الثورة المعرفية، والتقنية، والتقارب الثقافي عبر الفضاء المفتوح، والآثار الاقتصادية والسياسية، وصيغ التعليم المتعددة، وتطور الرسالة الإعلامية، تُعد بمثابة أسباب للتغير الأيديولوجي، الذي قد رصدناه في طرائق التفكير، والاتصافات القيمية، وحتى المعتقدات، والممارسات المعتادة، للفرد، وللمكون الأسري بأكمله، مما أدى إلى تحولات في الرؤى؛ نتيجة لتباين آليات التفسير؛ حيث تعدد المدخلات، وتداخل المعطيات، بما نتج عنه تعقيد في العمليات؛ ومن ثم فقد أفرز توجهات، وسلوكيات، ومواقف لم نشهدها، ولم نعتد عليها من قبل.
نقبل بفكرة الاختلاف بين أفراد الأسرة؛ نتيجة للانفتاح الفكري، في خضم الثقافات المتعددة؛ لكن لا نرتضى الوصول لحافة فك الرباط الأسري، جراء الابتعاد عن حيز الشراكة، والتعاون؛ من أجل تحقيق غايات مشتركة، تصب في إطار المصلحة العامة، وتتوافق مع الثوابت، والقيم والمبادئ، وشمائل الفضائل، التي تربينا عليها، وتجرعت من كؤوسها الوجدانيات، نقية السريرة، وهنا ينبغي ألا نزيد من الفجوة بين الآباء، والأبناء؛ لذا ينبغي المحاولة بشتى الوسائل وبصورة جادة؛ من أجل أن نستعيد فلسفة المائدة المستديرة، المعينة على تلاقى الرؤى، وحل القضايا، والمشكلات الشائكة، وفق ماهية العقل الجمعي.
نتفهم ضرورة تعزيز صور الممارسات التربوية، المساعدة في تعديل السلوك المرغوب فيه، ونثمن لغة النقاش، والحوار وفق أسسه، ومبادئه، وبناءً عليه يصعب تجاهل حقوق الفرد في التعبير عن ذاته، ووعيه بواجباته؛ لذا ينبغي أن نحرص على قيمنا الأصيلة المؤكدة على ماهية الالتزام، والاحترام، والتضامن؛ فتلك تشكل سياج وقاية من نتاج قيم مادية، واستهلاكية، قد غزت العالم بأسره، ولا نغالي إذا قلنا: إن مرجعية الفضائل، تسهم في إزالة الضبابية لدى أذهان فلذات الأكباد؛ فنحن دون مواربة أخطر ما نخشاه عليهم وقوعهم في دوائر التشتت، التي تباعد بينهم، وبين هويتهم، وقوميتهم.
دعونا نفكر سويًا في آليات، تجنبنا الدخول في بوتقة الصراع بين جيل خاض التجربة، فتشكلت قوميته، واشتد عوده، واستطاع أن يتجاوز تحديات، وصعوبات، كادت تضير بهويته، وجيل آخر ترعرع في خضم سماء مفتوحة، قدمت له صور من الثقافات المليئة بزخم عادات، وسلوكيات قد لا تتسق مع البيئة المجتمعية المعاشة؛ فأدى ذلك إلى خلق فجوات، وصراعات، وضغوطات، وتوترات، بنيت على تباين التصورات، جراء أفكار، وقناعات ترسبت في الأذهان، وتشرب منها الوجدان، وهذا للأسف ما نراه جليًا في حجم الخلافات القائمة على الجدل، وإثبات الكينونة؛ بغض النظر عن استنادها إلى معايير واضحة، أسست عليها مجتمعاتنا الأصيلة.
أعتقد أن تنمية المقدرة على صناعة، واتخاذ القرار لدى الأبناء، وفق منظور تحمل المسؤولية، يزيد من معدلات الثقة بالنفس، ويفتح مسارًا مفعمًا بلغة الحوار البنّاء بين المكون الأسري، وهذا يعد قطعًا أساس للمودة، ومعزز لأطر التفاهم، بل، يتيح الفرصة للاختيار؛ فنبعد عن فلسفة القسر، والجبر، وننحو تجاه فكرة الإقناع، والامتاع، بما نقوم به طواعية، وما نؤديه كمهام رئيسة، تحقق غايات منشودة، خططنا لها بصورة مسبقة؛ لذا تعالوا بنا نرسم خططًا تقوم على مبدأ المشاركة، والتعاون؛ كي نرسخ ماهية المشروعات، تزيد من ارتباطنا ببعضنا البعض، وتحد من التباعد الناتج عن التغير الأيديولوجي داخل الحيز الأسري.
كي لا نصل إلى عتبة الاغتراب الفكري، لا بد من احتواء الأبناء؛ من أجل أن نخلق بيئات تعزز الهوية لديهم؛ فلا يحدث انفصال بين المكوّن الأسري، وعلينا أن نفقه التغيرات الأيديولوجية المتسارعة على بينة الأسرة؛ لذا فإنه يجب الاهتمام بتنمية مهارات التفكير العليا لدى فلذات أكبادنا، في متنوع السلم التعليمي، وأن يستمر هذا الأمر في ميدان العمل، والتدريب؛ فالوعي مطلب مستدام، وتغذية العقول ينبغي أن تقوم على معارف قويمة، تسهم في صناعة الممارسة البنّاءة، العائد أثرها الطيب على كل من الفرد، والمجتمع؛ ومن ثم نتجنب الصدام، أو النفور، أو السلبية، أو التحول غير المرغوب فيه بشتى صوره، ومن منطلق الصراحة، والمكاشفة ننادي الآباء، والأمهات تجاه ضرورة استيعاب ثقافة العصر الرقمي؛ لنتجنب فتح أبواب العزلة، التي يهرول إليها الأبناء، خلاصًا من حالة الصراع الداخلي؛ فالغاية المنشودة أن نعمل سويًا على بناء جيل يتفاعل بإيجابية مع عالم المتغيرات، ليستمتع بمفردات حاضره، ويرسم مستقبله في خضم آماله وطموحاته وأحلامه المشروعة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.