بيشوى رمزى

دولة التلاوة.. عندما تصبح الهوية درعا في مواجهة الخوف

الأربعاء، 24 ديسمبر 2025 09:02 ص


التنويع هو الوتر الأساسي الذي لعبت عليه الدولة المصرية لتعزف عليها أنشودة تنموية في الداخل، ودبلوماسية في الخارج، بينما كان أحد أهم أدواتها في إدارة معاركها، فنجحت في بناء نهج متنوع، يحمل في طياته مزيجا نادرا بين رؤية الداخل، والرؤى الإقليمية والدولية التي تتبناها الدولة، وهو ما يبدو في استخدام التجربة المصرية للترويج إلى مواقفها، وهو ما لا يقتصر فقط على الأدوات الصلبة المرتبطة بالأبعاد الأمنية أو السياسية أو الدبلوماسية التقليدية، نحو أدوات أخرى ناعمة، تراوحت بين الدراما والإعلام والمهرجانات، وغيرها، وهو ما من شأنه تهدئة المخاوف الداخلية جراء التهديدات المحيطة بهم، أو بالأحرى ما أسميته في مقال سابق بـ"إدارة الخوف"، عبر طمأنة المواطنين، بالإضافة إلى ما تقدمه من رسائل للخارج حول قدرة الدولة على الصمود والمواجهة، مهما كانت المخاطر المحيطة بهم.

ولعل "إدارة الخوف" من المنظور المصري، بالأدوات التقليدية، قد لفت لها في مقالاتي السابقة ضمنيا، عبر خطوات متواترة، منها الحرب على الإرهاب وملاحقة عناصره، مرورا بإلغاء قانون الطوارئ في 2021، وحتى الحوار الوطني ودمج كافة الأحزاب والمنظمات والفئات المجتمعية في بوتقة العمل الوطني، إلا أن الجانب الآخر، الذي يبقى بعيدا نسبيا عن الأضواء، يتجلى في الأدوات الناعمة والكيفية التي استخدمتها الدولة في توظيفها، داخليا وخارجيا، منها على سبيل المثال المهرجانات التي يتم تنظيمها في العديد من المدن المصرية، في الوقت الذي يشتعل في الإقليم انفجارا، جراء الحروب المحيطة بها، وهو ما يمثل رسالة طمأنة للداخل، ورسالة ثقة تنبع من موقع القوة للعالم، ما يعكس الكيفية التي يتم بها توظيف تلك الأدوات في تحقيق الهدف المرجو.

الأمر نفسه ينطبق على الأعمال الدرامية، التي دشنتها الشركة المتحدة في السنوات الأخيرة، والتي عكست تغييرا عميقا في إدارة مثل هذه الأعمال، في لحظات فارقة ومهمة، خاصة تلك التي أرخت الحقبة الصعبة التي عاشها المواطن في العقد الماضي، لتضفي قدرا كبيرة من الثقة في قدرات المؤسسات، حتى في أصعب اللحظات، وهو ما يوثق الثقة المتبادلة، وهو الأمر الذي تسعى جماعات الظلام إلى تقويضه بكل الطرق الممكنة، باعتباره الهدف الذي يمكن من خلاله تفكيك المجتمع.

الواقع أن الأدوات الناعمة، في إدارة الخوف المجتمعي، لم تقتصر على الدراما والمهرجانات الغنائية، وإنما امتدت إلى قضية الحفاظ على الهوية، والذي تجتمع حولها كافة أطياف المجتمع باختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، وهو ما يبدو في الأحداث الثقافية الكبرى، كاحتفالية نقل المومياوات، أو مؤخرا في افتتاحية المتحف المصري الكبير، أو الفعاليات الدينية، وأحدثها برنامج "دولة التلاوة"، والذي يبقى الحديث عنه متجاوزا كونه مسابقة لاختيار أفضل العناصر، نحو أفاق أرحب، أبرزها تعزيز القيم الدينية، بالإضافة إلى كونه لبنة جديدة في العمل على بناء خطاب معتدل، ناهيك عما يحققه من توازن بين البعد الترفيهي، واحترام الهوية الدينية، دون أي خلل بينهما، فالأول لا يتعارض مع الأخير، بل يعكس القدرة على إدارة التنوع نفسه دون أي إخلال.

عبقرية "دولة التلاوة" لا تقتصر على مجرد كونها تمسكا صريحا بالهوية، وهي بالمناسبة هوية شمولية تجمع كافة أبناء المجتمع المصري باختلاف ديانتهم، على أساس وحدة المبادئ والقيم، فالتدين صفة أصيلة في الإنسان المصري منذ التاريخ القديم، وهو ما يبدو في المتابعة الكبيرة التي يحظى بها، ربما لمتابعة السباق، أو حتى للاستمتاع بالأصوات، أو لإحياء زمن التلاوة الرشيقة، باعتبارها جزء لا يتجزأ من الإرث المصري الأصيل، وإنما في بناء خلطة تحمل بعدا ترفيهيا وقورا، يتجلى في المنافسة والسباق بين المشاركين وما يستتبعه في حماسة المتابعين لمتسابق بعينه يتفاعلون معه خلال مراحل المسابقة نظرا لجمال صوته وبراعته في التجويد، بينما لم يخرج في الوقت نفسه عن الإطار الديني القويم، الذي يمثل انعكاسا لطبيعة المصريين المعروفة بالاعتدال والاندماج، وهو ما يقدم رسالة مفادها أن التدين ليس المعنى المضاد للجمال أو الاستمتاع، وإنما مرادفا لها.

البرنامج لم يتحدث مباشرة عن الاعتدال، ولم يفكك أفكارا، لكنه نجح باقتدار في مواصلة سلسلة من الخطوات التي اتخذتها الدولة المصرية، في إطار إحياء إرثها، بدءً من تاريخها القديم ذو الطبيعة العريقة، مرورا بكونها بلد الفن الأصيل، التي اقتحمت العالم العربي بأعمالها الفنية على مر الأجيال، وحتى "دولة التلاوة" التي أعادت إلى الأذهان كبار المقرئين، الذين أمتعوا آذان المصريين بأصواتهم وخشوعهم، وهو ما يعكس تماسك الخطوات التي تتخذها الدولة، وترابطها، بينما في الوقت نفسه تمثل خطوة جديدة في طريق بناء الوعي لدى ملايين المصريين، بينما تقدم في الوقت نفسه دليلا دامغا للعالم على قدرة الهوية على تحقيق لم الشمل المجتمع، حتى باختلاف العناصر المكونة له.

وهنا يمكننا القول بأن "دولة التلاوة" هي خطوة متقدمة في إدارة الخوف، في إطار معركة فكرية مازالت لم تنته بعد، تهدف إلى تعزيز الوجدان الوطني والقومي، عبر العودة إلى الإرث المعتدل، القائم على الدين والفن والثقافة، باعتبارهم مرتكزات يقوم عليها المجتمع في إدارة المعارك التي تهدف إلى تجريده من هويته، وهو ما يعكس حقيقة المعركة التي تخوضها الدولة المصرية، كنموذج ملهم في الحرب على الإرهاب، فتجاوزت الأمن والسياسة التقليدية، نحو آفاق تبدو ناعمة في ظاهرها، ولكنها في واقع الأمر لها جذور عميقة في نشأة المواطن وتقاليده.

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة