأى؛ لكنه لا يُجمع عليه، بل ينقسم بوضوح حول خياراته الشخصية التى يستميت فى تعميمها ومنحها طابعا وطنيا. أى أنه لا يحوز الإجماع الذى يُمكن أن يُفاوض به الأمريكيين أو يُناطحهم، وليس فى مستطاعه أن يزعم الحديث باسم الإسرائيليين جميعًا.
تخسر المواقف الرسمية كثيرًا من حجّيتها إن لم تكن مُحصّنة بإرادة شعبية. مصر ذهبت إلى السلام مع إسرائيل استكمالاً لنصرها العسكرى، واستعادت أرضها فى مقابل تسوية قضت ظاهرًا بتطبيع العلاقات؛ لكنها لم تُطَبّع من يومها إلى الآن. الدولة تُحافظ على التزامها، والجمهور لا يُريد، ودخول النسيج الاجتماعى للدول فى بعضه علاقة بين مُجتمعات وأفراد بالأساس، وهذا مِمّا لا يُفرَض من أعلى، وهو ما لا يتوافر لنتنياهو راهنًا لاعتبارات شتّى، أهمها شخصية ترامب نفسه، وأنه سلّم له بالوصاية فى الخاص، عندما رحّب بأن يطلب له العفو؛ فلم يعُد مُتاحا له أن يتمرّد عليه فى العام. ومواطنوه ليسوا معه على قلب رجل واحد؛ بل ربما فيهم من يعتبر الرئيس الأمريكى أكثر إخلاصا للصهيونية ودولتها من رئيس الحكومة نفسه.
ربما تنجح لُعبة الإيحاء بالانقسامات الداخلية، وبأن نار الشارع اليهودى مُشتعلة بما يفرض إطعامها ببعض المكاسب والتنازلات، وقد لا تُثمر شيئًا. ليس مُهمًّا على أى حال سيذهب زعيم الليكود إلى فلوريدا أو يعود؛ إنما الأهم أن اتفاق غزّة بكل ما فيه من حسنات وسوءات ليس نهاية المطاف، ويجب ألا يكون فاصلاً بين مرحلتين من طينة واحدة.
يطول الوقت أو يقصر؛ ولا بديل عن التوصّل فى تسوية فى القطاع، وسيُعاد الإعمار وتتجسّد منظومة حُكم. وآخر ما يُفيد القضية أن تكون نسخة من سلطة رام الله الحالية، وأكثر ما يضرّها أن تُشابه حماس أو تتقاطع معها فى أى جزء من أفكارها وانحيازاتها وآليات عملها وتخليطها الفج بين المادى والغيبى والأيديولوجى ومُقتضيات الأحلاف والولاءات فوق الوطنية.
السياسة خيار لا يقوم إلا بفواعل ومُحفّزات يُدار الحوار عليها، والبندقية لا معنى لها أصلاً من دون أجندة سياسية واضحة؛ أما الديموغرافيا فصورة ثالثة من النضال، أعلى قدرًا وأشد فاعلية، تتعاظم قيمتها لو رُفِدَت بقوّة عاقلة ودبلوماسية ديناميكية ناضجة؛ إنما يصح أن يُستَنَد إليها وحدها من دون الاثنتين، فيما يتهشّمان ويسقط أى أثر لهما فى غيبة الكثافة والإصرار عليها وتزخيمها بدأب، شريطة أن يكون التشبُّث بالحياة ثابتًا عضويًّا لا تُقوّضه النزعات الانتحارية ولا تمسخه دعايات البطولة الحنجورية.
لن تتزحزح الأرض عن مواضعها، وهى ترث الناس قبل أن يرثوها. الفلسطينيون على كل ما تعرّضوا له لثمانية عقود أو يزيد، ما زالوا هُنا بالأرحام والاجتماع، لا بالبندقية والمفاوضات. وعبارة سطحية كالتى قالها خالد مشعل قبل شهور، عن أن القتلى والمبتورين فى القطاع «مجرّد خسائر تكتيكية»؛ لا تنُمّ إلا عن وعى منقوص بفكرة المقاومة أصلاً، وابتذال ردىء للقضية التى لا تكتمل معانيها إلا بالبشر والحجر معًا.
وإذا كانت الجغرافيا ثابتة كما أسلفت؛ فإن التضحية بالديموغرافيا إنما تُلامس حدود التسليم بالهزيمة النهائية، ولها طعم التنازل ولو أنكره القائل أو لم يستوعبه من الأساس. إن استعصت عليك حسبة الكسور العشرية؛ فلتُضخّم الأرقام فى المُعادلة لتتوصّل إلى نتيجة مُقرّبة.
سبعون ألفا قُتلوا بعد الطوفان؛ وبالمضاعفة قد يفنى الغزّيون ولا يجد الصهاينة من يُنازعهم فى ملكية القطاع. لا مُنافسة مع الإسرائيليين فى الرصاص والوحشية والاقتصاد وسطوة الداعمين؛ لكن الفلسطينيين قد يكونون أقوى بالأمل، وتربية الحياة بديلاً عن إعالة الموت، وإطعامه عن عَوزٍ إلى كل ساعد يبنى وحنجرة تُغنّى.