ربح نتنياهو نقطة جديدة على الجنرالات، عندما اضطرهم لإجبار المدعية العسكرية على الاستقالة، فى ضوء ما تكشف عن دورها فى تسريب مقطع فيديو لوقائع تعذيب سجناء فلسطينيين فى معتقل «سدى تيمان» عقب أحداث طوفان الأقصى قبل سنتين.
ولم يتأخر الرد؛ إذ انقلب الجيش على قبوله السابق بتمرير عشرات العناصر من حماس وراء الخط الأصفر إلى مناطق سيطرة الحركة، بدفع أمريكى لإنهاء المناوشات التى تحررت مرتين فى رفح خلال أسبوع واحد، وتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار بخطوطه الحالية دون منغصات أو ذرائع للتأجيج المتقطع.
العلاقة على أفضل ما يكون بين الساسة والعسكر فى إسرائيل، أو بالتحديد رأس الحكومة وقيادة المؤسسة الأمنية، أقله بالقياس إلى فترات كان فيها يوآف جالانت وزيرا للدفاع، وهرتسى هاليفى رئيسا للأركان.
أعاد رئيس الحكومة ترتيب البيت كما يُحبّ ويهوى؛ فلزّم الحقيبة لتابعه الليكودى يسرائيل كاتس منقولاً من الخارجية، واستدعى سكرتيره العسكرى قبل عشر سنوات لأركان الجيش، فضلاً على تغيير قيادة الشاباك وإحلال قيادات بديلة فى الإدارات الميدانية وغيرها من هيراركية وزارة الحرب.
والقصد أنه لا يُمكن القول إن حجابًا من الارتياب وسوء الظن يعلو بين الطرفين، ولا أنه فى مُنازعة مع جنوده كما كان فى السابق؛ إنما تظل التقاليد حاضرة على الطاولة من دون شَكّ، وحتى الموالون يتحسّبون من تحميلهم فواتيره وأعباء الأسلاف. خصوصا أن موسم السيولة الطويلة سينتهى حتمًا بلجنة تحقيق، واستخلاصات تُعلّق الأجراس فى رقاب أصحابها.
والقصة مع حماس؛ أن لها عناصر من بقايا القسّام وراء الخط الفاصل حاليا بموجب الاتفاق الناتج عن خطة ترامب، وهو يقسم القطاع بالتساوى تقريبًا.
تقول الحركة إن الاتصالات انقطعت معهم منذ انهيار الهُدنة السابقة فى مارس الماضى، وتُقدّر أعدادهم بالعشرات وصولا إلى 200 فرد فى الحد الأقصى، وإليهم تُحال وقائع الاشتباك جنوبًا؛ إمّا لأنهم لا يقتنعون بالتسوية التى استثنتهم من هامش النجاة، أو لأنهم لم يعلموا بها من الأساس.
تدخّل الوسطاء لتأمين عملية سحبهم من وراء خطوط العدو، إلى النصف الغربى المُحرّر جزئيًّا. وطُرِحت فكرة أن يجرى إخلاؤهم من مواقعهم فى سيّارات الصليب الأحمر، وبعدما يتحلّلون من أسلحتهم تمامًا.
القناة الرسمية «كان 11» أوردت أن الجيش بصدد التنفيذ بعد موافقة نتنياهو؛ ثم تفجّرت الاعتراضات من الجناح المُتطرف فى الحكومة، تلته المُعارضة بكامل أطيافها تقريبًا، وأخيرًا رئيس الأركان الذى شدّد على وجوب إفنائهم، وأن رؤيته والمؤسسة تنحاز للجانب المُضاد من تلك الصفقة.
ومع الرقابة المُشدّدة على الإعلام؛ لا سيما فيما يخص الشؤون الحربية، وجبهة غزة على وجه التحديد. فالغالب أن التقرير المُشار إليه لم يكُن اجتهادًا أو رجمًا بالغيب؛ إنما نشأ عن بواعث ومُسبّبات عميقة، أكان باستكشاف البيئة الرسمية والشعبية وردود فعلها على الأمر، أم بمحاولة التوريط وانتزاع الغطاء المُموّه لقرار سياسى فى كل الأحوال.
وربما، مع احتمال ضئيل نسبيًّا، أن ذئب الليكود العجوز تقصّد إفشال العملية كلها من بوّابة الرفض المدنى والأمنى، ودون أن يظهر فى الصورة كحجر عثرة أمام ما تريده إدارة ترامب.
وفى المقلب الآخر، يُحتَمَل أن «زامير» كان على علم بالتفاصيل، ومنح موافقته بالفعل؛ لكنه ارتدّ عنها لاحقًا بإيعازٍ من داخل الائتلاف، أو بارتداع للمواقف الإجماعية من خارجه.
ولعلّ التحوُّل كان ردًّا على وقائع الأيام الأخيرة منذ نهاية الأسبوع الماضى، ومحاولة للتشدُّد بعدما وُصِمَت المؤسسة العسكرية بما ينطوى على اتهامات بخيانة الوطن، والاصطفاف مع الأعداء وخصوم الميدان.
وكان المُتغيّر الأكبر من تلك الزاوية؛ أن المُدّعية يفعات تومر يروشالمى، المرأة الوحيدة تحت رُتبة جنرال فى جيش الاحتلال، استُدعِيَت يوم الجمعة لتقديم استقالتها؛ ثم اختفت يومين غلّفتهما الشائعات المُتضاربة، لحين الإعلان لاحقا عن العثور عليها، وتوقيفها على عُهدة التحقيق فيما يُنسَب إليها من مُخالفات.
وتعود الواقعة إلى الأسابيع التالية لهجمة السابع من أكتوبر؛ إذ تفجّرت فضيحة من داخل أحد المُعتقلات عن سوء مُعاملة الأسرى الفلسطينيين، والتعدّى جنسيًّا على بعضهم.
فُتِحَ تحقيق فى الأمر، وصدر قرار بإيقاف عدد من المشمولين بالتهمة. وقتها صعّد اليمين المُتطرّف داخل الحكومة، ونظّم تظاهرات رافضة للمُساءلة من الأساس، ومُطالبةً بتكريم الموقوفين باعتبارهم أبطالاً لا مُجرمين.
لم تُضبَط يورشالمى على خلاف مع خطّة الحرب فى حرف واحدٍ، ولا سجّلت موقفًا مُضادًّا لكل التجاوزات الإنسانية وأعمال الإبادة الجماعية الموثّقة.
وحتى موقفها الذى يُنَسّبه البعض هُناك إلى حيّز الالتزام بالقانون والقِيَم الأخلاقية؛ كان ناتجًا بكُلّيته عن اندفاعة شخصية لإسناد العدوان المُنفلت على الغزّيين، وتغطيته بالقانون، وغسل أيدى مُرتكبيه والدولة العبرية بكاملها من تبعاته الوقتية وبعيدة المدى.
تعود الفكرة إلى أن الولاية الدولية على تلك النوعية من الجرائم، يُشتَرط فيها ألا تكون أُخضِعَت للمساءلة أمام القضاء الوطنى؛ عجزًا كان أم تعمُّدًا.
اللعبة قديمة ومُتكررة فى مُدونة الصهاينة؛ إذ لطالما أوقفوا عناصر فى عشرات الوقائع الشبيهة، وأحالوهم إلى المحاكم؛ ليتحقق غلّ أيدى الخارج عن النظر فى الأمر، ثم يكون لهم لاحقًا تبرئتهم أو مُجازاتهم بعقوبات مُخففة للغاية، ومن دون الانتقاص من مراكزهم القانونية والمعنوية، وما يتحصّلون عليه من مزايا كأعضاء صالحين ومُنزّهين عن كل نقيصة.
والمُدّعية العسكرية أرادت اتّباع المبدأ ذاته؛ ثم عندما تعقّدت الخيوط وتصاعدت موجة الغضب اليمينية، تفتّق ذهنها أو نصحها المُعاونون بتسريب فيديو يُبرهن على الجريمة محلّ النظر؛ بما يُتيح إسكات أصوات المُعترضين فى الداخل، ومواصلة المسار القانونى المحكوم بنتائج مُقرّرة سلفًا كالعادة؛ بغرض إخراس الخارج أيضًا.
انقلب السحر على الساحر، وما ارتُكِبَ بنيّة الشراكة الكاملة فى الجُرم، تحوّل إلى أداة إدانة لصاحبته، والمؤسسة العسكرية من ورائها بطبيعة الحال.
ذلك أن سؤال السابع من أكتوبر ما يزال مفتوحًا، وأجوبته مُعلّقة، والاستخلاصات مرهونة بتحقيقات موسّعة وشفافة لم تُجرَ بعد، ولا يُريد المستوى السياسى أن يكون عُرضة للإدانة المُحتملة فيها بأيّة نسبة.
وعندما يُصبح قادة رفيعو المستوى داخل الجيش مُتّهمين بالتآمر والانحياز والتعريض بشرف إسرائيل وسُمعتها؛ فسيكون سهلاً فيما بعد أن تُنسَب إليهم كل المآخذ، السابق منها واللاحق، أو على الأقل لن يُؤخَذ بإفاداتهم؛ لانتفاء الحياد بأثر الهوى والمصلحة، وأنه لا تُقبَل شهادة جانٍ على مُتَّهم.
والأصل هُنا؛ أن الخلاف ليس على المبدأ مُطلَقًا، ولا على تصوّرين لثابت الوحشيّة القارّ تحت جلد إسرائيل وفى حمضها النووى. الطرفان من قماشة واحدة، وغرضهما مُتطابق تمامًا؛ وما يشتبكان إلا على طريقة إخراج المشهد، وليس على جوهره الإبادى ومآلاته النكبوية المُتعَمّدة.
وتلك النقطة تحديدًا تُشكل صُلب الأزمة الراهنة فى تل أبيب؛ ذلك أنهم جميعًا لا يتمايزون عن بعضهم أخلاقيًّا وقِيَميًّا؛ إنما يُرتّبون العناصر نفسها برؤى مُختلفة للأولويات، ويُوظّفون المُشترك محل الاتفاق فى الاحتراب السياسى، والبحث عن مكاسب خاصة لا تُغيّر من مجريات السياق العام.
لقد أجمع أصدقاء نتنياهو وأعداؤه على رفض الاقتراح المطروح بإخراج عناصر حماس الكامنين وراء الخط الأصفر. حتى أهالى الرهائن المُفرَج عنهم، ومن ينتظرون بقيّة الجُثث المطمورة تحت الرُّكام. الجميع تقريبًا باستثناء الأحزاب العربية وطيف باهت من اليسار.
ما يُذكّر مُجدّدًا بحقيقة أن الاعتراض على إطالة أمد الحرب من دون أفق سياسى؛ إنما كان ناشئًا عن مُطالبة بتحرير الأسرى أوّلاً، ثم التفرُّغ للتنكيل بالمدنيّين فى القطاع كما يطيبُ للحكومة، ويُشبع شهوة الدم فى نفوس شارعها المُعتلّ نفسيًّا.
ولا يُحتَج على ذلك ببعض الأصوات الخافتة من النُّخبة وكُتّاب الرأى فى بعض الدوريات؛ إذ الاستثناء يؤكّد القاعدة. وما من دليل أبلغ سوى أن شعبية الليكود تتأرجح غالبا بين الزيادة والثبات، وفى أية حال طبيعية كان يتوجب أن تكون فى الحضيض حاليًا.
جانتس وآيزنكوت مثلاً يرفضان سحب القسّاميين المُعطّلين عمليًّا فى أنفاق مُتهدّمة، وهما خصمان لدودان لرئيس الحكومة حاليًا، وكانا حليفين حتى العام الماضى، عندما استُدعيا لكابينت الحرب فانخرطا فيه بإقبال وحماوة لا تقلّ نازية عن «بيبى» ولا أى قاتل وضيع من جيش الاحتلال فى غزة.
يائير لابيد أحد المُتطلّعين لوراثة مقعد الحُكم، وقبل شهور قليلة تحدّث من إحدى العواصم العربية رافضًا اتهامات الإبادة، بل تجنّب مجرد النقد العادى للحكومة من الخارج.
وظلّ هو وغيره من أحزاب المعارضة يتحدّثون عن شبكة أمان لنتنياهو؛ لو أراد التوصّل إلى صفقة تستعيد الرهائن، على أن يُصار فى التفاصيل لاحقًا وفق ما تقتضيه الظروف، أكان بعودة الحرب تحت الشراكة الكاملة، أو بإسقاط الليكود والاحتكام إلى انتخابات تُنصّبهم على رأس الميدان.
لم تُستَثر حفيظة زعيم المُعارضة؛ عندما وقف ترامب أمام الكنيست آمرًا بتبرئة رئيس الحكومة من اتهامات الفساد، ومُوجّهًا لابيد نفسه بمؤاخاته والعمل معه. بل لعلّه اعتبرها مكرمة من سيد العالم أن يذكره بالاسم، وهو ما يتمنّاه الباقون على مروحة الأيديولوجيا اليمينية بتنوّعاتها، المتباينة شكلاً والمُتطابقة فى المضمون.
وذلك؛ بالرغم من أنهم لا يتوقفون عن انتقاد إشارات التبعية الواضحة لواشنطن، والإفراط فى الحديث عن الاستقلال الذى يُمَسّ بعُنف من جانب الإدارة الجمهورية، ومفهوم طبعًا أنه يُقصد به التخلّى وتفريط نتنياهو عن كرامة البلد وإرادته الحُرّة.
وعلى كل حالٍ؛ فليست المرّة الأولى التى يُملَى فيها قرار أمريكى على تل أبيب. فعلها أيزنهاور إبّان حرب السويس/ العدوان الثلاثى، وتكرّرت مع احتلال بيروت وإخراج منظمة التحرير بالعام 1982، وفى مفاوضات مدريد واتفاقات أوسلو.
وأخيرًا خطّة ترامب الحالية؛ وليست محلّ اعتراض من جناح الصهيونية الدينية فى الحكومة وحده، ولا من كامل الائتلاف فحسب؛ بل من الطبقة السياسية كلها، والشارع الإسرائيلى عمومًا دون فرز أو استثناء.
فالواقع أنهم جميعًا يتوزّعون على أطياف ثلاثة: حالمون بابتلاع الجغرافيا من النهر للبحر، وطامحون فى الاحتلال وتجديد الاستيطان فى القطاع، أو رافضون لفكرة الدولة الفلسطينية وكلّ تسوية تُلمِّح بها من بعيد؛ ولو لم تَقُد إليها بالفعل.
غير أن الدولة العِبرية ليست ولاية أمريكية من دون نجمة فى العَلَم، حسبما يراها البعض. إنها دولة مستقلة وكاملة الأهلية فى نظر واشنطن؛ لكنها مُلحقة على أجندتها وتفضيلاتها وما يتّصل بمصالحها الحيوية فى المنطقة.
يُرخَى لها الحبل لأن فى ذلك فائدة للقابض عليه من وراء المحيط البعيد، ويُشَدّ عندما يستبين له أنها تكاد تتعثّر أو تختنق بلفلفة الحلقات على عُنقها.
إنها أقرب إلى جروٍ صغير فى حديقة البيت الأبيض؛ يظل مُطلَق السراح وحرًّا فى اللعب والتقافز، إلى أن ينبح على الساكن أو يُهدِّد بقطع الرابطة مع الضيوف والجيران، فيُستَدعى إلى الطوق مُجدّدًا، وقد يُوضَع فى حظيرته إلى حينٍ.
والعجوز الماكر على رأس الحكومة يعرف الحقيقة، ويقبض على جوهر العلاقة من دون شَكّ؛ لهذا استجاب عندما أُضىء له النور الأحمر، واستوثق من كونه فى تلك المرّة قرارًا لا مُناورة. إنما يتسلّط عليه وهم القوّة، وأثر الإنجازات المُتحقّقة طيلة الشهور الماضية، ويَجِدُّ فى محاولة تصحيف الرؤية الأمريكية أو تأطيرها بالحزام الأكثر تناسُبًا مع رغبته فى البقاء، وليس مع شهوة الحرب التى لم تكُن سوى وسيلة لا غاية.
الباقون ربما يجهلون الحقائق وثِقَلها الكئيب؛ ذلك أنها تنتزعهم من حيِّز المشروع القومى أو الدينى، لتصفعهم بالقرائن الدالّة على أنهم دولة وظيفية، لا تتحدّد مصالحها وفق إمكاناتها ومُنتهى طاقتها؛ إنما بما يتواءم مع أولويات الراعى الكبير، وما يسمح به من مجال للانفلات، ويُرسّمه من حدود للارتداع.
أو لعلّهم يعرفون أيضًا؛ لكنهم يستعيرون الورقة نفسها للحطّ من المُنافس مرّة؛ ثم ترقية ذواتهم إلى رُتبة الجَرو الأول فى الحظيرة. أى أنه نزاع على الوكالة؛ وليس صراعًا على ثوابت تتحدّد وتتحصّن بالإجماع، ولا تتغيّر إلا وفق حسابات الداخل واعتبارات أمنه القومى. فى بلد لا ثوابت فيه أصلاً؛ من أول الحدود والدستور، وإلى السردية السائلة عرقا ودينًا، وفى المدنية التى محورها الجيش، وتعيش دومًا على «حدّ السكّين».
تلتفّ مصارين إسرائيل على بعضها وتتعقّد، وبقدر ما تمتلئ بمزيج من الزهو بالقُدرة والإحساس بنُضج المشروع؛ فإنها أقرب إلى شيخوخته فى الواقع. وانعقاد المصارين لا يمنعها من تصريف إفرازاتها فحسب؛ بل يحرمها من لذّة الأكل، ناهيك عن الاقتدار عليه. إنه الشبع والجوع معًا، والنهم المُعطَّل لصيقًا بالامتلاء الموهوم.
توهّج اليمين لدرجة الاحتراق، ولم يعُد اليسار صالحًا للاستبدال به والعودة من جديد. تفتقد دولة اليهود للرؤية الاستراتيجية مهما ادّعت العكس، وتُراكِمُ فى التكتيك ما لا تعرف كيف وأين ستصرفه.
هزمت حماس وكسّحت الحزب وامتدّت يدها إلى إيران؛ إنما المُحصّلة أنها ما تزال عاجزة تماما داخل البيت الضيق، مكروهة خارجه بأكثر من السابق، واستنفرت غضبة المُتعقّلين والذين كانوا على الحياد أيضًا. وتكفى الإشارة هُنا إلى عدوانها على الدوحة، وكان فى حقيقته طعنةً فى قلب الاتفاقات الإبراهيمية مع الأربعة المُنخرطين فيها، وأربعة أضعافهم أو يزيد مِمّن كان يُؤمَل منهم الالتحاق بها.
إلى ثلاثة عقود مضت، كان رابين مُرحّبًا بدولة فلسطينية مجاورة؛ ولو أضمر فى نفسه خلاف ذلك. أبرم فى «وادى عربة» اتفاق تنازًل مُرجأ عمّا ربحه الصهاينة بالسلاح، وقبله وقّع بيجين على الانسحاب من سيناء يجرّ أذيال الخيبة. الجنرال المُتوحّش شارون ولغ فى الدم كسفّاح، وفكّ الارتباط مع غزّة كضبعٍ يهرب من المواجهة. نتنياهو نفسه تردّد بين المُتناقضات، واضطُرّ لمُناقضة كتابه الشهير «مكان تحت الشمس»؛ عندما غازل أوباما فى 2009 بحل الدولتين.
