يُعد حفل افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا يليق بأمة صنعت التاريخ وصاغت الوعي الإنساني؛ إبهارًا بصريًا وروحيًا، فكان الاحتفال لوحة كونية تتداخل فيها تقنيات الضوء والصوت مع جلال الحجر المصري العتيق، لتظهر أمام العالم فكرة أن الحضارة حين تنهض، فإنها تنهض بثقة ووعي وجمال، وقد شهد العالم هذا المشهد بعيون مبهورة وقلوب مأخوذة، حيث توافدت وفود رئاسية ودولية، وقيادات سياسية وثقافية وعلمية من مختلف القارات، لتسجل حضورها أمام لحظة تعاد فيها كتابة مفهوم الفخامة الحضارية.
وقد جاء الحضور العالمي اعترافًا صريحًا بأن مصر صاحبة ماضي عظيم، وصانعة حاضر قادر على الإدهاش، ومؤهلة لصياغة المستقبل مزدهر، ولقد وقف العالم أمام المتحف المصري الكبير ليقول ها هي مصر، حين تقرر أن تتكلم، يتغير الميزان، وقد أثبت الاحتفال أن الحضارة المصرية ما زالت صاحبة القدرة على أن تدهش الإنسانية كلها، تمامًا كما فعلت أول مرة منذ آلاف السنين.
ويمثل افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا حضاريًا وثقافيًا وإنسانيًا استثنائيًا في مسار الدولة المصرية المعاصرة، فهو أكبر متحف أثري مخصص لحضارة واحدة في العالم، ولما يحمله من دلالات رمزية تؤكد قدرة مصر على إعادة صياغة حضورها الحضاري والمعرفي والثقافي على الساحة الدولية، فالعالم ما يزال ينظر إلى الحضارة المصرية القديمة كأحد الجذور الأولى للوعي الإنساني، ومصدرًا لتشكيل المفاهيم الكبرى عن المعرفة والروح والجمال.
وينبع الاحتفاء العالمي بافتتاح المتحف المصري الكبير من الإعجاب بعظمة وتفرد الماضي، وإدراك متنامي بأن مصر اليوم تعيد تقديم نفسها من خلال مشروع حضاري متكامل، يجمع بين العلم والفن والهوية، وبين الاعتزاز بالتراث وتوظيفه في التنمية والاقتصاد والدبلوماسية الثقافية، فالمتحف المصري الكبير فضاء معرفي يعيد تشكيل العلاقة بين الماضي والحاضر، ويمنح الذاكرة التاريخية دورًا فاعلًا في بناء المستقبل، بما يجعل من الحضارة المصرية طاقة مستمرة للإبداع والتجدد.
ويأتي هذا المشروع تتويجًا لمسار طويل من التحولات الثقافية والتنموية التي شهدتها مصر خلال العقود الأخيرة، حيث سعت الدولة إلى إعادة بناء صورتها الحضارية عبر استعادة آثارها وصون تراثها وتعزيز حضورها الفاعل في العالم المعاصر، وذلك ضمن رؤية جديدة للهوية الوطنية تنطلق من وعي بالتاريخ وامتداده في الحاضر واستشرافه للمستقبل، وقد أدركت مصر عبر مسيرتها التاريخية أن الثقافة هي البنية التأسيسية التي تستمد منها الدولة شرعية وجودها واستمرارية حضورها وقدرتها على صياغة سرديتها الخاصة، ومن هذا الإدراك، أصبح حفظ الذاكرة الجمعية شرطًا لحفظ الهوية، وترسيخًا للدلالة الحضارية، وتثبيتًا لمكانة الإنسان في التاريخ من خلال وعيه بجذوره وقدرته على حماية إرثه من التلاشي والتبديد والنسيان.
وقد صميم المتحف المصري الكبير ليكون فضاءً لإحياء الحضور الثقافي للماضي في وعي الجمعي، عبر رؤية تأملية تكشف البنية الفكرية والجمالية للحضارة المصرية القديمة، حيث يقدم التاريخ كخبرة إنسانية نابضة تكشف علاقة الإنسان بزمانه ومكانه وبأسئلته الكبرى حول الوجود وبلغته واحتياجاته المعرفية، وبذلك يرتقي المتلقي من مستوى الرؤية البصرية للأثر إلى مستوى إدراك دلالاته الحقيقية والرسالة الكامنة خلفه.
ويعد العرض المتحفي عملية تأويلية تعيد قراءة الماضي ونسجه ضمن سياق حضاري مفتوح، ليجد الزائر نفسه أمام رحلة فكرية وجمالية تكشف كيف صاغ المصري القديم رؤيته للعالم، وكيف جعل من الحياة والفن والدين نسيجًا واحدًا متماسكًا، ليتحول المتحف إلى فضاء للتفاعل والوعي، وتغدو الذاكرة التاريخية مصدرًا للإلهام والإبداع، تنير الحاضر وتفتح آفاق المستقبل.
وإن الاحتفاء العالمي بالمتحف المصري الكبير هو اعتراف حضاري بمكانة مصر التي ما تزال تحتفظ بواحدة من أقدم وأعمق التجارب الإنسانية المستمرة عبر التاريخ، فهذا الاحتفاء يعكس احترام العالم لمصر القديمة بوصفها مهدًا للمعرفة والروح والخيال البشري، وتقديرًا لمصر الحديثة بوصفها دولة قادرة على إنجاز مشروعات كبرى تتقاطع فيها الدقة العلمية مع الرؤية الحضارية الشاملة، في تجاوز واعي لتحديات الزمن والتكلفة والتعقيد الهندسي والتنفيذي، فالمتحف المصري الكبير في صورته الحالية يعلن أن مصر تعيد قراءة هذا التراث وتقديمه بما يليق بقيمته وبدوره في تشكيل المخيلة الإنسانية.
وهذا البعد الحضاري يجعل من المتحف مشروعًا يعزز حضور الدولة المصرية في العالم كقوة ناعمة تمتلك تاريخها الخاص، وتعيد إنتاج رموزها ومعانيها في سياق معاصر، متصالح مع جذوره، ومنفتح على المستقبل، فالحضارة المصرية طاقة قادرة على التجدد وإنتاج الدلالة في كل عصر، ومن ثم فإن افتتاح المتحف المصري الكبير هو حدث يقول للعالم إن مصر ما تزال قادرة على أن تكون مركزًا للمعرفة، ومنارة للوعي، وفاعلًا أساسيًا في تشكيل الذاكرة الإنسانية المشتركة.
ونؤكد أن الأمم العظيمة تستمر بقدرتها على أن تقدم للعالم رؤية وخبرة إنسانية قابلة للتداول، ومصر، بما تحمله من رسوخ حضاري ممتد عبر آلاف السنين، لا تزال تمنح العالم درسها الخالد: أن الحضارة فعل سلام ووعي قبل أن تكون قوة مادية، وأن صون الذاكرة أساس البناء المستمر للمستقبل، وبالتالي يأتي المتحف المصري الكبير ليؤكد حضور هذه الحضارة في الوعي العالمي حضورًا فاعلًا وملهمًا ما زالت قادرة على الكلام، والتأثير، وصياغة أفق إنساني جديد.
وإذا كانت الحضارة المصرية القديمة قد علمت العالم كيف يفكر ويبدع ويبني نظامه المعرفي، فإن المتحف المصري الكبير يمنحها اليوم صوتًا جديدًا يستعيد وهجها، ويعيد صياغة حضورها في المخيلة الإنسانية المعاصرة، باعتباره مرآة لهوية أمة، وبوابة للخلود، وجسر يربط الأزمنة ليعيد الإنسان إلى مركز تجربته في العالم، ويثبت مرة أخرى أن مصر حضارة تعيش وتنطق، وتستمر وتعيد للعالم معنى الإنسانية.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر