الإنسان هو مركز الكون.. جملة تحتاج إلى إعادة نظر

الإثنين، 01 ديسمبر 2025 07:00 م
الإنسان هو مركز الكون.. جملة تحتاج إلى إعادة نظر الكرة الأرضية

أحمد إبراهيم الشريف

من بين الجمل الراسخة فى المخيال الإنساني، تأتى عبارة "الإنسان هو مركز الكون" بوصفها واحدة من أكثر الجمل تعبيرًا عن نزعة التعالى البشري، جملة تبدو فى ظاهرها احتفاءً بالإنسان وقيمته، لكنها فى جوهرها تقف على أرض علمية مهزوزة، وتترتب عليها نتائج أخلاقية وبيئية خطيرة، تجعلها نموذجًا واضحًا لـ"جمل تحتاج إلى إعادة نظر".

 

من مركز الكون إلى مجرة هامشية

تاريخيًا، ارتبطت فكرة "مركزية الإنسان" بفكرة أقدم هى "مركزية الأرض"، لقرون طويلة، سادت صورة كونية ترى أن الأرض هى مركز الكون، وأن كل شيء يدور حولها: الشمس والنجوم والكواكب. فى هذه الصورة، كان الإنسان، بوصفه ساكن الأرض المختار، هو محور الحكاية الكونية، بطلها الوحيد، وغاية كل ما فى الوجود.

غير أن التحولات الكبرى فى تاريخ العلم قلبت هذه الصورة رأسًا على عقب، جاء كوبرنيكوس ليضع الشمس فى مركز المجموعة الشمسية، ثم جاء غاليليو ليدافع عن هذا التصور رغم الاضطهاد، قبل أن يأتى نيوتن ليضع حركة الأجرام فى إطار قانون الجاذبية. لاحقًا، توسّعت الصورة أكثر؛ لم تعد شمسنا نفسها مركزًا لشيء، بل هى نجم عادى فى طرف ذراع جانبى من مجرة واحدة بين مليارات المجرات.

بهذا المعنى، لم يعد ممكنًا علميًا أن نقول إن الإنسان "مركز الكون" إلا بوصفها استعارة أدبية أو دينية تحتاج إلى تفسير، لا حقيقة فلكية أو فيزيائية. الكون، كما تصفه الفيزياء المعاصرة، لا يدور حول كائن واحد، ولا يعترف بمركز واحد ثابت، بل هو شبكة هائلة من العوالم والاحتمالات.

 

من مركز الخلق إلى كائن ضمن شجرة الحياة

لم تقف المراجعة عند حدود الفلك، فى القرن التاسع عشر، جاءت نظرية التطور لتحدث هزة أخرى فى فكرة "مركزية الإنسان". لم يعد الإنسان الكائن المنفصل تمامًا عن بقية المخلوقات، بل غدا حلقة ضمن شجرة حياة طويلة، يتشارك فى جزء من تاريخه مع الكائنات الأخرى، وله سلف مشترك مع أشكال متعددة من الحياة.

هذا لا ينفى خصوصية الإنسان فى وعيه وقدرته على اللغة وبناء الحضارة، لكنه يسحب منه وهم "التفرد المطلق"، نحن أبناء هذا الكوكب، جزء من منظومة بيئية معقدة، ولسنا "ضيوف شرف" معفيين من قوانينها.

على المستوى الأخلاقى والبيئي، دفعت الأرض ثمنًا باهظًا لشيوع جملة "الإنسان هو مركز الكون"، هذه النظرة غذت، بوعى أو بدون وعي، تصورًا استهلاكيًا للعالم: الطبيعة مجرد مخزن موارد، الحيوان والنبات مجرد أدوات، والأنهار والجبال وحقول النفط "وسائل" لخدمة رفاهية الإنسان وحده.

بهذا المنطق، صار تدمير الغابات ثمنًا مقبولًا للتوسع العمراني، وتلوّث الأنهار تفصيلًا ثانويًا أمام نمو الصناعات، وانقراض الأنواع "خسائر جانبية" فى معركة التنمية. وكأن الكوكب حقل تجارب مفتوح لرغبات الإنسان، لا بيتًا مشتركًا يحتاج إلى رعاية متبادلة واحترام للحدود.

اليوم، ومع تصاعد أزمة المناخ، وذوبان الجليد، وازدياد موجات الجفاف والحرائق، يتبدّى أن الجملة لم تكن بريئة. "مركزية الإنسان" المطلقة تحوّلت، فى التطبيق، إلى "استبداد الإنسان" ببقية الكائنات، وإلى نظام حياة يقضم من رصيد الأجيال القادمة كما لو أن التاريخ سيتوقف عند جيل واحد.

أمام هذا كله، بدأ خطاب جديد يتشكل، فى الفلسفة البيئية والعلوم الإنسانية، يعيد النظر فى مركزية الإنسان، دون أن يسقط فى كراهية الإنسان أو إلغاء قيمته، الخطاب الجديد يقول باختصار "الإنسان كائن ذو قيمة خاصة، نعم، لكنه ليس وحده صاحب القيمة، ولا يمكنه النجاة منفصلًا عن بقية شبكة الحياة".

وظهرت مفاهيم جديدة مثل "حقوق الأجيال القادمة"، و"حقوق الطبيعة"، و"العدالة البيئية"، تحاول أن تكسر احتكار الإنسان لمفهوم الحق، وأن تذكّره بأنه ليس مالكًا وحيدًا للكوكب، بل شريكًا فيه.

لا يعنى نقد الجملة أننا نلغى قيمة الإنسان أو نحتقر العقل البشري، بل على العكس، إعادة النظر فى "مركزية الإنسان" قد تكون أهم خطوة لإنقاذ الإنسان نفسه، فالكائن الذى يتوهم أنه مركز كل شيء، ينسى هشاشته، وينسى أن مرضًا مجهريًا، أو تغيرًا فى درجة حرارة الكوكب، كفيل بأن يربك حضارته كلها.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة