تنتهى مهلة ترامب لنظيره الأوكرانى فى غضون يومين. ألقى عليه خطة من 28 بندا قبل أسبوع، وطلب منه أن يرد بحلول عيد الشكر فى الولايات المتحدة.
والتزامن غالبا ليس من قبيل المصادفة؛ ذلك أنه عقب على ردود الفعل الرافضة بامتعاض ظاهر من غياب فضيلة الامتنان؛ فاضطرت الطبقة الحاكمة فى كييف إلى العودة للغة المغازلة التى يحبها سيد واشنطن.
قال إن ورقته ليست نهائية، فيما كان يُقوّض هامش الاعتراض بالإشارة إلى أن زيلينسكى عليه القبول، أو أن «يُقاتل حتى ينفطر قلبه».
أوروبا غير راضية بالمرّة، ولم تُخف دهشتها من المقاربة الهابطة على رأسها من السماء الأمريكية. والخلاف ليس على الأوزان طبعا؛ لأنها تعرف باليقين أن مفاتيح الحل كانت دائما فى البيت الأبيض، مثلما كان بإدارته للتوازنات مع الدب الروسى سببا للمشكلة منذ بدايتها.
ما يعنى أن حلفاء الناتو لا يتمردون على قيادته الطبيعية؛ ناهيك عن كونهم لا يملكون أسباب التمرد وجاهزية التعامل مع ارتداداته؛ لكنهم استثمروا فى الحرب لدرجة لا تبرر استبعادهم من تسوياتها، كما يعتبرون أن جولة أوراسيا القائمة ليست نهاية المطاف بالتأكيد، وربما تكون تمرينا استباقيا على مستقبل يصطدمون فيه مباشرة مع الروس الغاضبين، والطامحين أيضا.
تدفقت الرسائل من العواصم البيضاء، ولم يصطبر البعض على العودة إلى منصاتهم الرسمية؛ فتعجلوا التعليق من جوهانسبرج على هامش فعاليات قمة العشرين. سجل الأمريكيون غيابا متوقعا فى ضوء الموقف الخشن تجاه جنوب أفريقيا، كما غابوا عن قمة المناخ فى البرازيل لاعتراضات تخص الحدث بالأساس، ولا تستثنى المضيف أيضا.
وإذا وُضِع نهج الابتعاد فى الحالين، بالتوازى مع الانفراد بالقرار فى مسائل مصيرية؛ نكون إزاء نزعة انعزالية أحادية، لا تشترك فى الجماعى ولا تشرك أحدا معها فيما تعدّه فرديا خالصا، وهو ما يشى بانقطاع ممنهج ومقصود عن المنظومة الدولية القائمة، يُقابله إرساء لبديل من خارج فضاء التعددية القائمة على القواعد؛ وكأن ترامب يؤسس لحكومته العالمية، بالهدم والبناء المتزامنين، خطوة بخطوة ومدماكا بعد آخر.
فلسفة الرئيس الجمهورى ألا يذهب إلى أحد؛ إنما يستدعى الجميع إلى مساحته الخاصة، ويفرض شروطه الكاملة قبل أن تتحدد قواعد اللعبة. مخلص لسيرته التجارية، وأفكاره التى وثقها عن «فن الصفقة» فى كتاب بالاسم نفسه قبل عقود.
وله سابقة تجارب فى الولاية الأولى، استكملها من فاتحة نسخته الثانية بطرح أشد الاحتمالات صخبا ولا منطقية بشأن غزة، وبفائض الصدمة والإرباك فيها روّض نتنياهو وخصومه الحماسيين ببطء، وقفز على تفاوت الرؤى بين الفاعلين الإقليميين؛ فكان الاتفاق الذى أفضى إلى قمة شرم الشيخ ووقف الحرب على القطاع.
إنها الكيفية نفسها يُعاد إنتاجها بلا انقطاع، وتتكفل المزاجية وصورة الرجل غير المتوقع بإدخالها على الجميع فى كل مرة؛ لأنه لا نقطة واضحة تنتهى عندها اندفاعته الحادة؛ ليُعرَف من أية نقطة يمكن أن يبتدئ التفاوض أو يرحب بالاختلاف معه أصلا. وهكذا مضت أموره فى حرب الرسوم الجمركية، بالوتيرة نفسها فى النزاعات الخشنة والبيئات الساخنة.
وإذا عقدنا مقابلة نسبية؛ مع الفوارق الشكلانية والجوهرية طبعا، بين ما جرى فى غزة ويظل جاريا فى أوكرانيا؛ فالأقرب أن نتنياهو يوازيه دراميا الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فيما الطرف الأوكرانى بتعقيداته وتنوعه وفساده وأزماته يُقابل الجبهة الفلسطينية بكل اعتلالاتها القديمة والمستجدة.
كانت أطروحة «الريفييرا الشرقية» حجرا ثقيلا على صدر الفصائل والغزيين، وأعلى سقف يمكن أن تصل إليه أحلام اليمين المتطرف فى إسرائيل؛ وفى النهاية صار إلى خيار وسطى بين فكرتين متطرفتين: فخفّض توقعات تل أبيب من دون أن يمس مصالحها الحيوية، واستقطب الحماسيين بالفرصة التى تنطوى إيحاء على قدر كبير من التنازل، وانفراجة لم تكن متوقعة على الإطلاق.
وبالمشاكلة؛ فإنه يُلاقى موسكو عند الذروة ليهبط بها إلى ما يُلبى متطلباتها الأساسية، على أن يدوس على كييف قبل أن يسحبها للأعلى، فتتنفس الصعداء وتشكر الظروف على قليلها المتاح.
الإغراء تقنية ضرورية وفعّالة مع الأقوياء، تُذوّب رواسب التوجس، وتُنحِّى فكرة العداء عن الطاولة، بما يُؤسِّس لمسار يتقبَّل فيه المُتقدِّم ميدانيًّا شيئا من التراجع النسبى عن أهدافه المُعلنة؛ لأن الدفع لذلك لم يَعُد ناشئًا عن رغبة فى الوصاية والإذلال، ولأنَّه لا يشُكّ فى نوايا الوسيط، وإقباله على التفاهم من مُنطلَق الندية والاحترام. أمَّا الضعيف؛ فلا حاجة إلى احتوائه وترضيته، بل يكفيه أن يكون منظورًا، ثم أن يجد من يَمُدّ اليد لإخراجه من ظُلمة حفرته العميقة.
المأزق الأكبر من نصيب أوروبا، والتناقض أيضا. ربما كانت القارة العجوز مضطرة لاستقلال القطار الأمريكى بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها ارتاحت لعلاقة التبعية الطفيلية ولم تبذل أى جهد تالٍ للاستقلال عنه.
ينحاز ترامب للأقوياء عموما ولو كانوا من الخصوم؛ لكن لندن وباريس كانتا مع نتنياهو فى غزة، وضد بوتين فى أوراسيا، قبل أن تصححا موقفيهما من الأولى جزئيا فى الشهور الأخيرة، وما تزال برلين على تناقضها بين احتلال مقبول فى فلسطين ومرفوض فى أوكرانيا.
ليست المسألة مبدأية على أية حال؛ وفى حسابات المصالح من الطبيعى أن يتراجع الأقل بريقا، ويتقدم القادر على إملاء إرادته، وخلخلة الصفوف المتضامّة بانتهازية ذاتية أو روابط جماعية هشّة.
على أن ترامب ليس رومانسيا لدرجة التوهم بحل العقدة المستحكمة بين الشرق والغرب، السابقة فى تجليها الراهن على عودته للمكتب البيضاوى، وفى جوهرها العميق على انشغاله الشخصى بالشأن العام وتفكيره فى اقتراف السياسة والحُكم.
وهو يعرف بالبديهة أن خطته غير قابلة للتطبيق فى حالتها الخام، أو ربما لا يريد الوصول إلى حذافيرها من الأساس. لديه مصلحة مباشرة فى وقف الحرب لقسمة غنائمها مع المنتصر والمهزوم، وغير مباشرة فى استقطاب روسيا بعيدا عن الصين، وتعكير مياهها بأكثر مما هى عليه مع أوروبا.
وبذلك؛ لا ترتدع الأولى عن التحرُّش أو أن تظل شوكة فى الحلق، ولا تفكر الثانية فى التحرر أو الابتعاد عن مدار واشنطن، فضلا على أن تزداد قابليتها للاستتباع والتوجيه، وفرص الأمريكيين فى الوصاية على قرارها، واستحلابها من دون التزامات حقيقية أو أفق معلوم.
كان اجتماع جنيف، الأحد، محاولة متأخرة للحوار بين أعضاء فريق واحد. علم الأوروبيون بالخطة من الإعلام كأى طرف غريب، وربما الأوكرانيون أيضا، فيما تترجح احتمالية أن موسكو اشتركت فى صياغتها عبر اجتماعات حيّة وقنوات اتصال نشطة على الجانبين.
صحيح أن نائب الرئيس الأمريكى، جى دى فانس، نفى أن تكون نتاج ورشة ثنائية أو أنها مجرد «أمنيات روسية»، كما قال ناقدوها فى الكونجرس وخارجه وإلى ما وراء الحدود؛ إلا أنه لا مجال لافتراض المغامرة بتفجير المفاجأة فى وجه بوتين، دون تنسيق أو إخطار مسبق.
فكأن ترامب انتزع الحرب من أصحابها؛ ليتخطى دور الوسيط الضامن، ويقرر بمفرده أن ينوب عن المقاتل والمفاوض والممولين أيضا؛ وقد استثنى نفسه من حزام الأعباء قبل شهور، وفرض على أوروبا أن تسدد الكلفة فى خزانته بموجب صفقات تسليح عادية، لا ترافقها أية تسهيلات أو مزايا تفضيلية.
رحَّب زيلينسكى تاليا بجولة المحادثات الموسعة فى سويسرا، زاعما النجاح فى تضمين نقاط بالغة الحساسية ضمن بنود الخطة وتفاصيلها. تحدث عن الحاجة لجهد أكبر، وعن ضرورة أن تدفع روسيا ثمن الحرب.
أمَّا التغيّرات غير المُعلَنة حتى الآن؛ فتدور غالبا فى نطاق شكلانى لا جوهرى، وعلى السفاسف والتفاصيل الهامشية أكثر من المبادئ والعناصر المحورية.
الطرح المُساق أن تحتفظ روسيا بالأراضى فى حوزتها، والاعتراض على الاعتراف بالحيازة أو تثبيتها قانونيا.
غير أن الورقة لم تطالب كييف بإقرار التنازل فعلا، كما لم تُسقط مبدأ المسؤولية عن الضرر، عبر تقسيم الأصول المجمدة إلى نصفين: يُنفق الأول على الاستثمار فى الإعمار بحصة 50 % للولايات المتحدة، ويُوَجّه الثانى إلى مشروعات مشتركة بين موسكو وواشنطن.
أوروبا لم تعترض على غرابة الاقتسام الأمريكى للمنفعة الزهيدة مع بلد دمّرته الحرب؛ ولعل التحفظ من جانبها على أن تستعيد صاحبة الودائع نصفها تقريبا، أو لا تكون منصة التجميد شريكا فى بأى حظ فى توزيع الغنائم.
ويُحمَل المدنّس هنا على ريح المُقدَّس وبلاغته الخادعة؛ بزعم البحث عن حقوق الضحية واستيفاء تكاليف مداواتها من الجناة، وهو ما لم تلتفت فيه الأنظار مُطلقًا باتجاه غزة، ولها حكاية لا تختلف فى حرفٍ واحد، ونكبة مُضاعَفة عشرات المرَّات عمّا أصاب مثيلتها الأوروبية.
وإلى ذلك؛ فلم يلتفت الغرب الغاضب إلى تضمين «مجلس السلام» فى البنود المقترحة، بذات الكيفية الغامضة مع طرحه ضمن خطة العشرين بندا بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
لا ملاحظة على انفراد ترامب بإدارة الصراع، سواء صار به إلى الحل أم أبقاه مجمدا حسب الظروف الموضوعية والتفضيلات الشخصية، ولا أنه يُحِلّ نفسه بديلاً عن النظام الدولى، ويُجنّب دولتين أوروبيتين دائمتى العضوية فى مجلس الأمن تمامًا، بما يسلبهما فاعلية «حق النقض»؛ ولو انتهت الأمور إلى ما لا يناسب رؤاهما أو يتضادّ مع مصالحهما الفردية والجماعية.
بل إن المسار الذى ضغط العرب لإنتاجه فى الحالة الأولى، عبر الاحتكام للنظام الدولى وتمرير ترتيبات الاتفاق و»قوّة الاستقرار» المُقتَرَحَة بتفويضٍ أُمَمى؛ لم يُطرَح أوروبيًّا؛ ولو لإبراء الذمّة، أو على سبيل اطّراد القاعدة، والنمذجة القانونية فى النظر للصراعات، وإنتاج تسوياتها تحت سقف الشرعية القائمة على القواعد؛ فتُرِكَ لواشنطن أن تكون وسيطًا وضامنًا، بلا شراكة أو قيد، وزاد الأوروبيون بمطالبتها أن تُسبِغَ الحماية على كييف، بما يُشبه صيغة المادة الخامسة من ميثاق الناتو.
العالم غير مثالى، ومؤسساته الناظمة للعلاقات الدولية أكثر تجليات انحرافه بؤسا ورداءة؛ لكنه التردّى المحكوم بأعراف ملموسة، والمظلمة المُؤطّرة بحدود يُمكن استيعابها؛ ولو تعذّر التسليم بها عن اقتناع كامل.
وعلى هذا التصوّر؛ فُهِمَت المُقاربة فى غزة باعتبارها أفضل المُتاح، أو السيئ بين خيارات كلها أشد سوءًا. وليست إسرائيل أقوى من روسيا، ولا أقدر على إرباك الخصوم والحلفاء وتعريض السلم الدولى لامتحانات قاسية. وإذا كان مفهومًا أن يُوحِّد ترامب مقاييسه لحسابات خاصة أو توازنات قلقة؛ فالغريب أن يُفرّق الآخرون بين الحالات، بالرغم من كل ما فيها من تماثلات خفية وظاهرة.
خُدِعَت أوكرانيا، أو استُدرجت، وتدفع اليوم أثمان الوعود الوردية بعدما خذلها الواعدون. استقرّت ترتيبات ما بعد الحرب الباردة على أن تكون حزام فصل عريضًا بين روسيا وأوروبا.
وطمعت الأخيرة، وحدها أو تحت مظلة الحلف الأطلسى، فى التمدُّد ومحاصرة الدب العجوز من كل الجهات المُمكنة. تقف كييف على أبواب الاتحاد الأوروبى منذ سنوات، وبعدما داعبها حلم الناتو لم يعد متاحًا النوم على وساطته ولا اليقظة إلا على تبدُّده.
تلك حصيلة السياسات الغربية؛ بالضبط كما أن مأزق فلسطين اليوم نتاج عقود من ظُلم الأطراف نفسها، والعودة الخافتة إلى المعالجات السياسية والإعلامية الناعمة، لن تُغيّر الماضى بأثر رجعى، ولا تُبدّل شيئًا من تركيبة الحاضر الثقيل.
ترتعب أوروبا من قوننة القوّة فى حل الإشكالات العالقة، ولديها هواجس مُستقرّة فوق تراكمات طويلة من الاحتراب البينى، ومنطق زحزحة الحدود أو تغييرها تحت ظل السلاح.
والبديل المطروح من جانبها اليوم أن تتجمّد الجبهة على خطوط التماس الحالية، دون اعتراف بالسيادة الروسية على الأقاليم المُحتلة، ومع تحميلها كُلفة إعمار ما دمّرته الحرب. والملكية مع القوى الكُبرى لا حاجة بها إلى حديث الشرعية، وتكفيها الممارسة التى بدّلت كثيرًا من الخرائط طيلة قرون وعقود، وإلى وقت قريبٍ.
وإن كانت موسكو مُطالَبة بالإنفاق على أوكرانيا بعد التهدئة؛ فالسياق ذاته يتوافر على بُعد ألفى كيلو متر تقريبا فى غزة. الشريط الضيق الذى تقتطع إسرائيل ما يزيد على نصفه، وتتلكأ فى الانسحاب إلى خطوط نهائية، ستمنحها حزامًا بمئات الأمتار من ضلعيه الشمالى والشرقى، مشمولاً بإقرار حقها فى الوصاية الأمنية؛ وإن من وراء الخط الفاصل، واستدعاء قوّة دولية لضمان أمنها بعد كل ما جنته على الآمنين العُزّل.
تخسر أوروبا فى امتحان المبادئ، ولا تكسب فى سباق المصالح للأسف.. ذلك أنها تُقيّم المتشابهات بمعايير مختلفة ومتناقضة، لا تُبادر بالدفاع عما تقول إنها تعتنقه من قِيّم وقناعات، كما يتعذّر عليها أن تُحرز الأهداف من موقع الدفاع. منعت روسيا من البطولات الرياضية والمسابقات الفنية؛ لكنها تحتضن منتخب إسرائيل وفِرَقَها بلا حرج.
لم تكن طرفًا مباشرًا فى ترسيم خرائط أوراسيا التى تأسى على تحريفها، فيما تزهد الاجتهاد لاستخلاص ما تبقى من خريطة فلسطين، التى كانت فاعلاً أصيلاً فى ضياعها. تُطالب موسكو بإعمار أوكرانيا بعدما ورّطت الأخيرة، ولا تتطلّع إلى المثل من تل أبيب بعد كلّ ما لعبته من أدوارٍ فى تمكينها وإعلاء سرديتها المُلفقة على حقوق الضحايا وروايتهم العادلة.
يُقدّم ترامب صورة فجّة وغير مُعتادة فى السياسة الدولية؛ لكنه تظهير للمشكلة الموروثة وليس خالقًا لها من عدم. كاشف لا مُنشئ، وحضوره، على كل ما فيه من صخب واستعراض وموازين مائلة، يُعرّى غياب الآخرين بملء إرادتهم؛ والعجز صورة من صور الاختيار. أن تصمت على الشر فهو كلام بالشر، وتمرير المظالم بالحياد نسقٌ من الانحياز للظلم؛ طالما كنت مُقتدرًا على العكس.
فلسطين وأوكرانيا قضيّتان؛ لكن الخطة واحدة. مُقاربة ترامب للمسألتين نابعة من الفلسفة نفسها، وردود الآخرين عليه يجب أن تنضبط بتلك الحقيقة، وأن يسترعى انتباهها ألا تنزلق إلى التناقض الفج، أو تبدو كمن يبيع السلعة نفسها بسعرين مُختلفين، وهو ما يثبُت بوضوح فى حق النظرة الأوروبية للأسف.
رخاوة الدائرة القريبة من واشنطن إرهاق للدوائر البعيدة بما يفوق أثقال الفاعل الأصلى. ترويض بالمماثلة والاعتبار؛ فإذا كان الحليف ضعيفًا وخانعًا؛ فعلى أى شىء يُمكن أن يُراهن المُختلفون ويتساندوا؟!
وأن تستفيق أوروبا عندما تأتيها الطعنة من أوراسيا؛ لحُجّة على مناماتها فى بقيّة الأرجاء، وخصم من الجدية والبراءة فى الحالين. إن كانت قادرة على الاعتراض؛ فلا منطق للقبول المُهادن على طول الخط، وإن كانت تعرف أنه لا قيمة للغضب؛ فليس من الحصافة أن تُعسِّر الحلول وترفع التكاليف على الخاسرين، انتصارًا لمخاوفها أو غاياتها الخاصة.
التجميد دون اعتراف بالسيادة لا ينتصر للمبدأ ولا ينهى الاستعصاء. فضلا على أنه يُرجئ الصدام ولا يمنعه؛ كأنه يُوارى الحرب وراء يده الممدودة بالسلام اضطرارًا. ترامب مُتّسق مع الذات، وفردانيته ساعية إلى الحسم لا المناورة. وهو يُرسى مبدأ جديدًا فى المقاربات الدولية، ما تزال أوروبا بعيدة عن استيعابه، وغير راغبة على ما يبدو فى مُناطحته.
ما يرُدّ الأزمة الدولية الراهنة فى تصوّرى إلى مدارها القديم، لا فى روسيا أو الصين والشرق الأوسط. أوروبا أمام امتحان استرداد نفسها من فضاء ما بعد يالطا وخطة مارشال ومظلّة الناتو، ومن الإلحاق الفجّ على أفكار واشنطن وأهدافها؛ لتعود كُتلة ضميرية وازنة، أو وريثا لمذهب «عدم الانحياز»، وهو أشد ما يحتاجه عالم اليوم.
ليس بإمكانها أن تُنافس على الصدارة؛ إنما لا ينبغى أن تنسحق بين المُتنافسين. وتناقضاتها مع الصين وروسيا بعدما كانت عميقة وحادّة، لم تعُد أكبر الآن من التناقض مع أمريكا فى طَورها الجديد. والحال؛ أنها تُسدّد ولا تُحصّل، وتتحمل الملامة عن الأمرين بين قوىٍّ لم تردعه وضعيف لم تؤازره، وازدواجية لا تغادرها إلا لتقع فيها مُجدّدًا.
أوروبا أورثت العالم اختلالاته الراهنة؛ بالحروب التى افتعلتها وعجزت عن إنهائها، وبالقيم التى تستّرت بها وقتما كانت تخونها، وعجزت عن حراستها بعدما صارت فى أشد الحاجة إليها. غادرت الماضى ولم يُغادرها تمامًا، وعليها أن تُفتّش عن الانعتاق من رواسبه وتأثيراته القائمة.
التحرُّر سياسيا وأمنيًّا، والبُعد عن المواءمات التى لا مُبرّر لها أو طائل من ورائها، وعدم التطوّع بانحيازات قد لا تكون مُضطرّة إليها، أو بالاستنابة عن فاعلين آخرين فى أدوار لا تُشرّفها ولا تحقق غاياتها.
الاختبار فى مُغادرة الأفق الأمريكى فى أوراسيا كما يُغادرها، وفى العودة إلى الاتساق فى نظرتها للشرق وغيره، والعمل على أن تكون حاضنة للأفكار والمُثُل التى سقطت تحت حذاء النظام القائم، وتتعرّض لتهديد بالسحق مع أى بديل جديد.
أوروبا كانت المُشكلة؛ وبإمكانها أن تكون جزءا من الحل، أو على الأقل أن تُبشّر به، وتُلوّح للآملين فيه ولو من بعيد.