تعرف إسرائيل ما تريدُه، أو لا تعرفه؛ المهم أنها لا تملك القرار فيه بمُفردها. قواها لا تكفى لابتلاع المنطقة، وهشاشتها البنيوية لا تُطمئن الولايات المتحدة إلى إبقاء المنطقة على حالها. قد تكون أكبر من الكسر والطرد، حاليا على الأقل؛ لكنها أصغر كثيرًا من ابتلاع الإقليم أو فرض وصايتها عليه. لا مُشترك لها مع مُحيطها، تفتقد العُمق الجغرافى، وخزّانها الديموغرافى مُعرّض للذوبان فى الآخر، بأكثر مِمّا يقتدر على تذويبه فيه. إنها محكومة بالضآلة ولو توسّعت، وبالرُّعب ولو أرعبت الآخرين؛ وما الإفراط فى الوحشية إلا عن شعور عميق بالضعف، ورغبة فى الردع و«كى الوعى»؛ لكى لا تُعرّض للامتحانات نفسها مُجدّدًا.
والخُلاصة؛ أن ما يجرى فى غزّة اليوم لم يعُد من شأن نتنياهو، ولا أى بديل يُمكن أن يحّل عاجلاً فى انتخابات مُبكرة، أو يرث التسوية وترتيباتها فى الموعد العادى.
ظلّت واشنطن على دعمها الوثيق؛ لكنها تزحزحت عن سوابق مواقفها بأثر الفاعلية الإقليمية، وما بدا أنه يُعرّض توازنات المنطقة جيوسياسيا وأمنيًّا واقتصاديًّا للخطر.
نجحت مصر وحدها فى صدّ الهجمة، وتكاتف معها آخرون فى تعديل السردية، وصار لِزامًا على الجرو العِبرى أن يُجارى سيّده، وألا يُجرّب عافيته؛ لكى لا يخنقه الطوق.
الرافضون لإخراج مائتين من عناصر حماس دون سلاحهم؛ لن يوافقوا بالضرورة على بقاء الحركة بجزء من عتادها؛ ولو كان خفيفًا. فيما الفكرة المُتداوَلة، وإن من بعيد، أن التسوية سترسو على تجميد السلاح الثقيل، وبقاء ما عداه فى سياق الأمن والدفاع عن النفس أو غير ذلك من أسباب.
رفضت تل أبيب خطّة الإعمار بالمنطق المصرى، ولم تكن تُريد قوّة دولية من الأساس. ثم جاءت خطّة ترامب بالعكس، ودعت مصر إلى أن تُدار العملية بتفويض من مجلس الأمن، وهو ما يبدو أنه فى وارد التحقّق، اتصالا بما نشره موقع أكسيوس مؤخرا، عن إعداد البعثة الأمريكية مشروع قرار وتوزيعه على الأعضاء؛ تمهيدًا للإقرار والتفعيل.
حدث كل ما لم يكن يتمنّاه الصهاينة. توقّفت الحرب دون نصر حاسم، وسيُعاد إعمار غزّة لأهلها، وجرى تدويل المسألة بما يضع الاحتلال فى مواجهة العالم كلّه، وليس حركة حماس أو ذيول الممانعة، بغباوتها ووافر كرمها فى تخليق الذرائع.
وصفوة القول؛ أنه لن يجرى إلا ما تريده واشنطن ويقع ضمن اهتمامات ترامب، والأسابيع الأخيرة أكّدت أنه تزحزح عن مواضعه السابقة؛ بعدما استكشف عوار الرواية الإسرائيلية، وانعدام فُرصها فى الاكتمال، ومقدار ما تنطوى عليه من مخاطر وتهديدات. وإذ يُبادر إلى إحكام الطوق وشدّ الحبل؛ فالغالب أن كلبه المُطيع لا هامش لديه سوى السير على الخط المرسوم.